ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الثامنة والأربعون
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
حملة التشهير:
هنا بدأت الإذاعة الأرترية والصحف، بشن حملة تشهير ضد المملكة العربية السعودية
والمسؤولين فيها، وعلى رأسهم الأمير تركي الفيصل مدير المخابرات السعودية.
ثم كانوا يصفون التنظيمات الأرترية بأنها تسير من قبل المخابرات السعودية! بل تعدى الأمر إلى التهجم الشخصي على المسؤولين الكبار، فما كان من التنظيم الموحّد إلا أن أصدر بياناً عنوانه "المملكة العربية السعودية وأرتريا" كان هذا البيان رداً على أسياس أفورقي الأمين العام للجبهة الشعبية، والذي ترأس الحكومة المؤقتة.
وإليكم بعض الفقرات من هذا البيان (جاء في تصريحات نسبت إلى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير أرتريا، ولم ينفها - هذه التصريحات التي تقول (إن المملكة العربية السعودية ودولاً عربية أخرى تثير النعرات القبلية وتقف ضدّ استقلال أرتريا.
إن مثل هذه الأقوال لا تصدر إلا من كل جاحد مكابر، ولا تتفق والحقيقة التي يتجاهلها مصدر هذا التصريح مما يتوجب معه تبيان الحقيقة.. فحكومة المملكة العربية السعودية دأبت على دعم قضية شعب أرتريا، منذ عهد مؤسسها الملك عبدالعزيز... كما ساندت القضية الأرترية في كل المحافل الدولية منها والإقليمية، وكانت وراء القرارات التي صدرت بحق القضية الأرترية على مستوى مؤتمرات القمة العربية الإسلامية.. ولم يبق سراً إذا كشفنا إن حكومة المملكة العبية السعودية كانت سباقة في تقديم العون، وكأن أول مبلغ دخل خزينة جبهة التحرير الأرترية كان من المملكة... كما قدّمت تسهيلات لاستخدام أراضيها وموانئها الجوية والبحرية لعبور مئات المقاتلين إلى ارتريا، ثم أعطت السلاح والمال، فمن أين سافر أسياس أفورقي في الستينات؟ ومن نقود من سافر إلى الصين الشعبية؟ حيث تدرب هناك؟ والذي أصبح أميناً عاماً للجبهة الشعبية بعدها؟ إنه أتى من بكين إلى السعودية وأكل من خيراتها وبكل أسف يتناسى هذا العطاء.
والمملكة احتضنت مئات الألوف من الأرتريين، وأتاحت لهم فرص العمل والتعليم لأبنائهم، وميزّتهم عبر أوامر سامية من دون الوافدين إليها خلال الثلاثين عاماً الماضية، وما تزال تخرّج من جامعاتها الكثير من الأرتريين، ثم خصصّت لهم مبالغ طائلة لتعليم أبناء اللاجئين عبر جهاز التعليم الأرتري المستقل.
جبهة التحرير الأرترية
التنظيم الموحّد
وتشابكت الأمور وازدادت حدة، وجاء الوفد الأرتري إلى دمشق وكان مؤلفاً من محمد سعيد ناود رئيس اللجنة التنفيذية الجديد، وعضوية كل من الأخوة محمود اسماعيل - حسن عثمان كنتباي وعمر جابر وحمد عيشه مسؤول مكتب التنظيم الموحّد في دمشق والذي عيّن ليخلف الذين انضموا تحت راية الجبهة الشعبية.
وبعد اللقاء بالمسؤولين في القيادة القومية وعلى رأسهم الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي، الأستاذ عبد الله الأحمر، ذهبنا سوية إلى مدينة القنيطرة، وأريتهم ما فعله الصهاينة من تدمير لهذه المدينة، ثم سافر الوفد من أجل متابعة عمله.
وأثناء دردشة مع الأخوة محمد سعيد ناود ومحمود اسماعيل وحسن عثمان.
قال لي ناود: كانت مهمتنا الأساسية للزيارة، هي إعادة وحدة التنظيم والتخلص من رواسب الحركة الأنشقاقية التي قادتها العناصر المستسلمة للجبهة الشعبية بقيادة صاحبك صالح اياي وزميله الذي انشقّ علية علي برحتو.
قلت (يا أخ محمد سعيد أخشى أن تذهبوا مثل صاحبي في يوم من الأيام، ولقد سمعت أنكم تودون الذهاب والأنضواء تحت راية الشعبية في المستقبل؟).
يا أبا سعدة دائماً تطرح هذا الكلام، وأنا أقول لك، لن نذهب وللمرة الألف، إلا ضمن تنظيمنا، وسوف نكون معاً. ثم غيّر الموضوع وقال: إن الأخ حمد عيشة سوف يكون مسؤول التنظيم في دمشق، وعليه فهو يريد رعايتك وحمد عيشة كان مقاتلاً في الجبهة وأعرفه من الميدان.
قلت لهم: كيف كانت جولتكم في السعودية؟
وردّ محمود اسماعيل: جيدة، إنك قطعت الحديث، وتابع حديثه، قلت أننا سنذهب إلى الشعبية أفراداً.
قاطعته وقلت له: اسمعوا يا إخوان، إن التجارب معكم علمتنّي الكثير، ثم إنكم تعملون في السياسة، ومن يعمل في السياسة يفعل كل شيء، وعليه أن يتوقع كل شيء أيضاً، في السياسة صديق اليوم يمكن أن ينقلب إلى عدو، وعدو اليوم يمكن أن يكون صديق المستقبل، فما الذي يدريني بأنكم لن تبيعوا من تبقى من هذا التنظيم وتمشوا إلى الشعبية؟
عفواً.. لم أقصد بكلمتي هذه شيئاً إنما هي زلة لسان أقصد هل هناك نية للتفاهم مع الشعبية؟
نعم.. لكن بشروطنا! قالها محمد سعيد ناود وبقوة أما حسن عثمان فلم يتكلم وكان مستمعاً.
وقال ناود: كانت مهمتنا تشمل إعادة علاقاتنا بالمملكة العربية السعودية، على ما كانت عليه في السابق، وتمّت هذه الخطوة بنجاح تام، حيث بدأت المملكة تتعامل مع القيادة الجديدة، وقد سلّمتها المكاتب وقامت بتسفير من عبثوا من الشعبية، والتقينا بالأمير تركي الفيصل بن عبدالعزيز وأكدّ لنا أن موقف المملكة ثابت، وهو إلى جانب المصلحة الوطنية وأنهم نصحوا الجبهة الشعبية، الوجه الآخر للحكومة الأرترية المؤقتة، نصحوها مراراً بضرورة قبول مبدأ المصالحة الوطنية مع باقي الفصائل الأرترية، ثم قال الأمير تركي لنا: إن المملكة قامت بإبلاغ دول الخليج، وطلبت منها استقبال وفد من جبهة التحرير الأرترية التنظيم الموحّد، من أجل الضغط على الجبهة الشعبية، وذلك لمصلحة أرتريا والشعب الأرتري.
وتابع ناود يقول: وقال لنا الأمير تركي: بعد أن تتم المصالحة المطنية فالمملكة مستعدة للبناء والتنمية في ارتريا المستقلة، وأكدّ لنا: إننا سوف نستمر في دعم التنظيم الموحّد.
بعد هذا الشرح قلت لمحمد سعيد ناود: أخبرني أحد أصدقائي، أنكم التقيتم بعدد من الفصائل الأرترية، هل كانت هذه الفصائل متواجدة بالمصادفة في السعودية أم بدعوة من الحكومة السعودية؟
قال محمود سعيد: إنها كانت مدعوّة من قبل المملكة، وقد انتهزنا وجودها وعقدنا معهم لقاءات مكثفة، وهذه اللقاءات أسفرت عن اتفاق حول برنامج مرحلي، يجمع هذه الفصائل. يا أخ أحمد نحن واكبنا مسيرة الثورة سوية، وأنت تعرف بلادنا أكثر منا، سرنا سوية إلى أن اندحر الجيش الأثيوبي وهزم، إن مرحلتنا هذه المرحلة القبلة هي مرحلة أخطر من المرحلة الماضية.
وافقته وقلت له: نعم... يجب تثبيت الاستقلال الوطني، وخاصة انكم أمام جملة من التحديات لا يستهان بها، ولهذا يجب أن تتفاهموا مع السلطة الموجودة في اسمرا، كذلك عليكم أن تساهموا في وضع الأساس لدولة ارتريا المستقلة، وبرأيي أنا إن التفاهم مع الحكومة الأرترية المؤقتة ضروري، ولو كانت هذه الحكومة هي الوجه الآخر للجبهة الشعبية، لكن لي سؤال هنا (هل سيستقبلونكم كتنظيم أو كأفراد؟).
أجابني محمد سعيد ناود: لماذا تلحّ كثيراً على هذا؟ لماذا تصرّ يا أبا سعدة على معرفة المستقبل؟
أجبته: إنني لا أصرّ على شيء، فأنتم مخيرون بما تفعلونه لكن أنت تعرف، وأنا أعرف، والكل يعرف، أن الكلام شيء والوعد شيء والفعل شيء آخر.
فتكهرب الجو وصمتنا قليلاً، إلا أن محمد سعيد بهدوئه قال: (نعم.. هذا صحيح وأرجو أن يكون هذا مترجم فعليا لا كلاماً).
وانتهى الكلام هنا، وسافر الوفد.. وتمر الأيام ويتصل بي الأخ حسن عثمان من جدة وقال: أريد أن أطلعك على بعض التطورات.. إن المملكة العربية السعودية تسعى من أجل تحقيق المصالحة الوطنية، واليوم تمّ استدعائي إلى مكتب الأمير تركي وقابلني مسؤول المكتب عبدالله باهبري، وأنت تعرفه جيداً، قال :إن المسؤولين في المملكة بادروا بإبداء رغبة المملكة العربية السعودية، من أجل فتح حوار بين الجبهة الشعبية وبيننا، للوصول إلى اتفاق وطني يضمن توحيد الجهد الأرتري من أجل استكمال انجاز التحرير، وإعلان سيادة واستقلال ارتريا.
وهذه المبادرة كما قال لي حسن كنتباي - تمّت الاستجابة لها من قبل الجبهة الشعبية، أي قبلت بمبدأ الحوار، أجبت مقاطعاً: (إن شاء الله) وتابع حديثه قائلاً:(لكن بشرط أن يتم الحوار في اسمرا) وأعتقد أن هناك شروطاً تفصيلية، سأطلعك عليها عندما أعرفها.
وماذا كان ردكم يا أخ حسن؟
قمنا بإبلاغ المملكة باستعدادنا، أيضاً لمبدأ الحوار الجاد، دون أي شروط سوى شرط التفاوض كتنظيم.
وقلت لحسن مقاطعاً: أرجوك أن تعيد الجملة الأخيرة.
فضحك حسن بأدبه المعتاد وقال: (سوى شرط التفاوض كتنظيم، هل أنت مرتاح؟ يا أبا حميد؟ واليوم سوف يصل، محمد سعيد ناود إلى جدة من الخرطوم، ليناقش بعض التفاصيل مع الأخوة السعوديين، هذا ما عندنا يا أخ أحمد فما هو رأيك؟.
يا أخ حسن! أنت تعرف رأيي، والله إذا مشت الأمور بهذا الشكل، تكونون قد حققتم نصراً، وتكون الجبهة الشعبية صادقة في لملمة الشمل.
وانتهت المكالمة عند هذا الحد.
وفي صباح اليوم التالي عاد الأخ حسن واتصل بي وقال: (إن محمود اسماعيل سوف يسافر إلى اسمرا ليقوم بترتيبات الحوار).
وبعد يومين اتصل حسن وقال: سافر اليوم محمود اسماعيل إلى اسمرا لترتيب الزيارة وبدأ الحوار وقال لي: (ما رأيك لو أتيت إلى هنا)؟ قالها وهو صادق، أنه يريد أن نكون معاً، ولكن هناك أشياء تقال وهناك أشياء لا تقال، إن بعض الأفراد لا يريدون وجودي وقد يكون هذا رأيهم، أو أن هناك من ضغط عليهم، وهذا الاعتقاد، وهو الأكثر احتمالاً.
قلت (يا حسن... إن هذه الأيام سوف تحدّد مستقبلكم السياسي، وأرجو ألا يكون قد حُدّد مسبقاً، وأنت ذكي وتعرف ماذا أعني. لكن ذكّر إنما الذكرى الذكرى تنفع المؤمنين، الشعبية هي الشعبية!
فأرجو أن تضع هذا في الحسبان. وبعد لحظة صمت وقال: (خير... وانتهت المكالمة).
كنت أعرف حسن كنتباي تماماً، وقد شعرت من خلال نبرات صوته، وخاصة عندما قال (خير) إن هناك ضغطا يمارس عليهم، وإن كان الكثير من أعضاء القيادة مستعجلين للعمل تحت ظل الشعبية.
كان يريد أن يقول لي أشياء لكنه فضّل الصمت، لأنه يعرف أن (الفأس وقع في الرأس). وبعد أيام عاد محمود اسماعيل من اسمرا وجاء حسن إلى دمشق وكان أمينا في كل ما نقله، عما تمّ في اسمرا، وأنا أترك الحديث عنه للمستقبل فلم يحن وقته بعد.
وعاد حسن إلى جدة ثم تكوّن وفد للذهاب إلى اسمرا على رأسه رئيس اللجنة التنفيذية محمد سعيد ناود، وعلى ما أذكر أيضاً محمود اسماعيل وعمر جابر وحمد كلو لقد ذهبوا كأفراد، وليس كتنظيم، فالجبهة الشعبية لا تقبل أحدا كتنظيم. وتمر الأيام والتقي بمحمد سعيد ناود هنا في دمشق، ويشرح لي كما شرح لغيري أنهم ما زالوا يفاوضون الجبهة الشعبية، وأنا أقول وقلتها له (أنتم تمشون كأفراد) ثم تأتي اللحظة الحاسمة، وأفاجئ بمكالمة من الأخ حسن عثمان يقول (إنه غداً في دمشق)، وانتظرته في المطار.
وفي الطريق إلى دمشق أخبرني وقال لي: (يا أخ أحمد نريد أن نصلي سوية في جامع الخلفاء الراشدين باسمرا صبيحة العيد).
أجبته: (كيف ذلك؟)
أجابني: (إننا سندخل في حوار مع الشعبية).
قلت له: (هل قبلت الجبهة الشعبية أخيراً بكم كتنظيم وإن دخولكم إلى اسمرا كأفراد أو كتنظيم).
كان حسن صادقاً معي. وقال إن محمد سعيد ناود يهديك السلام فلم يعد باليد حيلة، والاستفتاء على الأبواب ونريد أن نكون حاضرين، عندما يقول الشغب الأرتري نعم للاستقلال). وفهمت قصده تماماً ولم أشأ أن أجرحه وأقول له: (كنت أعرف هذا من قبل، لم تقبل بكم الجبهة الشعبية كتنظيم، ولا حتى كأفراد، والمستقبل أثبت صحة كلامي).
وأجبته (هذا حقكم وأنتم ارتريون وأدرى بمصلحة بلدكم).
وبسرعة أجابني حسن دون أن ينظر في عينيّ (أنت واحد منا وفينا) وفعلاً كان صادقاً بهذا قاطعته (لا تتعب نفسك يا حسن) قبل عام أو أكثر قلت لكم هذا، هل ستقبل بكم الشعبية كتنظيم؟ وعندها (زعلتم) والآن هل قبلوا أم لا...؟ لقد أطلعني حسن عثمان لحظة بلحظة على ما كان يتم في اسمرا وجدة والخرطوم، وأنا لا أريد الخوض بهذا حالياً، إنما أتركه للمستقبل، وعاد التنظيم لا بل عاد أفراع هذا التنظيم وأكثريتهم ليعيشوا تحت حكم الجبهة الشعبية أفرادا، فهل قبلتهم؟... لا... الشخص الوحيد الذي تعاونت معه الجبهة الشعبية مؤقتاً هو محمد سعيد ناود الذي أصبح محافظاً ثم عزل أما البفقية فليس لهم أي اعتبار سياسي أو وظيفي، فمنهم من عاش في السعودية، والفقراء منهم بقوا في السودان، وقد سمعت مؤخراً أن كثيرا منهم، متواجدون في القاهرة وأن أحد المتنفذين سابقاً يريد فتح مؤسسة معلوماتية أما صديقي حسن فهو يعيش ويعمل في جدة، ولا زالت صلتنا قوية، لأن الصدق والأمانة كان طابع علاقتنا، ولا يهمني ما يقوله الناس عن حسن أو غيره، فأنا أعرفهم ألم أقض حياتي معهم؟ وهكذا انتهى بل أُنهي التنظيم الموحّد وتلاشى ليبقى في ذاكرة التاريخ مع بياناته وقراراته الوطنية ذات التوجه العربي.
وما هو الفارق بين الذين ذهبوا قبلاً وبين الذين ذهبوا بعد ذلك؟ من سيقول لا.. للاستقلال، إما أن يكون مجنوناً أو من الأثيوبيين المتشدّدين أو من الخونة، إن المستقبل السياسي للشعب الأرتري الذي كان مرهونا ظاهرياً بقول كلمة (نعم) للاستقلال، فقد كان مائة بالمائة يقول كلمة نعم وكما كانت مائة بالمائة للاستقلال، كانت مائة بالمائة للخلافات بين فصائل الثورة المتناحرة، قبل التحرير وبعده.
أما الجبهة الشعبية فكانت على علاقة مع بعض القيادات، فقد كانوا على علاقة مع الشعبية، ومسيّرين من قبلها. أو كانوا مسيّرين تلقائياً، من أجل وجود مكان لهم على الأرض السياسية في ارتريا المستقلة. إذن هذه الخلافات كان البعض منها مصطنعاً، من أجل المصلحة الذاتية البحتة، وأنا لا أريد أن أدافع عن صالح أياي وحمد صالح حمد ومجموعته الذين دخلوا ارتريا بعد بيان مسهب طويل لكن في بيانهم قالوا (إننا ندخل كأفراد) وحلوا تنظيمهم. أما من تبقى من التنظيم الموحّد برئاسة الأخ محمد سعيد ناود الذي قال لي (أنا ذاهب كمفاوض عن التنظيم). عاد من اسمرا ودخل كفرد وليس كتنظيم أما الجبهة "المجلس الثوري" برئاسة أحمد ناصر فقد تمّ إعادتهم من مطار الخرطوم بعد أن كانوا متوجهين إلى اسمرا للتحاور والنقاش كتنظيم وليس كأفراد.
عادوا من مطار الخرطوم أو أعيدوا، وقبل دخولهم الطائرة بدقائق قليلة لأن الجبهة الشعبية لم تكن جادّة بالحوار والجلوس، مع أصحاب الفكر الوطني الصحيح. إن بعض قادة الجبهة الشعبية، يعرفون أن الأخوة في المجلس الثوري، وفي تنظيم الجبهة عبدالله إدريس لا يمكنهم، أن يتخلّوا عن تنظيماتهم. من المستحيل أن يدخل أحمد ناصر أو عبدالله ادريس كأفراد ويعينّوا هنا أو هناك.
قد يلومني بعضهم لأني تناولت شخص شخصية الأخ عبدالله ادريس الوطنية العربية، وهم يعرفون موقفي منهم بسبب ما تمّ في الجبهة قبل انهيارها وبعده. لكن عنما تُطلب للشهادة فعليك أن تقول الحق حتى ولو كان هذا ضد نفسك، فالتاريخ لا يرحم.
لقد أعادت الشعبية وفد المجلس الثوري للمفاوضات من مطار الخرطوم،ل أنهم عرفوا أنهم لن يتخلوا عن تنظيمهم، وعن عقيدنهم، من الذي ناضل وقاتل لسنوات طويلة وعبّد الطريق؟ إن السيد أسياس أفورقي نفسه كان عضواً في جبهة التحرير الأرترية، وكذلك أحمد ناصر رئيس الجبهة الحاليو عبدالله ادريس، وأنا أوضّح هنا قليلاً لأقول (إن كل ما قيل عن عبدالله ادريس كان افتراء وغير صحيح، ومصدره كان من رفاقه الذين اختلف معهم، ولنكن واقعيين، فكلنا يعرف بعضنا بعضاً، فمن المستحيل أن يتعامل عبدالله ادريس مع العدو الأثيوبي، فهو رجل ناضل وقاتل ولا يمكن نكران ذلك،فالصاق التهم به يعتبر تجنياً وافتراء، وقد صُنف عبدالله بالمغامر أو غير ذلك، إلا أن الأخوة كأحمد ناصر، وعبدالله ادريس، وصالح اياي، ومحمد عمر يحيى، وحمد صالح حمد، وحسن عثمان، والدكتور هبتي تسفا ماريام، وتسفاي تخلة، وولد داويد، والشهداء محمود حسب، وسعيد صالح، وملاكي تخلة، وغيرهم... وغيرهم كلهم وطنيون ولا غبار عليهم، إنما السياسة ليس لها دين، إن الأخوة في المجلس الثوري قد رفعوا كتباً ومذكرات إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والمنظمات العربية والإنسانية، يؤيدون ويدعمون الاستقلال، وهذا لا تناقض فيه، ولا غبار عليه، بل هم - إذا أردنا الحق - فهم صنّاع الحرية والاستقلال، ومع كل تناقضاتهم واختلاف آرائهم - هم الذين حرّروا بلادهم، هم ومن قبلهم من المناضلين أمثال الشهيد مفجر الثورة ادريس عواتي وإبراهيم سلطان وإدريس محمد وعثمان سبي، ثم شاركهم بعدها بايرو، وولد آب ولد ماريام، ثم جاء بعدهم هؤلاء الأخوة "لماذا ننكر ونحقد على الذين عبّدوا الطريق وأوصلوا الحرية إلى الشعب الارتري؟"
ومن يقرأ كتابي هذا وما قبله، يعرف من الذي أتى بالاستقلال؟ ومن الذي أتى بالحرية لشعبه؟ وأنا لست ناكراً لمقاتلي الجبهة الشعبية الأبطال، والذين قاتلوا وناضلوا ودخلوا اسمرا، بل أقول لهم (لقد حرّرتم بلدكم أيها المناضلون) إن بعض القياديين في الجبهة الشعبية، يرفضون زملائهم الذين أوصلوهم إلى هنا.
اليوم والحمد لله - أُنجز الاستقلال وأصبحت ارتريا دولة معترف بها، ولها مكاتبها المحلية والدولية، لكن السؤال المطروح (هل تتم المصالحة الوطنية المطلوبة؟) لا... بل إن الأمور بدأت تتفاعل وما الانفجارات والضحايا الذين سقطوا مؤخراً، وما القتال الذي دار بين قوات الجبهة الشعبية، وحركة الجهاد الإسلامي، إلا دليلاً حقيقياً وواقعياً على أن المصالحة الوطنية قد نسفتها الجبهة الشعبية، وإني أخشى أن يتفاقم الوضع، ويزداد تفاقماً، أخشى من جزائر ثانية، صحيح أن الجبهة الشعبية تملك أجهزة أمنية قوية، فشاه إيران كان أيضاً يملك القوى الأمنية الفاعلة السافاك.
إني أقول للسيد أسياس أفورقي، ماذا يسمى هذا يا رفيق الماضي؟ ويا رئيس الحاضر؟ قلت هذه الكلمات عندما التقيت بالسيد الرئيس في مكتبه في أسمرا، مبروك يا سيادة الرئيس، فلقد أصبحت ارتريا حرة مستقلة، قلتها للرفيق السابق، وللرئيس الحالي، والذي أجابني وهو يهزّ يدي (مبروك أبو سعده).
(معاذ الله يا سيادة الرئيس، أن أحتل موقع الحكماء، لكنني أرى المصالحة الوطنية، هي التي تكفل الاستقرار والرخاء لشعبكم).
أنا لست من المحلّلين السياسيين ولكوني عشت منذ عام 1969 ولغاية الآن مع الشعب الارتري، حيث نحن الآن في منتصف عام 1999 أي أن لي مع الشعب الارتري حياة تقدر بـ 30 عاماً فلي الحق إذاً أن أقول وأن أتساءل.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة