ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الثالثة والعشرون
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
إن الآلاف المتدفقة من المرتفعات، والتي أصبحت بشكل واضح دعماً لحروي بايرو بشكل عشوائي،
أصبحت بعد فترة قصيرة شبه منظّمة، وبدأت التنسيق مع حروي وأنا أقول بأنه رجل وطني وذكي جداً ومتعلم ومثقف فعلاً: إلا أن السلطة والشهوة للحكم كانت ثم بدأت تظهر عليه وذلك من خلال خلافه مع صديقه الحميم عبدالله ادريس الذي وصفه حروي بأنه جياب ارتريا كان ذلك فيما مضى، وعندما كنتُ في حماسين شرحت لي فتاة تدعى فضة: كيف كان حروي يمارس السياسة على الفلاحين البسطاء حين يقول: نريد أن نخلق منكم زراعيين ثوريين لا فلاحين زراعيين.!
لم يكن أحد يفهم ما يقوله حروي إلا القليل من المناضلين، إن سقوطه في المؤتمر الثاني للجبهة أدى إلى افرازات سياسية معفدّة، خُطط لها على مستوى طائفي بأيدي مناضلين، بعض هذه العناصر طالبت بمؤتمر عسكري لحل القيادة وانتخاب قيادة جديدة، أي انقلاب داخل الجبهة.
ثم أن إفشال المعارك ضد أثيوبيا وبالذات معركة بارنتو التي شاركت فيها مع البطل الشهيد/ محمود حسب كانت دلالة على هذه الافرازات السلبية الطائفية.
إن صداقة الأمس المزيقة أو مصلحة الأمس انتهت مع انتهاء ترؤس ادريس محمد آدم للجبهة وانحياز حروي إلى جانب الوافدين وإحساس عبدالله ادريس، أن البساط سُحب من تحت قدميه، أو بدأ يُسحب فما كان منه إلا أن بدأ التعبئة لخلع /حروي/ فكان له ذلك.
وهنا غلطة قاتلة إذ أن حروي لعب دوراً في تصفية الجبهة بشكل أو بآخر وبتشكيل ما أطلق عليه الفالول أي الفوضويين، كان من المفروض على الأخوة - ولو تكتيكياً - ألا يُبعد حروي عن المجلس الثوري. ولتكن العملية تكتيكية لصاح الجبهة، وعندما سيلتزم حروي بالجبهة، ألم يكن الرجل الثاني في الجبهة؟بل كان الرجل الأول فعلاً، وإذا قفزنا إلى بعد 24 عاماً، وعندما التقيت بحروي في فندق (نيالا في اسمرا) وبعد العناق والقُبل عرّفته على أعضاء الوفد السوري الذين يشاركون في التهنئة وإقامة علاقات سياسية مع ارتريا قلت لهم: صديقي حروي بايرو رئيس جبهة تحرير ارتريا سابقاً.
ضحك حروي وقال:
قل لهم يا رفيقي العزيز، إني أنا كنت رئيس جبهة تحرير ارتريا وللأسف أقول كان حروي هو المتزعم للفالول، لأنه يتمتع بذكاء حاد وإمكانية في إقناع الناس، إلا أن ممارساته التنظيمية ودفعه للاقتتال والتصفية وممارساته على المواطنين في المنخفضات والمرتفعات واستكباره وضربة للتقاليد (وأهل المنخفضات لهم تقاليدهم وأعرافهم ومتمسكون بأبسط الأمور العائلية ربما يكونون منغلقين على أنفسهم في قضايا تمس الشرف والأخلاق العامة. أما سكان المرتفعات فهنم يختلفون كلياً عن سكان المنخفضات وهذا لا يشمل كل سكان المرتفعات أبداً فلكل طبيعته).
إن سقوط حروي لاشك كان له تأثيره على الساحة، وأقول هنا وبصراحة كان الرفاق ينقصهم الدهاء السياسي، والحكمة والرؤيا المستقبلية .والحقيقة تقال إن هناك أشخاصاً منبهرين بحروي فمن قائل بأن الشيوعيين المسيحيين عملوا تحالفاً بعضهم مع بعض، ومن قائل أن عبدالله إدريس وصالح أياي تحالفاً ضد حروي.
وسرت اشاعات كثيرة مختلفة وتفاقمت المشاكل ضمن الجبهة وهنا شكّل ما سمي بالفالول وهذه الكلمة تعني الفوضويين وهي كلمة تجرينية. كان من بين هؤلاء الناس أبرياء وكان منهم من اعتنق آراء حروي ومنهم المتطرفون. إذن حروي تدلا بايرو هو الذي أنشأ الفالول بل كان رئيسهم.
إن سقوط حروي كان لتشبثه بالسلطة وانفراده بكثير من الأمور، أو بشكل أوضح كان يجيد للعب بالسلطة. كان يحب نفسه، وكان يشرب كثيراً. وفي الريف الارتري هناك أسياء غير مألوفة، فقد كان يمارس التعالي على زملائه فمثلاً: عندما كان وزملاؤه يريدون التوجه، من منطقة إلى منطقة، يجد وسيلة نقل أما زملاؤه فيمشون، سمعت هذا من فتاة من المرتفعات وأسمها /الكانيش. هذه الفتاة تحدّثت لي كثيراً عن حروي وممارسته تجاه الفتيات، هذه الفتاة تحدّثت لي كثيراً عن حروي وممارسته تجاه الفتيات ثم قال لي قسيس في سرايي.
لم نكن نشعر بأن حروي ولدنا، كان يعاملنا بترفع وفظاظة، من جراء معايشتي للشعب الارتري في الريف، وعلى مدى سنوات طويلة بدأت أفهم وإلى حدٍ ما طبيعتهم وتقاليدهم.
فمثلاً: في منطقة بركة حضرت زفافاً ذبحت فيه الخراف، وأقيمت حلقات الرقص والمباريات بالخيل والقفز مع السيف والترس، وحين حانت ساعة الدخلة مددت رأسي إلى الخيمة المنصوبة للعريس فوجدت السرير عبارة عن قطع من جلود البقر مشدود شداً محكماً وقوياً، وفي أركانه أوتدة مغروسة في الأرض، ويدا وقدما العروس مدهونة بالحناء وبأشكال هندسية وعلى صدرها كثير من قطع الذهب، وفي قدميها خلاخيل، وفي انفها شنافٌ وهو قطعة كبيرة على شكل دائرة من الذهب، وترتدي ثوباً طويلاً ورأسها مغطى، وتتدلى على جبينها خصلة مضفورة من الشعر، ويدخل العريس بزفة وتقريباً كعاداتنا ويكون معه واله والمقربون إليه، أما المهر فكثير من الإبل والأغنام، ينام العريس مع عروسه يوماً واحداً، ثم يغادرها ولا يعود وفي أحسن الأحوال قبل عام.
أما العروس فتبقى داخل الخيمة مدة لا تقل عن 15 يوماً، ولا تخرج من الخيمة مطلقاً إلا فيما ندر وللضرورة القصوى. وحول الخيمة تجتمع النساء ويقمن بالزغردة والغناء والضرب على الدف والرقص ويقدّم أهل العريس الطعام والماء لمدة أسبوع لكل من يأتي ويشارك في الحفل.
إذن هناك عادات وتقاليد لا يستطيع الإنسان تجاوزها مطلقاً، فالشرب أي تناول الكحول غير وارد مطلقاً في المنطقة الغربية والساحل، وعلى مدى السنوات التي عشتها في الريف لم أرى شخصاً واحداً يتناول الكحول ضمن هذه المناطق، ومن يتناولها فهو ملعون، لكن وفي المرتفعات ومدنها فشرب الكحول وغيره هي أشياء عادية أو أقل من عادية. من هنا بدأ الكره لحروي من قبل المواطنين العاديين وذلك لتجاوزه واستهتاره بالأعراف والتقاليد.
في روما التقيت بحروي مرتين متباعدتين وجلسنا في مقهى في شارع الجمهورية أو بالأصح بيازا ريبابليكا أي ساحة الجمهورية وامتدّت جلستنا إلى الفجر.
قال لي: يا أبا سعدة هل تصدق بأن عبدالله ادريس وحبيبك صالح اياي هما اللذان تآمرا عليّ في المؤتمر الوطني الثاني، وذلك لإبعادي عن الساحة، هذا باختصار شديد جداً ما خرجت به من حروي، وهو التآمر عليه لأنهما أي صالح أياي وعبدالله ادريس (والرفاق شعرا بأن الجماهير التفت من حول حروي) وأصبحت له شعبية، وارؤية السياسية التي يملكها والتي آمنت بها الجماهير. خافا على نفسيهما من السقوط فتآمرا عليه، قلت لحروي: ألم تطلق على عبدالله ادريس جياب ارتريا؟
صمت ولم يجب؟ افترقنا ولم نلتق إلا بعد فترة طويلة.
تفاقمت مشكلة الفالول وأصبح من الضروري معلجتها، لا بالسلاح بل بإجراء سياسي، ينهي هذه المشكلة التي بدأت في عام 1975 و1976 و1977، تدريجياً كنت أحس مدى الخطورة التي تواجه الجبهة (وقلت لصالح اياي): يجب أن تعالجوا مشكلة الفالول وقبل كل شيء أن تتفاهموا مع حروي تدلا بايرو، إنه رجل وطني مثقف.
لكن كما يبدو لم يخرج كلامي أبعد من آلة التصوير حين أضعها على عيني - قال لي أحمد ناصر:
لقد استعملنا الليونة السياسية مع هؤلاء ولا يبق من الفالول إلا القليل، لكن الليونة السياسية استثمرت، من الجانب الآخر واعتبروها حالة ضعف، وبدأوا يشنّون علينا الحملات لتضليل الشعب والجنود، مرة يقولون بأننا شيوعيون وأصحاب حزب العمل وضعونا بين فكي كماشة، طرف يتهمنا بالليونة السلبية والطرف الثاني يتهمنا بالتطرف.
وفي نهاية عام 1977 استطعنا أن نطهّر الساحة الارترية، وبقيت هناك بعض الجيوب موزعة على امتداد الساحة الارترية وما حدوث التصفية إلا دليل على وجود هذه الجيوب أليست حادثة قتل الشهيد البطل/ عبدالقادر رمضان الذي اغتيل في دنكاليا على يد الفالول الذي يرأسه حروي.
سألت أحمد ناصر: ألا تعتقد أن حروي له يد في عملية اغتيال الشهيد عبدالقادر؟
أجابني أحمد ناصر: لم يكن لحروي يد في عملية اغتيال عبدالقادر..
إن عبدالقادر رمضان كان محبوباً من الشعب الارتري كافة، لم يكرهه أحد، سوى القلة من القادة السياسيين الذين كان يضرب على رأسهم ويطلب إليهم الصحو من الفساد، وإن أول مرة التقيت به كان في منزلي على الغداء وفي حي الميدان وكان معه المرحوم الشهيد/ محمود ابراهيم وصالح اياي و ادريس قريش وشفا.
قال لي عبدالقادر: إنك تحب المغامرة والتصوير، تعال إلى الميدان، أي إلى الساحة الارترية لنقوم بعمل كبير ضد الأثيوبيين تقوم بتصويره.
كان لطيفاً وضحوكاً كم كان رقيقاً وحساساً والمرة الثانية عندما تعشينا سوية في مطعم صحارى في الخرطوم كان برفقته حمد محمد صالح الذي كان في حينها رئيساً للمحكمة في الميدان. رويت لهم ما حصل لي في عايلت وشد ما تألم الشهيدان، إن حمد محمد صالح كان رجلاً ذا طبيعة هادئة لا يتكلم إلا قليلاً.
لكنه عندما يتكلم ويشرح ويحلّل، تحس بأن أنهار العالم أنهار المعرفة والثقافة قد فتحت، ترك عملة في السعودية وكان قاضياً والتحق بالثورة في وقت مبكر جداً، عندما كنت ألتقي بالمرحوم حمد صالح كنت أشعر بالراحة والاطمئنان.. كنت أفضفض له وهو يسمعني مصغياً بانتباه، كنت أحدّثه ساعات وساعات، لم يملّ مني مرة واحدة.
كنت اسميه الصامت المثقف كان بسيطاً يحب وطنه، رغم أن والدته "سودانية - مصرية" ووالده ارتري. والغريب أنه ولد في مشفى في القاهرة وفي المشفى نفسه توفي..!
ورحل هذا الإنسان الذي أعطى حياته ولم يعطه الاستقلال شيئاً. جاءت به حكومة الشعبية للقاهرة بقعد أن كان منتهياً، كان قد عُين من قبل حكومة الجبهة الشعبية رئيساً للمحاكم اسماً فقط وليس عملاً.
شرحت له وجهة نظري في القيادة واتجاهها إذا لم أقل انحرافها وهو يقول لي: لا تقل يا أحمد أن القيادة انحرفت أو بدأت تنحرف. ولا تنسى أننا الاثنان من أعضاء القيادة.
سايرته وقلت له: لم أقل القيادة كلها، بل أكثر من نصفها كان في حينها/ عبدالقادر رمضان يتجه إلى دنكاليا عن طريق عدن كان هذا آخر لقاء بيننا وروى لي هذه الحكاية.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة