ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الخامسة والعشرون
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
مرة أخرى إلى أرتريا: ودّعت عثمان سبي في الخرطوم، وركبت الطائرة وتوجّهت إلى بور سودان.
واستغرقت الرحلة من الخرطوم إلى بورسودان بالطائرة ذات المحركين أربع ساعات.
وفي بورسودان استقبلني مندوب قوات التحرير الشعبية محمد علي حرمتاي وعرفني على المقدم السوداني حردلو المسؤول عن الأمن في بور سودان والمختص بشؤون الاغرتريين، وكان الأخ العقيد خليفة كرار قد أعطاني رسالة توصية للمقدم حردلو وعندما قدمت له الرسالة قال لي: إن الأخ خليفة اتصل بي هاتفياً من أجلك.
ثم طلب إلى محمد علي حرمتاي الخروج واستفرد بي قائلاً: لدينا معلومات تؤكّد وجود مشاكل وبعض التصفيات في قوات التحرير الشعبية، ونرجو أن تأخذ بالك. وهذا بيني وبينك، وأنا سوف أوصي بك مسؤولي الأمن، حتى قارورة السودانية حيث تأتي بعدها قارورة الرترية.
خرجت من غرفة المقدم حردلو شاكراً له هذا الاهتمام، وهذا التنبيه صحبني محمد علي حرمتاي إلى فندق ذي عشرين نجمة نمت فيه ليلتين متخفياً، ولا أعرف سبب ذلك، إلا أنني كنت أنفّذ التعليمات.
(أرجو من الله أن يلهم الجبهة الشعبية الافراج عن هذا المناضل الشهم والشجاع) غادرنا بورسودان أنا ومحمد علي حرمتاي إلى سواكن ومنها إلى توكر، حيث نمنا ليلتنا هناك، وبعد الظهر وفي الواحدة تماماً أخذنا نستعد للسفر إلى ارتريا مشياً على الأقدام.
وضعنا أمتعتي ومعداتي على جمل، كان قد استأجره حرمتاي مع سيده وعلى بركة الله.كانت الشمس قوية إلا أننا نريد أن ندخل إلى قرية قارورة السودانية في المساء، وكان حرمتاي قد اشترى لي خبزاً يابساً يسمى القرقوش وجبنه رومي أي قشقوان، وبعض علب البندةور والمعكرونة، وكان يحمل بيده ترمساً صغيراً، واعتقدت أن في الترمس شاياً جاهزاً لكنني اكتشفت أن فيه ماء بارداً، ومع شدة الحرارة شربت الترمس كله.
وعند وصولنا إلى قرية مرافيد كان سيل الانهار يغطّي الأرض بل يغمرها حتى 10-20 سنتمتراً فنخّخت الجمل وركبته خوفاً من صعوبة اجتياز هذا النهر أو هذا الخور العريض.
استغرقت هذه العملية أي عبور الماء حوالي نصف ساعة. وعندما اجتزنا الماء نخخت الجمل وترجّلت عندها أحسست بدوار في رأسي ووقعت على الأرض دون حركة، لقد ضربتني الشمس والماء البارد فعلا بي ولم أفق إلا وأنا ملقى على العنقريب بجانب مخفر الشرطة السوداني في مرافيد وبجانبي جلس حرمتاي وكأني طفل صغير وأمه تعتني به. كانت حرارتي عالية والعرق يتصبّب من وجهي، إلا أنني كنت واعياً تماماً وسألني حرمتاي: كيف حالك؟
الحمد لله.. جيد.
وجاءنا رجل شرطة وسألني عدة أسئلة شعرت من خلالها بتوصية المقدم حردلو ثم ذهب. قال لي حرمتاي: إن رجل الشرطة هذا كان خائفاً عليك واعتقد بأننا وضعنا لك السم يا أبا سعدة فهل هذا معقول؟ وأنت صديق عزيز.
هنا تبادر لذهني قول المقدم حردلو أنهم يصفّون بعضهم بعضاً، فهل أنا من هؤلاء الذين يصفّونهم؟.. ربما فأنا محسوب على جبهة التحرير الارترية، وأنا اليوم في طريقي إلى قوات التحرير الشعبية.
قال لي حرمتاي: إنه لم يكن يعرفني بالشكل، بل سمع عني كثيراً من المقاتلين والشعب وقال "إن شعبيتاك كبيرة والناس يحبونك".
في الليل جاءني ممرض سوداني وأعطاني بعض الحبوب وحقنة، ونمت على السرير، ونام على الأرض قريباً مني حرمتاي.
وقبل شروق الشمس بقليل صحوت فوجدت حرمتاي جالساً ينظر إليّ. والحقيقة أنه لم ينم تلك الليلة خوفاً عليّ.
ها كيف حالك يا أبا سعدة؟
وشعرت بتحسن كبير وتوقف العرق عن الترشح من جسدي، سألت حرمتاي: انتظر هنالك لوري متوقف في هذه المنطقة وفي الليل أرسلت الجمل وسيده وأحضر لنا بترولاً من توكر وباللوري سوف ندخل إلى قارورة.
بعد حوالي ساعة وصل اللوري وتوجهنا إلى قارورة بعد ثلاث ساعات من الهبوط والصعود بين أنين اللوري وعينين المحرك الذي لا ينقطع وصلنا بالسلامة إلى قارورة. إنها قطعة من جهنم.دخلت إلى خيمة مغطّة بقش كثيف، وجاءني بعض الأصدقاء ومنهم شاب كثير الحركة، وكان المسؤول عن المنطقة واسمه دافلة أي القوي، وكل خمس دقائق كنت أغتسل بالماء وأغسل السرير بعد عشر دقائق يجف السرير وأجف أنا.طوال هذا اليوم استمر هذا العمل هكذا، إلا أن المساء كان بارداً فأخرجنا العنكريب من الخيمة، وتعشيت وشربت اللبن، ثم جاء الطبيب ليفحصني، والحقيقة هو ممرض وليس طبيباً، وقام بفحصي وقال لي: خذ هذه الحبوب ستشفيك!
لم أتناول الحبوب لأني أعرف أن هذا الممرض ليس له علاقة بالطب، ولا بالطبابة بل تعلّم بالناس، وفي مساء اليوم التالي غادرت قارورة السودانية إلى قارورة الارترية والمسافة بينهما هو نهر وتابعنا سيرنا في الليل وكنت أركب الجمل وحرمتاي يمشي مع عدد من الحرس الارتريين.
إذن قطعنا الفيضان، وسألت نفسي (أنا قطعت فيضان نهر بركة فكيف لم تستطع اللجنة الادارية قطعه إذاً هنان إنّ)؟
عودة إلى المفاوضات بين قوات التحرير الشعبية وجبهة التحرير التي جرت في الخرطوم.
قال عثمان صالح سبي: نحن مفوضون، وعلينا ببدء الحوار، وهذه وثيقة من اللجنة الإدارية تثّبت بأننا مفوضون بإجراء الحوار معكم، وهذا التفويض جاء من قيادة الداخل في ارتريا، وذلك في شهر نيسان 1975.
سألت أحمد ناصر: أعتقد يا أخ أحمد بأن البعثة الخارجية أصدرت بياناً تقول فيه مرحباً بالحوار.
وأجابني أحمد قائلاً: ولمّا قرأنا هذه الوثيقة بدأنا بالحوار من جديد.
وقاطعته متسائلاً: ألم يأتكم أحد من اللجنة الادارية؟ ويقول لكم إننا لم نوقّع على مثل هذه الوثيقة ولم نفوض أحداً مطلقاً؟ لم نر أحداً ولم يخبرنا أحد؟
ثم قال لي: هل من المعقول يا أحمد أن ندخل بحوار سياسي طويل؟ ونحن نعرف من يمثّل الثقل في الداخل؟ أتريد أن نضحك على بعضنا؟ لوكان لدينا شيء من هذا لتوقفنا عن الحوار فوراً.
عدت وسألت أحمد ناصر: لماذا سكتت اللجنة الإدارية إذن؟ لماذا غشّوكم إذن؟
أجابني أحمد ناصر: اسألهم؟ أنت تعرف الجميع (والحقيقة أني أعرف الجميع ومراميهم).
المهم يا أبا سعدة أننا دخلنا في حوار طويل وعميق، ثم وقعّنا اتفاقية مهمة جداً لشعبنا ثم شكّلنا الوفد الموحد.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة