النفس التأملي في رواية «رامبو الحبشي» لحجي جابر
بقلم الأستاذ: مجدي دعيبس - كاتب أردني المصدر: القدس العربي
على مدار واحد وعشرين فصلا، يفرد حجي جابر روايته الموسومة «رامبو الحبشي»،
الصادرة عن دار منشورات تكوين في الكويت عام 2021، وهي ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» لهذه الدورة.
تفوح من الرواية أجواء الحبشة وهرر وعدن وزيلع والصحراء الدنكالية في القرن التاسع عشر، وتبدو في التفاتة سريعة للوراء كليلة من ليالي ألف ليلة وليلة؛ الألوان والروائح والسرد الحكائي والمصائر المحزنة للشخصيات، تحيلنا إلى حيلة من حيل شهرزاد، في ضخ التشويق والإثارة في حكاياتها، فيما الملك شهريار- وهو القارئ في هذا الموضع- يتكئ على وسائد من الصوف الفاخر، ويرخي سمعه لشهرزاد وهي تقدم وتؤخر وتحلل وتستحضر التاريخ، وتضخ الخيال، وتطرح مسائل معرفية مهمة على مستوى طبيعة الصراع وحدوده في المنطقة، في زمن الملك والإمبراطور مينيليك.
ما بين السارد العليم والسارد بضمير الأنا، يأخذنا حجي جابر إلى هواجس ألماز الفتاة الحبشية، وتقلبات مزاج الشاعر الفرنسي آرتور رامبو، وأحقاد الخادم جامي. تتمتع هرر بخصوصية دينية وثقافية وأسوار عالية، وبوابات ضخمة توصد في وجه غير الهررين من الأوروبيين مثل، رامبو وأهل السهل مثل، ألماز والأشتات، مثل جامي. على الرغم من كل هذه القيود وجد كل واحد منهم طريقه إلى المدينة، وأقام فيها متحديا هذا الواقع الصارم.
تقع ألماز بائعة القات في غرام رامبو، الذي تعمد الكاتب كتم صوته وإبراز صوتها، وهذا انتصار للمهمشين، الذين يهملهم التاريخ ويذكر تفاصيل مملة عن المشاهير من أمثال رامبو، ولعل مفاتيح شخصيته تساعدنا على الولوج في عوالم الرواية وفهم باقي الشخصيات. إنسان متقلب المزاج، متعلق بأمه وأخته، قادر على التحكم بالأشخاص الذين حوله وتسخيرهم لخدمته وخدمة شهواته، مسكون بروح المغامرة والإثارة، وهو نوع من الإدمان على ضخ الأدرينالين، وما السفر والترحال والاختلاط بثقافات مختلفة، سوى سبيل من سبل ركوب الغيب والمجهول، بما ينطوي عليه من مخاطر الطريق وعدم قبول الآخر المختلف. عندما يكتشف أن ألماز مسيحية، يصيبه الفتور تجاهها، حيث لم تعد العلاقة الجسدية المحتملة بينهما تنطوي على أي خطورة ممكنة.
ولعل تعاطفنا مع ألماز وقصة الحب الفاشلة التي مرت بها، كانت وراء هذا الانشداد إلى مجريات الأحداث. جامي يحب ألماز وألماز تحب رامبو ورامبو يحب نفسه. لعبة الحب تدور في حلقة مفرغة وتستمر في الدوران العبثي، وغلالة سوداء تحجب بصيرتهم من النفاذ لترى ما يدور في وجدان الآخرين، ربما هي لعنة الأمل ما دفعهم للاستمرار في هذه السلسلة من خيبات الأمل. حتى رامبو بأنانيته المعروفة ناله من هذه الخيبة بقدمه التي بُترت وتبخر حلمه بالثراء السريع، وتجارته في البن التي بارت مثل باقي محاولاته الفاشلة.
أصر الكاتب على استهلال كل فصل بنص من نصوص رامبو الشعرية، وهي من ترجمة كاظم جهاد، كما هو مثبت في صفحة المعلومات. هذه النصوص التي تنزع إلى التأمل في مجملها جاءت لتقدم الفصل بروح شعرية هائمة كأن يقول: «يا للبؤس! الآن يقول: أعرف الأشياء، ويسير مغمض العينين، مصموم الأذنين»، أو أن يقول: «يا من كنت هنا.. ستمضي إلى كل مكان». أو «ستغمضين عينيك، لكيلا ترى، عبر الزجاج، تكشيرة الظلال المسائية، هذه المسوح الشرسة، هذه الدهماء، من شياطين سود، وذئاب سود». وقبل أن نخوض في المقاطع التي تتزاحم فيها الأفكار الفلسفية، لا بد من المرور على شخصية بائعة القهوة، وهي التي اعتادت صف فناجين القهوة بعد ملئها، وكأن هناك من يشاركها الجلسة، والحديث والحياة، وهي إشارة إلى الاغتراب الذي يشعر به الإنسان وسط محيط لا يلتفت إليه، فيصنع عالما موازيا يشعر بالرضا تجاهه، ويحرك مفرداته كما يحب ويشاء. هذا الانكفاء على الذات حالة مؤلمة يدخل فيها الإنسان عند عدم قدرته على التأقلم مع واقع مر ومعقد.
حرص الكاتب على بث عبارات تأمليه تتماشى مع هواجس ومعاناة الشخصيات، وكأنه يُخرج الحدث من عباءة الخاص إلى العام. تقول ألماز: «كل شيء يولد صغيرا ثم يكبر، إلا الحزن، يمشي في اتجاه معاكس، هذا درس الحياة الأبدي حيث لم تستثن أحد لتعلمه إياه».
تقول ألماز في عرض هواجسها عن الحب: «الحب يحدث بلا مبرر. هل ثمة ما يبرر البرق عندما يقصف السماء فجأة؟ هكذا هو الحب، شيء وحشي يقصف هدوءك ويهز استقرارك، يبلل قلبك، ويعصف بقوتك، دون أن تتمكن من القول إنه حدث لهذا السبب أو ذاك».
ثم تقع في حالة من الحيرة والسخط، بسبب نظرتها لجسدها وطبيعة العلاقة معه، حسب التربية والتنشئة التي سادت في ذلك الوقت. تقول «قد يكون الغرابة لو قلت إني لا أحب جسدي، علاقتي به منقطعة. علمتني أمي كيف أفعل ذلك، وهي تحذرني منذ نشأتي المبكرة، كيف يجب أن أدفنه، أطويه وأخبئه جيدا فلا تطاله يد، ولا حتى يدي. علمتني كيف أنساه لينساه غيري، وكيف أتعامل معه على أنه عبء، مجرد عبء كبير، عليها وعلي وعلى القبيلة بل والبشرية بأسرها». هذه العلاقة المربكة مع جسدها تحفز فيها الشعور بالخيانة عندما تكتشف العلاقة الشاذة بين رامبو وجامي، لا تشعر بأن رامبو وجامي خاناها، بل جسدها الذي فعل. تقول «ما آلمني حقا ليس أن يحدث ذلك بين رجلين، كل واحد منهما يعني لي شيئا بطريقته، كلا، ما آلمني ويؤلمني، أني كنت دميمة إلى الحد الذي يمكن لرجل أن يغريه آخر، ولكن ليس أنا. كيف تصالحت يوما مع هذا الجسد؟».
حرص الكاتب على بث عبارات تأمليه تتماشى مع هواجس ومعاناة الشخصيات، وكأنه يُخرج الحدث من عباءة الخاص إلى العام. تقول ألماز: «كل شيء يولد صغيرا ثم يكبر، إلا الحزن، يمشي في اتجاه معاكس، هذا درس الحياة الأبدي حيث لم تستثن أحد لتعلمه إياه». وفي موضع آخر يقول: «لا شيء يقتل الأحلام مثل تحققها، سواء بالحصول عليها، أو بشيوعها، فلا تعود ثمة فرادة لأصحابها». وقد يتطور هذا المنحى التأملي إلى بلورة نظرة فلسفية في الحياة «الخطأ ليس خطأ دائما، ففي بعض الأحيان قد يكون خلاصا من صواب مميت.
شاق على الإنسان أن يسير طوال حياته في طريق الصواب، لا يصل الواحد إذا سلك الطرق المستقيمة وحدها وعلى الدوام. يحتاج لأن يخطئ من وقت لآخر بإرادته أو دونها. لأنه إنسان، لأن الخطأ يطري الحياة، والحياة الصائبة دون تبدل هي حياة قاسية. ونفس تملك أن تأثم، خير من أخرى منقادة رغما عنها أيا تكن الوجهة». قالوا: ما أسوأ العيش لولا فسحة الأمل. ولكن ماذا لو أصبح هذا الأمل عبئا عليك؟ يقول جابر: «أسوأ شيء هو التوقع، عندما تنتظر شيئا بكليتك، ولا تترك مجالا ولو ضئيلا للشك بالأمل».
حجي جابر روائي إريتري. صدر له أربع روايات منها رواية «سمراويت» الحائزة جائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2012، ورواية «رغوة سوداء» الفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الخامسة عن فئة الروايات المنشورة عام 2019.