ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة السادسة والعشرون

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية

في معسكر بليقات: استغرق الطريق من قارورة إلى بليقات ثلاثة أيام، وهذه هي مركز لقوات التحرير الشعبية.

ارتريا من الكفاح المسلح الي الاستقلال 2

عندما دخلنا بليقات كان الوقت مساء وأنا منهمك وتعبُ وعندما عرض عليّ حرمتاي العشاء قلت له:

أريد أن أنام فقط!

واخترنا لنا مكاناً على إحدى الهضاب المتواجدة في معسكر بليقات نمت وعلى ما أعتقد الساعة السابعة مساءً وفي الليل صحوت ولم أستط النوم، فلم ارتاح من وجودي مع الشعبية مددت يدي إلى البطارية بجانبي لأضيئها وأبحث عن الراديو، وبحثت يميناً وشمالاً، يا الله ما هذا الأصفر العسّلي الذي يئن وكان طوله حوالي 20 سنتيمتراً إنه عقرب. كان تحت رأسي. لماذا لم يلدغني؟ هذه إرادة الله...

وبسرعة تناولت حجراً وسحقته وعلى صوت الضرب صحا محمد علي حرمتاي وقال: ماذا تفعل يا أبا سعدة؟.

لقد جننت يا حرمتاي وصرت أضرب الأحجار في كل الاتجاهات، وقلت لحرمتاي أريد أن أضرب رأسك أيضاً لكنني فضلت أن أضرب هذا.. انظر كيف المجانين يضربون.. ويضربون من العقارب السامة!

وعندما شاهد العقرب استغفر ربه كثيراً وقال: والله لو لدغك هذا العقرب لتوكلت، وعندها يقولون أن الشعبية قتلت أبا سعدة لم نستطيع أن ننام تلك الليلة. جلسنا وتسامرنا عن المفاوضات الدائرة في الخرطوم.

قال لي حرمتاي: أرجوك ألا تثير هذا الموضوع في الداخل.

لماذا؟

ستعرفه بنفسك عاجلاً أم آجلاً.

تمام...

في الصباح الباكر حملت آلات التصوير وتجولنا في المعسكر الكبير... الكبير.

هنا من يوقد النار، هناك من يعجن، وهناك من يغتسل ومن يحلق، المعسكر كله يعمل.. كانت ضمن المعسكر ورشة لتصليح السلاح والآلات الطابعة والطباعة.. كان هذا المعسكر يعمل كخلية نحل منتظمة، كلُ يعرف واجبه. استغرقت جولتي إلى الظهر، وخلال الجولة تناولنا الشاي عند جماعة من المناضلين، ثم ذهبنا إلى التلة التي بتنا عليها. هناك وجدنا في انتظارنا الأخ/ محمد علي عمارو وكان هو المسؤول الإعلامي في الشعبية، ولم أكن أعرفه في السابق، إلا أن الأخ عثمان سبي أوصاني بأن ألتقي به، وأن أتعامل معه فهو شاب جيد وخرّيج سورية أيضاً وله إمكانيات متعددة، وكان لقاء عمارو لي لقاءً طيباً مفعماً بالحرارة الارترية. وحدثني وسألني عن سورية والمناطق التي تدّرب بها. كان يتكلم وبنشوة الحنين إلى سورية وإلى كل من قام بتدريبه ثم قال لي: أنا سأرافقك طوال وجودك هنا.

وبقيت أنا والأخ عمارو حوالي خمسة وعشرين يوماً جلنا فيها مناطق كثيرة حتى وصلنا إلى منطقة شعب، وكان حرمتاي لا يفارقني ثانية واحدة في إحدى المرات لعمارو.

ألا تريدون أن تتفقوا أنتم والجبهة وتوحّدوا أنفسكم؟ ألا تريدون أن تبقوا كتلة واحدة ضد أثيوبيا؟

ولم يجبني إجابة دقيقة لا لكونه جاهل، بل عن دراية وعلم. فقد كان يعرف بأني جبهجي وميولي كلها تجاه جبهة تحرير ارتريا وخلال وجودي مع قوات التحرير الشعبية دخل الفدائيون الارتريون القاعدة الأمريكية لإعتقال اثنين من الذين كانوا يعملون في القاعدة الأمريكية المعروفة باسم كانيو ستيشن، وقمت بتصوير عملية الأسر، وأجريت معهما حديثاً مطولاً صوت وصورة وأخبراني أنهما كانا ينسّقان اتصالات هنري كيسنجر في المنطقة، الأول كان زنجياً والثاني أبيض ويدعيان جيم هارل وستيف كامبل وقد رافقنا في هذه الجولة المدعو هيلا منغريوس وبعد 18 عاماً أصبح رجلاً مهماً في الجبهة الشعبية.

في اسمرا وعندما كنت هناك سألت عنه، فلم يأتني ولم يسقني حتى فنجان قهوة! وأثناء وجودي في شعب التقيت في أحد الخيران بكل من رمضان محمد نور ومحمد علي عمارو وبطرس سلمون ومسفون حقوس وأبو طيارة وأبو عجاج هذه الجلسة امتدت إلى ما بعد منتصف الليل.

وكانوا يسألوني: لماذا سورية لا تقف مع الشعبية؟ ولماذا تقف مع جبهة التحرير الارترية؟ وأنا لست مخولاً بالإجابة أو بالرد على هذه الأسئلة. وكما اعتقد فإن السبب أن جبهة التحرير الارترية ذات الميول الوطنية والقومية أقرب إلينا من الجبهة الشعبية. هذا بإختصار عام.

سألتهم أنا: وأنتم إلى أي مدى وصلتم بالعمل الوحدوي مع الجبهة؟ وما هو انتماؤكم؟ وخاصة يعد وقف الاقتتال بينكم وبين قوات الجبهة؟ كانت الإجابات غير واضحة وكان الرفاق مقدمون على عمل ما، وفعلاً كانوا يعدّون لعمل ما. وافترقنا دون أن يفهم بعضنا بعضاً. وفي صباح اليوم التالي صحبني عمارو إلى منطقة قريبة، فرجدت آلافاً من الجنود، وقلت لعمارو: ما شاء الله انكم تملكون قوة كبيرة هل جمعتوهم لغرض ما؟

أجابني عمارو: لا.. إننا ننظّم أنفسنا.

وأعدتُ السؤال: لو أتت الطائرة الأثيوبية ماذا يحدث؟

الله يستر.

عندما كنا في شعب أغارت الطائرات علينا عدة مرات.كان مع هذه الألوف من الجنود محمود شريفو وغيره من المناضلين ومحمود شريفو هو أول وزير للخارجية في أول حكومة ارترية بعد الاستقلال.

عندما نزلت من الطائرة السورية الخاصة التي أقلت الوفد السوري إلى اسمرا كان في استقبال الوفد محمود شريفو ويوسف صايغ وحديش درار ممثل الجبهة الشعبية في سورية ولبنان وهذا الأخير كان ممنوعاً من دخول سورية في فترة من الفترات. لم تلتق عيناي بعيني محمود شريفو ولم يقل لي (أهلاً وسهلاً) بل تجاهلني تماماً، وكما فهمتُ بعدها بأني لم أكن مرغوباً من حكومة الجبهة الشعبية، وإذا سئلت عن السبب، أقول إنه موقفي الوطني تجاه جبهة تحرير ارتريا وتجاههم أي الجبهة الشعبية. كان خط جبهة التحرير الارترية خطاً وطنياً ويعتبرون أنفسهم جزءاً من حركة التحرير العربية والعالمية، أما الشعبية فلم أسمع مثل هذا الكلام منهم أبداً.

اجتمعت مع القياديين أثناء الزيارة اليتيمة الأولى والأخيرة للشعبية، وعندما كنت بجانب بليقات تعرفت على الرفيق السابق ورئيس الدولة الحالي أسياس أفورقي. لم نتبادل كثيراً من الكلام.

لقد اختلفت معهم على كل شيء لم يعاملوني المعاملة التي بستحقها كل إنسان يقف إلى جانبهم، إلى جانب ثورة الشعب الارتري. أليسوا هم ارتريون؟ قلت لأحدهم في يوم من الأيام: هل الطائرات الأثيوبية تفرّق ما بين جبهة وشعبية؟

غادرت بليقات (وأصبحت متأكداً من أن شيئاً سوف يحدث)، ودعت محمد علي عمارو الذي عاملني بكل طيبة وكرم، وكانت أياماً عشتها في الجانب الآخر للثورة الارترية ها الجانب الذي تنكّر لكل عرف وأخلاق.

عدت إلى الخرطوم فوجدت الجبهة، قد وقعت اتفاقية الوحدة مع الشعبية، بحثت عن عثمان سبي في الخرطوم، فلم أجده وعلمت أنه موجود في منزله في بيروت.

إن ما كان يجري ويعد في ساحة الشعبية هو الآتي:

دعت اللجنة الإدارية إلى مؤتمر، وهذا المؤتمر سمي (شمال بحري) وكان هذا في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام1975 وأسياس أفورقي كان وراء انعقاد هذا المؤتمر، من أجل أن يفشل الاتفاق الوحدوي مع جبهة التحرير الأرترية، وحصل الانشقاق في الشعبية، وتوّج بيان من اللجنة الإدارية سابقاً والجبهة الشعبية لاحقاً.. يقول هذا البيان إننا لا نعترف بما تم بين جبهة تحرير ارتريا، والبعثة الخارجية، ونحن اللجنة الإدارية لا نعترف بالبعثة الخارجية مطلقاً.

إذن هذا ما كان يحدث في الساحة عندما كنت في ارتريا هذه هي النتائج وكان احساسي في مكانه. وعندما عدت من ارتريا التقيت بعثمان سبي وقلت له:
أرجوك أن تسمعني لما أريد قوله، الحقيقة أن هناك شيئاً ما يحدث في الداخل، وأنت ذكرت لي عمارو وأبو طيارة وأبو عجاج وقلت لي تعامل معهم، هؤلاء لن يبقوا معك! وهكذا حصل فلم يبق مع عثمانه سوى (أبو طيارة وأبو عجاج ومعهم مجموعة من الجنود) أما عمارو ورمضان فهم مع أسياس وببرود أجابني عثمان: سأقفل الحنفية! وصدمت من هذه الإجابة التي أثبت الزمن بأنه تفكير خاطئ، وتصرف خاطئ، وعدت لأسأل أحمد ناصر: لماذا لم تستفيدوا من هذا الطلاق الذي حصل بين عثمان وأسياس؟

أجابني أحمد ناصر: كنا ننظر بمنظار وطني، وليس لتكريس وخلق تنظيم جديد، لأننا نعرف عقلية عثمان وعقلية أسياس. لقد عملنا بمفهومنا وهو الوحدة الوطنية.

قلت لأحمد ناصر: هذا كلام نظري! ألم تضر بكم وتدّمركم الجبهة الشعبية وجبهة تحرير تغراي1981؟ عندما اتحدوا ضدكم ودمّروكم دون رحمة؟

كنا نريدهم متماسكين.

يا أبا عمار ماذا كانت ستفيد هذه الاتفاقية مع البعثة الخارجية إذا لم تطبق في الساحة؟

كانت هناك مساعي تجري فيما بينهم، وقد تم لقاء بين البعثة الخارجية بقيادة عثمان سبي، واللجنة الإدارية بقيادة أسياس أفورقي في الخرطوم، ومثّل الطرفين عثمان وأسياس وبدلاً من العودة إلى بعضهما بعضاً، تمّت الطلقة النهائية عام 1976، ونتيجة لهذا الطلاق أصبح في الساحة ثلاثة تنظيمات وزاد الطين بله.

قال أحمد ناصر: حاولنا أن ندفع من أجل لملمة الطرفين بعضهما مع بعض فما كان من أسياس إلا أن قال: أنا لا أجلس مع عثمان مطلقاً وعثمان يقول أنا لا أجلس مع أسياس...

كان أسياس يقول: دعونا نتفاوض نحن وإياكم، أي الجبهة الشعبية وجبهة التحرير، إننا لا نقبل ععثمان ولا نقبل أية اتفاقية وقّعها.

قال أحمد ناصر متابعاً حديثه: بقينا لمدة عامين من 1975-1977 ندافع عن مواقفنا، وللأسف فإن اتفاقاً غير معلن كان بين أسياس وعثمان لمحاربتنا، عثمان يقول إننا ماركسيون، وأسياس يقول إن الجبهة تتعامل مع سبي الرجعي، ولا تتعامل مع المقاتلين الذين يسفكون دماؤهم.الجبهة تتعامل مع رواد الفنادق الفخمة وتقصد سبي الرجعي.

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click