ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الثانية والأربعون
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
انقلاب في السودان:
ووقع انقلاب في السودان أطاح بحكومة الصادق المهدي. لكن الرفاق في التنظيم،
اتفقوا مع القيادة الجديدة، على السماح بإقامة المؤتمر في حينه، وتمت الموافقة للأرتريين والأصدقاء لحضور المؤتمر وفق قائمة بالأسماء التي ستحضر المؤتمر وتأتي إلى السودان. وسافرت من دمشق ويصحبني السيد حامد طنبار المسؤول المالي للتنظيم الموحد في دمشق.
وسافرنا على بركة الله من دمشق إلى الخرطوم، وفي الطائرة التقيت بالسيدة زهرة جابر وابنتها، كانت ذاهبة لحضور المؤتمر؟ وعلى الأصح كانت مكّلفة من الجبهة الشعبية، للذهاب وحضور المؤتمر.
إن السيد أسياس أفورقي، رئيس الدولة الحالي في ارتريا قال في مؤتمر الجبهة الشعبية عندما برز اسم السيدة زهرة جابر كعضو في القيادة المركزية للجبهة الشعبية، وعند احتجاج كثير من المؤتمرين: إن زهرة جابر كانت رئيسة اتحاد المرأة في التنظيم الموحد وما قبله فكيف تصبح عضواً في قيادة الجبهة الشعبية؟ أجاب السيد رئيس الدولة: "إن المناضلة زهرة جابر كانت عضواً منذ سنوات طويلة في الجبهة الشعبية".
وكنت قد كشفتها سابقاً في أكثر من مناسبة وأخبرت كلاً من حسن عثمان وصالح اياي وقبلهما محمد صالح حمد بحقيقتها إلا أنهم كانوا يضحكون ولا يهتمون.
وصلت طائرتنا إلى الخرطوم، في وقت حظر التجول، وأخذنا تصاريحنا. وذهبنا أنا والسيد حامد طنبار إلى فندق متواضع، إلا أن التعب والإرهاق وقلة الفلوس كل ذلك جعلنا ننام في هذا الفندق المتواضع.
في الصباح صحوت، ولم أجد حامد طنبار موجوداً. جلست في بهو الفندق البسيط لوحدي. وما هي إلا دقائق حتى أتى صاحبنا وسألته (أين كنت؟) فقال: (ذهبت لأؤدي صلاة العيد).
ونزلنا نبحث عن البيت الذي استأجرته قيادة الجبهة، وبقينا في الشارع ساعات نبحث عن وسيلة توصلنا إلى البيت، الدنيا عيد والطرقات فارغة، وليس هناك أحد. إلا أن الله أسعفنا فوجدنا سائق سيارة، وبعد أخذ ورد أوصلنا إلى المنزل. وكان البيت كبيراً وفيه ثلاث فتيات يقمن على خدمة أعضاء اللجنة التنفيذية للتنظيم الموحد وكنت وحامد طنبار مفلسين والتموين والنقود بيد السيد اسبروم مسؤول الاقتصاد، واسبروم لا يعطي إلا وفق مزاجه.
وقفت في البيت أصرخ وأقول (ارسلوا لنا سكراً وشاياً وقهوة وطعاماً، وقولوا لاسبروم عندما يدفع، من بيت أبيه أن لا يطعمنا فهذا من أموال الشعب والثورة، وليس له فضل في إطعامنا، وعليه أن يرسل لنا ما نريده. بعد التهديد والوعيد والكلام البذيء جاءنا الخير والذي جاء كان مقنّناً، قليل من السكر والشاي، أما الطعام فعلمه كان عند الله).
كان السيد أسبروم مسؤول الاقتصاد، في التنظيم الموحّد يقوم، بنوع من الابتزاز والاستفزاز، وقلب الموالاة له وللجناح الذي يمثله. فمن يخضع له يأكل ويشرب، أما من يحمل وجهة نظر مخالفة لاسبروم وزملائه، فيعيش على البركة، والجناح هذا ممثل بشخص عمر برج وزملائه. واسبروم يقلّل من المواد التموينية، وغيرها لإضعاف المناهضين لجناحه .فمثلاً لا يترك كيلو من السكر في بيت التنفيذية، بل يرسل لهم السكر مقنناً، فإذا كان العدد خمسة أعضاء يرسل لهم سكراً (لأربعة أشخاص ويعمّم هذا على بقية المواد التموينية، وبقينا يوماً وليلة في بيت التنفيذية، والذي يقع في الدوار الثاني، من شارع الامتداد في الخرطوم، والقريب من السفارة الإيطالية.
في اليوم الثاني جاء الأخ طه ياسين ونقلني إلى منزله، وقام بكل ما يستطيع من تكريم وضيافة، إلا أنني لم أكن مرتاحاً من الناحية النفسية، فالسيدة زهرة جابر وابنتها كانتا في بيت طه ياسين، وهي تريد أن تسمع من الأحاديث والنقاش لتقوم بواجبها..؟
كنت أتحاشى الكلام الهام أمام زهرة. وكانت تعلم أنني أعرفها .دائماً كنت أقول لها عكس ما أريده.
قضيت ليلتي عند الأخ طه ياسين وفي اليوم الثاني أوصلني إلى محطة باصات كسلا، ومنها انطلقت إلى كسلا وقد صحبني في الباص حامد طنبار وزهرة جابر وكان حامد دائم الشكوى من زهرة جابر.
كان يقول: (إنها لا تفعل شيئاً سوى أخذ النقود والتنزه هنا وهناك) ويقول لي (هل تصدق يا أبا سعدة هذه التمثيلية التي تقوم بأداء الأدوار فيها هي وزوجها؟).
هذه كانت وجهة نظر حامد طنبار بزهرة جابر ومحمد نور أحمد. أما رأي زهرة جابر بحامد طنبار هذا الذي تعلم وأخذ الكفاءة والباكالوريا وشهادة الجامعة من دمشق فقد هرب من دمشق، بعد أن أعطته سورية كل شيء كما عادتها، غادر مدينة دمشق متخفياً بعد أن سلّم معلميه من الجبهة الشعبية ممتلكات جبهة التحرير الارترية.
معسكر ساساريب:
وفي صباح اليوم التالي، غادرت كسلا إلى منطقة ساساريب السودانية، حيث المعسكر الارتري ومكان إقامة المؤتمر، وبرأيي إن ساساريب المعسكر، لا يختلف عن معسكرات اللاجئين، إلا أنه ذو خمسة نجوم، وإليكم هذه الرواية عما كان يدور في المعسكر وخارجه. ومن هم المتنفذون في هذا التنظيم غير المتجانس؟.
إن الذي يملك المال وما أكثره عند بعضهم، فصاحب المال، هو المتنفذ وصاحب الأمر والنهي. لقد أصبح التنظيم الموحّد مأوى لكل طامع، ولكل صاحب حاجة، كان غنياً بالمال بالنسبة للتنظيمات الصغيرة.
في يوم من أيام المؤتمر قال لي عمر برج وهو رئيس التنظيم، بحضور كل من محمد سعيد ناود وعثمان أبو بكر وزرؤبيدو ومحمد شيخ عبد الجليل في الأول قلت له (عليكم أن تفكروا وتعملوا لمصلحة شعبكم، وأن يكون لهذا التنظيم، دور فعّال في الساحة الارترية، وأن نعيد أمجاد جبهة التحريرالارترية، يجب أن نتخلى عن جلسات الفنادق والبذخ، ونعود إلى الريف للعيش بجانب المقاتلين، كما كان سابقاً. أي أن تعودوا إلى الريف الأرتري، وخاصة أن المملكة العربية السعودية اليوم تمدّكم بالمال والسلاح، فيجب أن تكونوا على مستوى رفيع وثوري، يمكّنكم من العمل على مستوى الساحة، داخلياً وخارجياً.
وأجابني عمر برج رئيس هذا التنظيم الورقي (لا نريد في يوم من الأيام أن تكون لنا قيادة قومية) فأجبته ماذا تقصد؟. قلت يا عمر بيك وأمام الحضور - إذا ما أعجبتك أفكاري فأنت غير مُجبر على التعامل معي، وهل أنتم عرب أم لا؟ وهل تعتقد أنني أعمل في هذا التنظيم من أجل سواد عينيك؟ إن لي أملاً واحداً هو تغيير قيادة هذا التنظيم، والأتيان بقيادة جديدة.
أجابني أنت سوري (وماذا دخلك) قلت له (إن أموال القيادة القومية) والعرب وسلاحهم، هي التي مكنتك من أن تقول هذا الكلام للأسف! من يعطيك السلاح؟! من يعطيك المال وتذاكر الطائرات؟ هل هي أثيوبيا أم أمريكياً أم العرب؟ إني أتعامل معكم، على أساس أنكم عرب، أما إذا كنتم غير ذلك، فليس لي علاقة بكم.
بعد ذلك تطورت المسألة بعض الشيء.
هذه الرواية توضحّ ما كان يجري في التنظيم الموحد، ومن هو المهم في هذا التنظيم، إنه صاحب المال. وهناك شاب يدعى إبراهيم منتاي وهو من المقربين من المرحوم عثمان سبي، ويعتبر نفسه صاحب الورثة، وله نفوذه في التنظيم، فعندما وصلت كسلا وذهبت إلى بيت الضيافة، جلست في بهو الدار، ووجدت كثيراً من القياديين ومنهم علي برحتو رئيس المجلس الوطني للتنظيم الموحّد، وقلت لهم مازحاً (أنتم تنزلون في بيت الضيافة المخصص للقيادة، وهو بيت مكيّف وبقية الناس تنام على الأرض، أو على سرير بال) قال لي حارس المنزل (شايف هالناس كلهم ينامون في أرض الدار وإبراميم منتاي وحده ينام في غرفة مكيفة، ولا يسمح لأحد أن ينام معه).
قلت له: (إن الرجل مليان وهذا حق للمليان)؟.
وصلت إلى المعسكر في ساساريب أو بالأحرى منتجع ساساريب، وفوراً توجهت إلى مكان القيادة ويسمونه: (مكان التنفيذية).
كثير من القياديين فوجئوا بي، والسبب في ذلك ما كانوا يسمعونه مني من كلمات، وما أقوم به من أفعال، حتى وصل إلى سمعي ما قاله رئيس التنظيم عمر برج حين سأل: (من الذي أتى بأحمد أبو سعيد للمؤتمر؟).
أجابه أحدهم: (ألا تعلم يا حضرة الرئيس)؟ إن أحمد أبو سعدة مسؤول في شؤون الإعلام وغيره، وسكت برج على مضض مع زملائه في منتجع ساساريب، كانت هناك خيام وضمن هذه الخيام، ناموسيات مع أسرّة مريحةً، وهذة الناموسيات الشفافة هي لأعضاء القيادة لتقيهم من الذباب والبرغش. ولما سألت (لمن هذه الخيام الفخمة؟) وأردت الامعان في المشاكسة. أجابوني (إنها لأعضاء القيادة).
وأعود إلى مفكرتي لأذكركّم كم عدد الأشخاص الذين ينامون في الخيام:-
1. عمر برج.
2. عثمان أبو بكر.
3. عثمان دندن.
4. ابراهيم منتاي.
5. اسبروم.
6. وضيف المؤتمر عبدالله باهبري مندوب المملكة العربية السعودية للمؤتمر.
أما بقية أعضاء القيادة من أمثال صالح اياي ومحمد صالح حمد وعلي برحتو، فإنهم كانوا ينامون على الأرض في هذا المنتجع.
وكان كل واحد من أصحابنا هؤلاء يقوم على خدمته وحراسته عدد من الجنود، ثم أنشأوا حمّاماً ومطعماً خاصاً لهم. وكل يوم يأتي صهريج محمّل بالماء من مدينة كسلا، ثم تأتي سيارة التموين المخصصة لأعضاء القيادة من كسلا أما البقية فيأكلون ويشربون مثل الجنود.
وعندما سألت أحد المؤتمرين المناضلين (من أين تشرب يا عثمان داير) وكان مسؤول الأمن في المعسكر (قال من جهنم!) إذن تحمّم من نار جهنم يا عثمان أجابني: (أكثر من جهنم هذه؟).
فقضيت ليلتي الأولى في مقر القيادة، إلا أن المضايقات كانت واضحة، حيث لا ماء ولا طعام ولا سرير، نمت على الأرض مع الجنود، والحمد لله هكذا تعلمت وعشت مع جيش الجبهة. وفي الصباح كانت القهوة تأتي إلى الخيام، ثم يأتي الحمّام بعدها، ويعود المناضلون كل إلى جناحه بعد الحمّمام يأتي الفطور، أما نحن المساكين، فكنا نتدبر أمرنا، وبعد الظهر أي قبل الغروب يجلس الأخوان على ضفاف نهر عطبرة الذي يمر من هذه المنطقة، وتحضر النراجيل ويبدأ الحديث واالنرجيلة سوياً.
هنا كانت تتخذ القرارات الهامة، أما بقية المؤتمرين فهم بعيدون عن كل هذا، غروب جميل وهواء نظيف، وماء بارد وشاي وقهوة، والأراكيل وأصواتها تعلو أصوات العصافير، وصوت مياه النهر شو بدك أحلى من هيك خاصة وإن المراكز والمناصب مؤمنة.
في أحد الأيام كنت أنا والمرحوم محمد صالح حمد نتغدى سوية، وجاء عمر جابر وجلس معنا محمد صالح حمد كان حريصاً على ملازمتي طوال فترة وجودي، وجاء الطعام الذي كان فاصولياء بالبندورة وخبز، وأكبر غواص لا يستطيع أن يخرج قطعة لحم، حتى حبات الفاصولياء كانت قليلة، كنا نغمس الخبز بالمرق ونأكله، وكانت تمر من أمامنا صحون الطعام، إلى الخيام الفاخرة، وكنت أصرخ بأعلى صوتي الأونو أي الأول ويمر عدد من الجنود يحملون الصواني فأصرخ بأعلى صوت السكوندو أي الثاني، وتتكرّر هذه العملية. كنت أقول لعمر جابر وأقصده: (لماذا لا تأكل معهم وتتركني أنا وحمد صالح سوية؟.
وكنت أعرف بأن عمر جابر وقدميه الأثنتين مع الجناح الغني، ثم تأتي الفاكهة وأخيراً القهوة والشاي، ونحن نتطلع بأعيننا ونشمّ بأنوفنا هذه الروائح الدسمة. بالله عليكم ألم أشهيكم عملية حضور المؤتمرات والطعام الفاخر؟.
على الطرف الأخر كان بقية المؤتمرين وهم ينتظرون الفرج من هذا المؤتمر المكرب أيت ارتريا؟ وجبالها، أين السهول والوديان؟ أين جيش الجبهة؟ أين القيادات وأين... وأين؟!!
إن المؤتمر الوطني الأول الذي عقد في عام 1971 وفي عمق ارتريا كان رمزاً للمساواة والديمقراطية، كان كل مؤتمر قائداً أو كادراً أو مسؤولاً مثله مثل الجندي، لم يكن هناك فارقاً مطلقاً، القائد يغسل ملابسه كما يفعل الجندي، كان كأس الشاي هو الفطور والغداء والعشاء مع أشياء قليلة، وكانت المياه المائلة للملوحة، هي شراب القائد والجندي والضيف، أما مؤتمرنا هذا فقد عقد في الأراضي السودانية، وليس هذا انتقاص من الأراضي السودانية، كان من المفروض أن يعقد هذا المؤتمر في الأراضي الارترية.
قلت لأصدقائي في المؤتمر: ما هذه المهزلة ما هذا الكرنفال؟ كانت الإجابة واحدة (عليك بالصبر يا أحمد، لربما نخرج من هذا المؤتمر ونفعل شيئاً).
كنت أرى الكثير من بعض القياديين يقومون بتدليل ومحاباة السيد عبدالله باهبري، كنت أشعر وأعلم بأن السيد باهبري هو صاحب الكلمة المسموعة، بل صاحب القرار، ومن يقول غير هذا فإنه يكذب على نفسه. الصراع على أشده فعمر برج يريد أن يكون رئيساً وكذلك عثمان ابو بكر وأبو بكر محمد جمع وعلي برحتو كلهم كانوا يتوددون إلى السيد باهبري لعل أحدهم يصبح رئيساً، أما السيد باهبري فكان يعلم ويعرف ما في أنفس هؤلاء ويدرك تماماً ماذا سيفعل؟!!
في الصباح كنت أتي إلى مكان إقامة القيادة، وأمر من أمام الخيام الفخمة، وأذهب وأستحم في حمام الملوك، كنت أستحم لا حباً بالنظافة، إنما نكاية بأصحاب الحمام القيادي، وضاق صدر الزملاء القياديين مني، من هذا الجسم الغريب الذي يستحم بحمامهم، طلبوا من الحراس منعي من الاستحمام، هؤلاء الحراس من الجنود وهم يعرفونني منذ القديم، أو يسمعون بأسمي، فلم ينفذوا أوامر قادتهم، بل كانوا يبتسمون، وفي الصباح كنت أجلس في قصر التنفيذية مع الأخوة السودانيين الذين يحضرون المؤتمر، وكلهم من الأمن السوداني ويرأسهم مقدم جاء من الخرطوم خصيصاً ليحضر هذا المؤتمر.
كنت أجلس مع الأخوة نشرب القهوة وننكّت ونضحك، وهذا لا يروق لبعض القياديين، وزاد عمق الصلة مع الأخوة السودانيين فاثنان منهم كان لهما شقيقات يدرسن في دمشق وحلب.
وذات صباح دخل المقاتل أبو بكر محمد جمع إلى مقر التنفيذية، وهو بلباس الميدان ويضع على جانبيه قنبلتين من نوع الأنيركا وهي طويلة وفي رأسها عصا قصيرة، وبحركة لا شعورية مددت يدي وسحبت قنبلة من خصره وصرخ أبو بكر وقال: (ماذا تفعل؟) وببرود أجبته (والله أتفرج عليها، وإذا سمعت كلامي يا أخ أبو بكر إرم هذه القنبلة على هذه القيادة، وسيسجل لك التاريخ نقطة بيضاء في حياتك الخاصة، وخاصة أنت مناضل قديم.
أخذ مني القنبلة غاضباً وهو يتمتم (ما الذي جاء بأبي سعدة إلى هنا؟) وهنا عمّ الضحك من قبل الأخوة السودانيين، وضحك المقدم فؤاد وقال :(تفضل) ودعاني إلى خيمته لقد ارتحت منك يا أخ أبو سعدة كثيراً) قلت: (يا أخ فؤاد أرى أنك مرتاح في هذه الخيمة وفطورك فخم، ألا تدعوني لمشاركتك). أجابني (من أجل هذا دعوتك) كان رجلاً لطيفاً وهادئاً إنه سوداني قال لي: "كيف سحبت القنبلة من أبو بكر"؟.
أجبت كيف تسمح له - وأنت مسؤول عن الأمن وهو في أرض سودانية بهذه القنابل التي ليس لها أي معنى آخر سوى التفاخر الكاذب!.
قال لي: (على كل تعال كل يوم، وافطر معنا، حتى نتونس معاً) وسمعت صوت صالح اياي يصرخ وينادي يا أبا سعدة. ودعّت الأخ فؤاد وركضت إليه وأديت التحية، وقلت:(أنا تحت أمرك يا زعيم). قال لي: (اركب يا أحمد بالله عليك).
وركبنا معاً وما أجملها من مصادفة. ركب السيد عبدالله باهبري وعمر برج في المقدمة وركبت أنا وصالح اياي وعمر جابر في الوسط وركب ادريس قلايدوس ومحمد صالح حمد وإبراهيم منتاي في الخلف، قلت لصالح: (والله السيارة جديدة وجميلة). قال لي: اشكر الاستاذ عبدالله باهبري على هذا، قلت لصالح: لولا وجود الاستاذ باهبري في المقدمة، كان عليك أن تجلس بجانب الرئيس، فلقد سمعت في كواليس المؤتمر بأنه ربما تصبح رئيساً، فأجابني بأعلى صوته: إنها سيارة الرئيس، ولا يريد أن يجلسني بجانبه، حتى لا تلمس رجلي رجله، فتنتقل العدوى إليّ فأصبح رئيساً.
وضحكنا كلنا س باستثناء عمر برج الذي قطّب حاجبيه، قلت له: يا أبو اياد لو رجلك لمست رجله تصير مسؤولاً فماذا لو لمست... فما الذي يحصل؟ عندها ستصبح رئيس وزارة، وازداد الضحك، وأدار عمر برج وجهه إليّ وقال: أنتم قليلو الأدب وعمّ الضحك أيضاً قلت: يا شيخ عمر أريد أن أهنئك مسبقاً وأقول لك مبروك على الرئاسة سلفاً، قال لي بحدة "كيف عرفت ولم ينته المؤتمر؟" قلت له: إن رجلك لامست رجل عبدالله باهبري، وازداد الضحك وساد الهرج والمرج وهنا صرخ عمر برج قائلاً للسائق: "قف فأنا لن أركب مع أبي سعدة واياي قليلي الأدب، فما كان من السيد عبدالله باهبري إلا أن قال: (كلنا نضحك يا أخ عمر) جاءتني النكتة وقلت: (دير ضهرك لضهر الأستاذ باهبري حتى تتثبت الرئاسة).
وشتمني عمر برج وقال والله لن أركب معك ومع صالح اياي بعد الآن.
بعد الأنتهاء من الجلسة حيث الكلام والمسرحية بدأت، وبدأ الممثلون عفواً - سكان منتجع ساساريب بالظهور وإلقاء التهكمات، بعد الظهر أخبرت أصدقائي وقلت لهم هذا هو اليوم الخامس، ويكفيني هذا ولن أبقى دقيقة وسط هذا الكرنفال والتهريج والسلام عليكم. وهذ ما تم وإلى كسلا غادرت المنتجع، ثم غادر معي المقدم فؤاد وأصبحت برفقة المسؤول الأمني وسألته: (ما رأيك فيما يحدث) أجابني: "أنت حاضر وأنا أيضاً، وأنت تعرف أكثر مني وما شاء الله، كلهم أصحابك وأصدقاؤك هل سيستمر هذا التنظيم؟! أجبته "القيادة التي ستخرج من هذا المؤتمر هي التي ستحّدد على ضوئها استمرار هذا التنظيم أم لا".
وفي كسلا ذهبت إلى بيت الضيافة، لحين انتهاء المقدم فؤاد من بعض أعماله، وذهبت خلسة من بيت الضيافة إلى بيت المناضل محمود حسب، وأمام منزله قلت له: "اسمع يا محمود! هناك كلام كثير يُقال، وإن الجبهة الشعبية ترصدك، فأرجو أن تنتبه لنفسك، فالحياة لا توهب مرتين..."، وابتسم وقال بهدوئه المعتاد: (إن شاء الله يا أحمد ألا تريد زيارتنا في ارتريا ونعيد الأيام الجميلة معاً).
قلت له يا محمود أنت تعرف شعوري ومحبتي لكن هل يوجد لديكم مقاتلون وأرض تعيشون عليها).
قال تعال وشاهد بنفسك، إننا نحبك ونتذكرك كثيراً لكن يبدو الأخ صالح قد أحببته أكثر منا بكثير وضحك.
محمود حسب حيث كان مع جبهة عبدالله ادريس على كل حال يا محمود الأيام بيننا وأرجو أن نلتقي قريباً فهذا يحتاج إلى تحضير وترتيب، ودعته ولم أعرف أننا نلتقي أبداً. بعد أسابيع قليلة انطلقت رصاصات الغدر والخيانة لتستقر في جسده وإلى الأبد. لقد حجبوا النور عن عيني محمود، وأغلقوا عينيه إلى الأبد لكن النور عرف طريقه بل شقه ونالت ارتريا استقلالها.
كانت هذه الرصاصات، هي رصاصات الجبهة الشعبية، حيث قتل أمام منزله وهو يهم بالدخول، أما مؤتمرنا مؤتمر ساساريب والذي انعقد ما بين 18-1989/7/28 فقد انتخب قيادة جديدة ممثلة باللجنة التنفيذية، والمجلس الوطني وهي على الشكل التالي:-
1. عمر البرج – رئيساً للجنة التنفيذية.
2. صالح أحمد اياي – نائباً للرئيس ومسؤولاً عن الشؤون السياسية والتنظيمية.
3. أبو بكر محمد جمع – رئيساً للمكتب العسكري.
4. محمد عثمان أبو بكر – رئيساً لمكتب العلاقات الخارجية.
5. محمد عثمان كنتباي – رئيساً لمكتب المالية والاقتصاد.
6. نوري محمد عبد الله – رئيساً لمكتب الأمن.
7. محمد شيخ عبد الجليل – رئيساً لمكتب الإعلام والتوجيه المعنوي.
8. إبراهيم محمد إبراهيم – رئيساً لمكتب السكرتارية.
9. حقوس برهاني – رئيساً لمكتب الشؤون الاجتماعية والتعليم.
وقد انتخب قبل انتخاب رئيساً للتنفيذية، رئيساً للمجلس الوطني وهو علي برحتو ونائب رئيس المجلس محمد صالح حمد.
هذا ما جاء به المؤتمرون أو فرض على المؤتمرين. كل هذه التوليفة، لم تكن صحيحة، فخمسة من اللجنة التنفيذية كانوا يريدون الرئاسة وهؤلاء هم:-
1. صالح اياي.
2. أبو بكر محمد جمع.
3. عثمان أبو بكر.
4. عمر البرج.
5. علي برحتو.
هذا التنظيم منذ البداية كان يعاني سكرات الموت، إلا أن نزاعه استمر طويلا. وزادت الصراعات وذهبت الوفود إلى هنا وهناك، والجبهة الشعبية تكبر وتتقوى، وتفرض هيمنتها على الساحة كلها، والتنظيمات الصغرى تتآكل والاغتيالات تتصاعد، وكلٌ يغني على ليلاه.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة