ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الواحد والثلاثون
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
هل من منقذ؟
بعد فترة من الزمن مرت بمرارتها اتصل بي صالح اياي في ساعة مبكرة.
وقال لي: إني انتظرك.. قلت له على الهاتف: ما الذي حدث؟
إنها الساعة الخامسة صباحاً.
وكان من عادته دائماً أن يصحو باكراً.
في الساعة السادسة التقيت مع صالح قال لي: إن عبدالله ادريس مريض، وموجود في القاهرة للعلاج، ما رأيك في أن تذهب وتقابله وتشجّعه على العودة لأرتريا؟
أقلعت الطائرة السورية الساعة العاشرة صباحاً إلى القاهرة وأنا على متنها لم أذهب إلى الفندق، بل ذهبت إلى مكتب الجبهة في القاهرة، وهناك وجدت الاستاذ محمود صالح وتوجهنا سوية إلى حيث يسكن عبدالله ادريس.. الله ما هذا! أصبح فمه إلى جانب وجهه، وكان يتأتئ قليلاً، لقد أصيب بمرض عصبي.
تحدثت كثيراً مع عبدالله الذي كان بادياً عليه الألم والتعب، وزاده المرض العصبي، لم يختلف كلامه عن كلام وحديث أحمد ناصر.
قلت لعبد الله: إني أشعر أنك تريد أن تقول شيئاً، وأرى أنك تحمّل مسؤولية ما حصل لرفاقك وعلى رأسهم أحمد ناصر.
ولم يجبني بشيء.
قلت لعبد الله: عليك بالعودة إلى ارتريا! والتعاون مع إخوانك لإعادة بناء الجبهة.
هذا باختصار ما دار بيني وبين عبدالله ادريس، هنا أعود إلى حواري مع أحمد ناصر، قال أحمد إن الصراعات في القيادة هي سبب هذه الكارثة. إذن يجب التفاهم والعمل بهدوء.
والشخص الذب يجب يتقفهّم هو عبدالله ادريس وأرسلت له رسالة أقول فيها: "إن النساء والشيوخ بكوا عندما مرّت عربات الجيش السوداني وهي محملة بأسلحة الجبهة، كان الارتريون يصرخون ويشتمون قادة الجبهة، كنت أنا مع الحضور، انظر إلى سلاحنا وهو محمول على سيارات الجيش السوداني، ونحن في هذا الجو، كانت إمرأة قريبة مني سقطت على الأرض وماتت، إنها لم تستطع أن ترى هذا المنظر المذل، كان جميع الارتريون في ذهول تام، وكلام كثير وروايات تُنسج هنا وهناك. كان من الصعب أن يصدّق الانسان أن جيشاً ينهار ويقفد أسلحته بهذا الشكل".
ذهبت إلى مدينة كسلا السودانية لأرى ما يمنك عمله، وهنا سألني العم حسين: "ماذا تقولون عنا في سورية؟ بعد أن قدمتم لنا كل هذا السلاح؟ أنتم (زعلانين) من! كيف فعل أولادنا هذا؟ شو بدو يصير بنا يا أبا سعدة؟"
قلت له: إن سورية وبقية الدول العربية التي يهمها انتصار الثورة الارترية والشعب الارتري سوف تساعد وتعيد بناء الجيش من جديد.
الله يطمئنك على بيتك وأولادك مثل ما طمئنتني.
جاءني صديقي محمد عمر يحيى وقال: هيا سنذهب إلى كركون.
وما هي إلا ساعة وكنت عند مدخل المعسكر الذي أقامه السودانيين لجيش التحرير الارتري، وعند المدخل كانت توجد مجنزرة سودانية ومثلها حول المعسكر. المجنزرات والجيش السوداني يحيطون بثوار جبهة التحرير الارترية.
وتساءلت: ما هو الألم؟ ما هي المرارة؟ كيف وصل هذا الجيش إلى هنا من دنكاليا من جانب جيبوتي إلى الهضبة إلى كافة أنحاء ارتريا؟
كان جيش التحرير متواجداً، ألم أزرهم وأعيش بينهم؟ ألم أسجل المعارك والبطولات لهذا الجيش العظيم؟ من أتى بهم إلى السودان؟ الشعبية وتجراي وأخيراً قيادتهم، يا ليتني بقيتُ بأفلامي كما قال لي عبد الله ادريس!.
سكر في المعسكر:
عند باب المعسكر طلب أحد الجنود السودانيين التصاريح التي بحوزتنا ودخلنا المعسكر، دخلنا إلى مأتم جيش التحرير لم يكن هناك لا معسكر ولا سجن إنه كاباغريه كبير جداً، وأنا أدور في العسكر كنت أسمع الغناء وارقص وأسمع النكات..! وتجولت في المعسكر حوالي الساعتين لم يكن هذا معسكر ولا سجناً، بل كباريه من الدرجة العاشرة. حتى الخمرة كانت موجودة. من بين الذين شاهدتهم - وهم غير مبالين - ادريس نور حسين - هذا الذي شغل منصب مسؤول مكتب العلاقات الخارجية في دمشق رأيته ممسكاً في يده علبه بيرة مدّها وقال لي: تفضل يا أبا سعدة.. كان ردي سريعاً وقوياً: أنت لا تخجل! أنت بلا قيم!.
فما كان من محمد عمر إلا أن شدني من يدي ومشينا. وفي الطريق التقيت بإبراهيم توتيل رئيس المكتب السياسي.
ما هذه المهزلة يا إبراهيم توتيل؟
وأمسكته من ياقة الجاكيت وقلت له: هذ هي نتيجة تصرفاتك وأعمالك مع الآخرين!
انزل يدك عن ياقتي يا أبا سعدة!
لا تخف سوف انزلها. أتذكر مسيراتك الحمراء يا إبراهيم؟
ألم تقل لي عندما حذّرتك وقلت لك إن الشعبية وتجراي وغيرهما، يعدان مؤامرة لضرب الجبهة وسمعتها؟ أتذكر يوم قلت لي في منطقة عايلت مقر قيادتك، وبحضور ادريس قريش أن لنا عليك بعض الاستفسارات؟ من الذي أتى بجيش التحرير إلى هنا؟ من الذي أفسد هؤلاء الناس؟ هل هي الؤيا الثورية؟ هل هو حزب العمل العظيم؟ (لي عودة إلى حزب العمل الارتري).
أنتم أبطال هذه المهزلة! وإلى الآن سكرٌ ورقص وغناء ومناضلات؟ لقد فاتني أن أخبركم: بعد أن اعتقلني ملكي تخلة وإبراهيم توتيل في مقر قيادته بمنطقة عاليت ثم أفرج عني - جاء إبراهيم إلى سورية وهو في طريقه إلى ايطاليا، وكان يحمل جواز سفر سوري، لقد أكرمته وتعشيت معه في منزلي، بحضور صالح اياي وغيره .لم أقل شبئاً عما فعله بي حينما سجنني، لأني كنت مقتنعاً بقضية الشعب الارتري.
لو سألتموني عن إبراهيم توتيل الآن، أين هو؟ أقول لكم إنه أًصغر مسؤول في حكومة الجبهة الشعبية: من الشبوه؟!!
لمن الاستفسارات.. والملاحظات؟؟؟! عني أم عنك؟
لم يتكلم كامة واحدة، لم ينبس ببنت شفة!
تركته والحزن يملأ قلبي، وقلت لمحمد عمر يحيى الذي حاول أن يخفف عني بكلماته الطيبة: يا محمد عمر لا أريد أن أبقى هنا!
أريد أن أعود إلى كسلا، ماذا سيقول التاريخ عن هذه الكارثة وأبطالها؟ يجب تصفية كل من هو مسؤول! وترك جثثهم للوحوش والضواري لتنهشهم. كان الألم يملأ نفسي، عدتُ إلى كسلا والله لم أنم طوال تلك الليلة.
كان طيف المرأة الارترية التي هُتك عرضها وألقيت عارية، وقد اغتصبها عدد كبير من الجنود الأثيوبيين بهمجية ووحشية لا يمكن وصفها، يعد أن جردوها من ملابسها وصلبوها على الأرض بحبال من يديها، وتوالت أعداد كبيرة من جنود أثيوبيا واغتصبتها، وهي مصلوبة بهذه الطريقة فماتت المسكينة، وما كان منهم إلا أن ضربوها بالفأس على رأسها بعد أن كانت ميتة.
عندما وصلت إلى مكان جثتها، كانت بقايا الأغتصاب والوحشية لا تزال على جسدها، وتم اعتقال من ضربها بالفأس ونفذ فيه الحكم، وألقيت جثته إلى جوارها وتمت مطاردة البقية، ثم دُفنت المسكينة حسب الشريعة. صدقّوني مرّت على هذه الحادثة سنوات طويلة لكني ما زلت أعيشها، خاصة التفاصيل الدقيقة حول اغتصابها وموتها.
كيف كان هذا المجرم وعشرات من رفاقه ينظرون إليها وهي عارية مصلوبة وأخذوا يتناوبون عليها، أمام بعضهم البعض حتى بعد أن فارقت الحياة، كان هذا في منطقة بركة العلالي حيث كنت أنا والشهيد محمود حسب ويعض الأخوة المقاتلين شهوداً على هذه العملية الهمجية.
• هل ذهب دم حليمة وشرفها هدراً؟
• هل ذهب دم آلاف المناضلين هدراً؟
• هل ذهبت البوت والقرى التي دُمرت وحُرقت بلا مبرر؟
• هل سلاحنا وأموالنا ذهبت هدراً؟
لا إن الشعب الارتري هو شعب أمين ومكافح، إنه شعب صابر وقد نال حريته بعد كل ما حدث.
عقد المجلس الثوري وتتالت الأحداث بسرعة وقرّرلت قيادة الجبهة عقد المجلس الثوري، وتم نكليف كل من: (إبراهيم توتيل وتسفاماريام وملاكي تخلى) بالذهاب إلى منطقة كركون وتهاداي - من أجل شرح الموقف والعوة لانعقاد المجلس. لم يكن القياديون يحترمون أنفسهم.
كان كثير من أعضاء المجلس، متخوفين في هذا الجو المتوّتر والمكهّرب من أن يقوم عبد الله ادريس بعمل ما. وإذا سألت نفسي: (ماذا يمكن أن يفعل رئيس المكتب العسكري فلا أجد إجابة، لأنهم جميعهم مشتركون في تدمير الجبهة. إلا أن الإجابة كانت عند أحمد ناصر إذ قال لي: إن التخوف في مكانه، فلربما يلجأ أحدهم إلى التصفية الجسدية أو الاعتقال، ولم أسمي أحداً بالاسم لكني قلت لبعض الرفاق: أنتم مناضلون، وقد ناضلتم من أجل الشهادة، وفي النضال لا يمكن لأحد أن يضمن روحه. التقى عبدالله ادريس وإخوانه بأحمد ناصر، فال ناصر لعبدالله ادريس محمد.
إننا سوف نعقد اجتماعات المجلس الثوري في منطقة شبه محايدة، وندمج بعض المقاتلين المسلحين مع إخوانهم غير المسلحين، فيصبحوا كلهم يحملون السلاح وهذا يعطي التهدئة والأمان لكثير من أعضاء المجلس، ويجب أن يكون تسفاي تخلة هو مسؤول الأمن. وتمّ الاتفاق على ذلك. إلا أن عبدالله ادريس أصرّ على تحميل أحمد ناصر مسؤولية الهزيمة وتكلم عبدالله بكلام حول التسليم والدخول إلى السودان؟
أجاب أحمد ناصر، عبدالله وقال له: أنا يا عبد الله لم آتِ بجيش التحرير إلى السودان، ومن هو الذي سلّم أنا أم أنت؟ أنا لم أكن أقود الجيش. تركت جيش التحرير في كل أنحاء ارتريا، عندما ذهبت إلى الخارج لأعرض قضيتنا.
ألم تكن أنت مسؤول المكتب العسكري ورئيسه؟ إننا لا نريد أن نلوم أنفسنا في الوقت الحاضر على الأقل: إننا بصدد إعادة بناء الجيش. إننا في اختيار تاريخي نخحرج من الهزيمة أم لا نخرج؟ هذا هو المطلوب!
إذن اتفق أحمد وعبدالله، على انعقاد المجلس وبالفعل جاء أعضاء المجلس كلهم، وكان هذا هو الاجتماع السادس للمجلس.
ونتيجة للمداولات ظهر هناك اتجاهان: الاتجاه الأول، ضد عبدالله ادريس والمكتب العسكري، والاتجاه الثاني، ضدّ إبراهيم توتيل وملاكي تخلة رئيس الأمن.
كان عبدالله ادريس يقول: "نحن فشلنا، والقيادة فشلت، ويجب اسقاط اللجنة التنفيذية وانتخاب لجنة قيادية جديدة، وهذا هو الحل في رأيي ورأي اخواني" أما البقية فكانت تقول: بالرغم من فشل القيادة، إلا انها يجب أن تستمر في هذه الظروف الصعبة. وعاد عبدالله ادريس واقترح أن يكون حسين خليفة رئيساً للجبهة. فرُفض هذا الاقتراح من الطرف الثاني، أي طرف المكتب السياسي والأمني.
هذا هو القرار الذي تبنّاه معظم القياديين والجنود. إلا أن عبدالله ادريس وحسين خليفة ومحمود حسب وغيرهم، كانوا يرون في التغيير مصلحة الجبهة.
وتفاقمت الأزمة واشتد الصراع.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة