ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الثلاثون

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية

كيف دمرت الجبهة:

في عام 1978 كان لدى الجبهة كميات كبيرة من الأسلحة، قدمت للجبهة من سورية والعراق

ارتريا من الكفاح المسلح الي الاستقلال 2

ومنظمة التحرير الفلسطينية وغيرها، هذه الأسلحة كان الأخوة السودانيون، قد جمدوها بحجة أن جبهة التحرير الارترية، تكمّل الاستراتيجية السوفيتية وهم شيوعيون، إذن أصبحت الجبهة تشكّل خطراً على أمن السودان. هذا ما كان يُقال عن سبب تجميد الأسلحة، أما بقية الفصائل فالباب كبير ومفتوح لها.

هل من المعقول أن تهدّد الجبهة الأمن القومي للسودان؟ هل من الممكن خيانة السودانيين؟ هذا غير معقول وغير وارد. فكميات الأسلحة التي كانت ترد إلى الجبهة من سورية، وبعض الدول العربية كبيرة جداً. هذا ما كانوا يقولونه ويعترفون به وهذا ما رأيته بعينيّ وصوّرته بأفلامي. إن الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير ارتريا السيد أسياس أفورقي قال بالحرف الواحد مايلي:

نستطيع أن نقول عموماً، يوجد تعاطف في الدول العربية تجاه القضية الارترية، سواء عن معرفة أو من منطلق العواطف المجردة. مشاكل العرب كثيرة طبعاً، لا يوجد دعم من جانب الدول العربية لو أخذنا كل دولة على حده قد نفاجأ لو عرفنا أن الدعم الذي قدمتّه الدول العربية للثورة الارترية من عتاد ومال ومواد إنسانية لايساوي شيئاً كدعم من هذه الدول هذا واقع ونحن لا نقدر أن ننكره، أي لا يوجد دعم من أي من الدول العربية، طبعاً يوجد ترويج من قبل الاستعمار الأثيوبي، وبعض القوى التي عنمها مصالح، من اطلاق شائعات وأكاذيب للثورة الارترية وللجبهة الشعبية، نحن في غنى عن الدخول في مهاترات مع هذه القوى.

نحن نقول: ما في حاجة اسمها دعم عربي هذه مش إساءة للعرب ولا تشويه لما يكون في دعم الثورة الارترية من الدول العربية التي أنشر هنا بعض الوثائق والتي تبيّن حقيقة الجبهة الشعبية.

لكل رأيه، لكن الواقع والحقيقة غير ذلك، وهذا ما قاله السيد أسياس إن الجبهة الشعبية لها توجهها وجبهة التحرير الارترية لها توجهها. إذن فإن العرب هم الخاسرون من تدمير جبهة التحرير الارترية.

بدأ القتال من قبل الشعبيتين شعبية تجراي وشعبية ارتريا ضد جبهة تحرير ارتريا، كانت المؤامرة كبيرة ومتعددة فقد نزلت الوحدات التجرينية من جنوب منطقة أكلى قوازي ثم من غربها وشرقها جاء التجرينيون بالآلاف وقاتلوا قوات الجبهة وحسمت المعركة لصالح الشعبيتين، ومن تبقى من وحدات الجبهة انسحبت إلى الجبال ثم انضمت إلى القوات الموجودة في منخفضات أكلى قوازي وبالتحديد في منطقة هازمو:

حسمت جبهة دنكاليا الجنوبية لصالح التمرد، وفي هازمو بدأت المعركة مع جبهة تجراي كانت وحدات تجراي العسكرية معزّزة بالآليات لم نقاتل الجبهة الشعبية ولم نرى جندياً واحداً منها، بل كان الذي يقاتل عن الجبهة الشعبية هي جبهة تحرير تجراي.

وهذه هي مناطق القتال: دنكاليا، سرايين، أكلى قوازي، القاش. أما الجبهة الشعبية فقد قاتلتنا في الشمال وفي منطقة عنسبه وحتى في الساحل قاتلت جبهة تحرير تجراي إلى جانب الجبهة الشعبية لقد وصلت المعركة إلى حماسين وسرايين.

كان القتال يتم بمجموعات صغيرة فخرجت هذه المناطق من أيدينا وخرجنا من منطقة سمهر ومن دنكاليا الجنوبية وبسبب الظروف تم الانسحاب من دنكاليا الشمالية ومن أكلى قوازي ومن هزامو انسحبت الجبهة من كل هذه المناطق بعد استيلاء تجراي والشعبية عليهما وتوقف القتال.

هنا شعر السودانيون بالتأمر على الجبهة وتدخلوا وطالبوا بوقف القتال وكان القتال قد وصل إلى مناطق (بركة وعنسبة وجبال ماريا وحلحل) كان هذا القتال قد بدأ في 1980/8/20.

فهل يا ترى يعيد التاريخ نفسه فما أشبه الأمس باليوم أن التاريخ قدم لنا شواهد وأمثلة وما أمثلة التاريخ الماضي إلا كما يحدث اليوم ألم يستعن الامبراطور الأثيوبي لينا دنقل بالبرتغال للقضاء على الإسلام والمسلمين؟.

إن الامبراطور مينيليك استعان بالايطاليين والانكليز وقياصرة روسيا للقضاء على الإسلام، وأتى من بعدهم الامبراطور هيلا سيلاسي فاستعان بكل قوى الغرب من أجل القضاء على الإسلام، وقد استطاع هيلا سيلاسي القضاء على سلطنة جمة عام 1934 ثم جاء منغستو هيلا ميريام وضرب سلطنة الأوسا المسلمة لكنه لم يستطع القضاء على الإسلام والمسلمين كما لم يستطع غيره.

إن سلطان الأوسا علي مرح الذي التقيت به لمرة واحدة ولوقت قصير وللسلام فقط في السعودية قال إن اخوتنا العرب والمسلمين يمدون لنا يد المساعدة في كل الظروف وخاصة الظروف الصعبة. إن جبهة تحرير ارتريا قد أمدت هذا السلطان بالأسلحة وذلك للدفاع عن السلطنة وقيمها ومعتقداتها. إن الملك يوهنس الأول الذي عقد مجلساً قومياً لبحث طرق محاربة العرب المسلمين، ثم أمر بمنع المسلمين من أن يعيشوا إلى جانب المسيحيين فالملك يوهنس فعل ذلك في أول يوم تسلم السلطة وذهب الملك ومن سبقوه وبقي العرب والمسلمون، إن ما حدث في السابق ينطبق على ما يحدث في ارتريا أي على جبهة التحرير الارترية ذات الهوية الوطنية.

إن السيد أسياس أفورقي قال في إحدى تصريحاته عن عروبة ارتريا وعضويتها في الجامعة العربية ما يلي حرفياً:

"إن الاشتراك في الجامعة العربية أصبح عنده شروط قومية أو مواصفات معينة، هناك الصومال وجيبوتي والسودان، إذا نظرنا لترتيبات هذه المجتمعات والاعتبارات العرقية والتاريخية والثقافية لا نجد هذه الاعتبارات أقوى في الصومال وجيبوتي منها في ارتريا".

ولكن إثارة هذه المسائل ليست ذات أهمية في اعتقادي. البت في هذه المسألة هي من مسؤولية ارتريا إن الجامعة كمحفل إقليمي إذا كان الشعب الارتري مُطالب بالمشاركة فيما يمكن أن يبت بالمسألة، هناك شيء مؤكد هو مهما كانت مواقف هذه الدول تجاه القضية الارترية في مرحلة النضال ومهما كانت مرارة الشعب الارتري في تجاهل العرب لقضيته وعدم دعمه لنضالاته، نقدر أن نقول إن التعقيدات والمشاكل وبالذات المرارات التي نحس بها بتجاهل العرب لنضالاتنا ما هي إلا قضية سيتجاوزها الزمن وستظل الشعوب عندها علاقات أرفع من التنظيمات الإقليمية أو التحالفات الآنية القائمة.

ونتيجة لذلك تراجعنا للحدود السودانية وانهزامنا ونزول قوات الجبهة الشعبية إلى بركة وقطعت قواتنا المسلحة.

إن جيش الجبهة العظيم كان منتهياً لا من القتال إنما من الصراعات التي تفجّرت، وحالة عدم الانضباط في القيادة والمهاترات ووضع اللوم على البعض هذه هي الحقيقة؟!!

لم ينته الجيش في القتال إنما ضٌرب وأُنهي لهذه الأسباب: انهار جيش التحرير ودخل الأراضي السودانية.

اجتمعت بالقياديين في الجبهة وقلت لهم: (طالما وصلتم إلى هنا إلى أراضي السودان الشقيق اعيدوا ترتيب انفسكم والتحقوا بوحداتكم ولملموها ولكن للاسف لم يستجب أحد)؟.

ضربة النميري الصاعقة و التجريد من السلاح:

جاء الأخوة السودانيون، وهم يحملون قرارهم بأيديهم وأراد الأخوة السودانيون، أن يجرّدوا ما تبقى من سلاح عند الأخوة الثوار. إن قرار مجلس الفاع السوداني كان قد أقر تجريّد جبهة التحرير من السلاح. كان ذلك في 8/20 وفي 8/22 أخبر السودانيين القياديين في جبهة التحرير ومنهم ملاكي تخلة الموجود في الخرطوم بقرار السودانيين.

وفي 8/23 أبلغت القيادة السودانية لقادة الجبهة أن تسلّم سلاحها أو يقاتلها الأخوة السودانيون. إن القتال مع الجيش السوداني عمل مشين، ولم يقبل به الأخوة الارتريين والعمل أن يخرجوا بسرعة من الأراضي السودانية خوفاً على ما تبقى من الجبهة وعلى الجيش السوداني. فهم أشقاء والسودان يستضيفهم.

واتُخذ قرار في الجبهة وقلت يجب عليكم أن تغادروا الأراضي السودانية بأي شكل، حتى لو قاتلتم الشعبية وتجراي. المهم أن تخرجوا بأسلحتكم وإن قرار القيادة يقول: (عدم القتال مع الجيش السوداني) ثم إن منطقة ثمرات قريبة وعليكم أن تتوجهوا إلى هناك، لكن الأخوة الثوار لا يستطيعون أن يتقدّموا بهذا الاتجاه لأن الأخوة السودانيين، حاصروهم وهم يملكون الطائرات والدبابات وغيرها.

قطعوا عنهم كل شيء حتى المواد التموينية ثم شكّل الأخوة الثوار مجموعة عمل، ووضعوا عبدالله ادريس على رأسها ثم كلفوا إبراهيم توتيل وملاكي تخلة بمهمة خاصة وفي 8/23 توجّه رئيس الجبهة أحمد ناصر إلى كسلا وذهب إلى المكان الذي سينطلق منه عبدالله ادريس، وهذا المكان يدعى كركون منطقة سودانية.

وقال عبدالله ادريس لأحمد ناصر: (هل هناك شيء جديد تمم مع الممسؤولين السودانيين في كسلا)؟.

يقول أحمد ناصر: (لم أستطع أن أقابل أحداً من المسؤولين السودانيين فاللواء السوداني عبد الماجد غير موجود، وكان عبدالله ادريس في حالة غير طبيعية. وقد جمعنا كل قادة الوحدات وقلنا لهم: يجب أن نتحرك إلى تمرات). رفضوا وقالوا: (لن نذهب إلى تمرات.. الأفضل أن نسلّم لأثيوبيا بدلاً من أن نسلم للجيش السوداني. كان هذا كلام زعلٍ وغضبٍ من المرارة التي لاقوها من نظام نميري، وكان على رأس قادة هذه الوحدات المناضل تمساح وبدلاً من تمرات اتجهوا إلى الساحل.

ثم قمنا بدفن وثائقنا في منتصف الليل، وكنا نخفي وثائقنا وانتظرت عبدالله ادريس طوال الليل ولكنه ذهب ولم يعد!.

وأثناء هذا جاء الجيش السوداني بآلياته وجرّد كل الثوار من أسلحتهم، فتركوا المكان باتجاه الجبال غير أن السودانيين سبقوهم وبكل الاتجاهات.

وقام الجيش السوداني بتجريد الوحدات التي يرأسها المناضل ادريس علي، وقد تمّ التسليم للجيش السوداني.

وأصبح الموقف كلآتي: (إن الجيش السوداني قام بتجريد قوات الجبهة المتبقية وحدث هذا أيضاً في لواء جبري تولدي).

يقول أحمد ناصر: (علينا ترك الجرحى والمرضى وأصحاب المعنويات المنهارة،وأن نأخذ أسلحتنا ونتقدم إلى الأمام، أي واحد يستطيع أن يتقدم فليمش، والسلاح ادفنوه في هذه الجبال، وكان من تبقى من الجيش لواءان من أفضل وأحسن الألوية عندنا وقد تم تجريدهما أيضاً).

جاءني مسؤول الأمن وقال لي: "إن المعنويات منهارة ومن الصعب التقدم" جلست في المكان الذي دفنت فيه المستندات، فجاء /الهدندوا/ ونكشوا في الأرض، واتلفوا المستندات، وكلما كانوا يشاهدون صندوقاً يعتقدون أنه سلاح أو نقود فيكسرونه، كان الهواء يبعثر المستندات،كما بعثرت الجبهة الشعبية وجبهة تجراي جبهة التحرير الارترية.

يقول أحمد ناصر: قررت أن أذهب للسودان وأقابل المسؤولين السودانيين، وفي الطريق اعترضتني دبابة سودانية،وأمسكوا بي وقادوني إلى الحامية السودانية، هناك تكلمت مع مسؤول الأمن في الحامية، قلت له (ما هذا التصرف أليس الارتريون إخوانكم؟ وأنا عربي مثلكم ما هذه البهدلة أنهحن أعداؤكم)؟تكلمت معهم بمرارة وألم، وكان رد فعل الضابط السوداني التعاطف معي، وكان الأخوة السودانيون متألمون لكن الأوامر هي الأوامر!.

قلت لمسؤول الأمن عليك أن تتجاوز وظيفتك وتقف بجانب اخوتك لقد استجاب وأطلق سراحي.

يتابع أحمد ناصر: (قابلت المسؤولين السودانيين وقلت لهم: لقد جردتمونا من سلاحنا وأخذتموه، نحن أشقاؤكم وتعاونا معكم في أمور كثيرة لها أهميتها بالنسبة للسودان، لدينا خمسة ألوية دون طعام فلا تتركونا نموت في الصحراء).

وأعطانا السودانيين الأمر بمرور التموين إلبى المقاتلين، ثم قابلت أعضاء المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي السوداني وقالوا لي: "إننا باسم الشعب السوداني نأسف لما حدث لكم" أجبتهم: بدلاً من الأسف كلّموا جعفر النميري واطلبوا منه أن يعيد إلينا أسلحتنا، ثم قمت بزيارة إلى سفارات الدول العربية الموجودة في الخرطوم، وقام السفراء العرب بمساعي متواصلة، مما اضطر وكيل وزارة الخارجية السودانية أن يجتمع بالسفراء العرب وقام بتهدئة السفراء وقال لهم: إن الارتريين أشقاؤنا وسوف نعمل على إعادة أسلحتهم وممتلكاتهم. تمت هذه الأحداث خلال ثلاثة أيام.

وأعود إلى الماضي القريب وإلى جلستنا في مكتب العلاقات الخارجية بدمشق عندما قلت لعبد الله ادريس رئيس المكتب العسكري بحضور صالح اياي وحسين خليفة: يا عبد الله أنتم تتجهون نحو الهاوية.

وردّ عليّ عبدالله: خليك بأفلامك يا أبا سعدة...!

ويا ليتني سمعت كلامه وبقيت بأفلامي، على الأقل كنت فعلت شيئاً، لقد أبعدوني عن عملي طوال 31 عاماً: إن عمري الآن 60 عاماً وقد أضعت أكثر من نصف عمري مع هذه القيادة. نعم إن الوقت قد فات لعودتي إلى عملي و(قاعدوني) قبل وقتي، أي قبل أن يحين موعد تقاعدي في الحياة. لم أعد استطيع أن أفعل شيئاً سوى العودة إلى الماضي وإلى الذكريات، لقد قتلوني قبل أن يأتي أجلي. على كل حال أنا أفضل من غيري فأنا ما زلت حياً وأستنشق الهواء وإن كان الهواء فاسداً، أما الشباب الذين دفنوا وغطى التراب وجوههم (الله يرحمهم وسكنهم جناته) وأما من تشرد وهام على وجهه الله يساعده...

وكنت دائماً مع صالح اياي أحذّره وأفضي إليه بكل ما يصلني من أخبار، كنا نتشاور بالصغيرة والكبيرة، كنا نُعتبر جسدين بعقلٍ واحد، هذا ما يعرفه الارتريون وغير الارتريون، إن بعض الدسّاسين يقولون: "إن أحمد أبو سعدة في جيب صالح اياي".

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click