ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الثانية والعشرون
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
أ) الاستعداد للمؤتمر الوطني الثاني:
اتجهت النية للإعداد للمؤتمر الوطني الثاني في جبهة التحرير، وبدأت الاستعدادات لانعقاد المؤتمر.
قال لي أحمد ناصر:
إن حوالي ألف شخص يمثلون قطاعات الشعب كافة، من عسكريين ومدنيين و شيوخ القرى وغيرهم. ولقد حضرت القيادة السابقة كلها، إلا أن عمنا الشيخ إدريس محمد آدم حضر، ولم يرشح نفسه مرة ثانية. كان هذا لشعوره بما حصل وما كان متوقعاً أن يحدث.
لي ملاحظة هنا.لم تدعوني قيادة الجبهة إلى حضور المؤتمر الوطني الثاني، وذلك للقطيعة التي كانت قائمة بيني وبين الجبهة لم أكن أسأل هذه القيادة شيئاً خاصاً بهم، أو أفعل شيئاً خاصاً يمسّ شخصياتهم. لكنهم كانوا يقولون الكثير عني وكنت أتغاضى عن ذلك، كانوا يتعاملون معي - إذا لم أقل كلهم - فأكثرهم على أسس سياسية.
أما أنا فقد تعاملت معهم على أسس أخوية.للأسف لم يقدّروا هذا، ليست لي مصلحة مادية، لم يكن لي نظرة خاصة حتى أتعامل معهم، كنت عربياً سورياً ورؤيتي تأتي من رؤية بلدي للقضية الارترية، كان همي هو استقلال شعب ارتريا، ومساندة هذا الشعب المظلوم والمغلوب على أمره، قيادة الجبهة كانت تعاملني للأسف حسب مصلحتها، وعلى هذا الأساس. وأنا أمضي في الطريق الذي عاهدت نفسي عليه. أحببت هذا الشعب الأمين الذي منحني مودته واحترامه.
وهذه سالفة أخرى أرويها لكم:
أثناء تواجدي في ارتريا وأثناء وجودي في منطقة ادريس دار، حيث كان هناك مركز الإعلام الداخلي، وكان مسؤولاً عنه في ذلك الوقت المناضل/ عمر محمد الملقب بـ ك. ب. ج وهذا اللقب أطلقه عليه حروري بايرو ذهبت إلى هناك لأستطلع حالة آلات التصوير التي اشتريناها من الكويت أنا والأخ/ صالح أياي عندما كان مسؤولاً عن دنكاليا كنا قد اشترينا هذه الالات بآلاف الدنانير، والأخ محمد عمر يحيى شاهد على هذا، بحثت عن هذه الآلات المتطوّرة فوجدتها مرمية على التراب، دون أية عناية وهي في حالة من الرداءة بحيث لاتصلح إلا للاهمال والرمي في الزبالة. لعنت نفسي ولعنت صالح ولعنت كل هؤلاء المسؤولين كيف يفعلون هذا بتلك الآلات؟ ألم ندفع ثمنها الدنانير؟ وأنا على حالي هذه لمحت إمرأة تلملم القش والأغصان اليابسة، أردت أن أسلي نفسي وقمت بتصويرها ولم تبد المرأة أية معارضة فقلت لها: أرجوك أن ترفعي هذا الحجاب عن وجهك.
قالت بقوة: لا.!
لماذا يا أمونة؟
هذه هي عاداتنا، وهذه العادة ورثتها عن أمي وسأورثها لابنتي هذه، وكانت ابنتها صغيرة لا تتجاوز 4 سنوات واسمها عائشة.
الله يرضى عليك ارفعي الحجاب أريد أن أصوّرك.
لا.. لا..
في هذه الأثناء جاء زوجها، وشرحت له الوضع، فطلب من زوجته أن ترفع الحجاب فقالت: لا.. و"رطّنت"، أي تحدثت بلهجتها الخاصة، وقالت لزوجها أشياء لم أفهمها، وترجم لي أحد المناضلين الواقفين معي ولكن قبل أن أترجمها أقول لكم ما قاله زوجها: يا إمرأة.. ارفعي عن وجهك الحجاب.
الآن اترجم ماذا أجابته قالت: هل تريد أن ترى وجهي الآن، إنك لم تطالبني برفع الحجاب منذ أن تزوجنا على سنة الله ورسوله، ولن أرفع حجابي أبداً!
أليست هذه عاداتنا؟
وعرفت أن لها ولداً اسمه عبدالله وعمره 18 عاماً وهو موجود في الثورة.
قلت له: دعها وشأنها! فلن آخذ الجائزة الأولى، من تصويري وجهها. ورطن أحد الجنود قائلاً لها بما معناه:
إن أخانا وهو عربي من سورية واسمه أحمد، وإنه زعل منك وقال أنت حرة، إن قبلت التصوير أو لا تقبلي.
أجابت أمونة هذا الجندي: مذا قلت؟
أجاب الجندي محتداً: ألم تسمعي ما قلته لك؟
وكان الجندي شاباً صغيراً في عمر ابنها وقالت أمونة: سمعت، إنما أريد أن أتأكد.
وكرّر لها ما قاله في المرة الأولى. فطلبت من كل الموجودين وزوجها أن يذهبوا بعيداً، ووافقت أن ترفع الحجاب، ورفعته وسبحان الخالق فيما خلق. لم ترفع حجابها لزوجها الذي أعطاها وأعطته عبد الله وعائشة. وصوّرت وجهها عشرات اللقطات، وبعد أن فرغت من عملي، سألتها:
لماذا اقتنعت ورفعت حجابك؟
ألا تريد أن تشرب الجبنة عندنا؟
وذهبت مع زوجها إلى الكوخ، بعد أن غطّت وجهها، وأحضرت لي لبناً (أي حليب) وخبزاً مصنوعاً من الذرة الصفراء قالت لي: اسمك أحمد أليس كذلك؟.
نعم يا أمونة.
عندما أتى ولدي عبدالله، كان يحمل سلاحاً، وكان يلمع كثيراً، وشكله جميل وسألت ولدي: من يعطيكم هذا السلاح؟
إنهم أشقاؤنا العرب يا والدتي، هم الذين يعطوننا السلاح ويرسلونه لنا، وأنا فهمت يا أحمد أنك عربي ولهذا رفعت الحجاب عن وجهي.
إن هذه القضية البسيطة والتي قد لا يقف عندها الكثيرون، وقد يصفها بعضهم بأنها التخلف بعينه، لكنني أنا شعرت كما أشعر باستمرار، بأمانة الشعب الارتري. لقد رفعت الحجاب لأني من بلد عربي، وتعرف أمونة من كان مع الشعب الارتري الذي كان يعطيني القوة حتى استمر في هدفي حتى النهاية. أنا لست نبياً أو أختلف عن غيري بل كنت أعيش بعقلي وروحي مع الشعب الارتري. كنت أحس وأرى ما يحدث داخل الجبهة من تصرفات أكثر القياديين الذين دمّروا الجبهة وأنهوها بتصرفاتهم الشخصية.
والآن نعود إلى أحمد ناصر قال: عندما تخلفت عن المؤتمر الوطني الثاني، كنت في بيروت لبعض العمل أنا والأخ حمد محمد صالح لم أستطع أن أغادر بيروت بسبب الحرب الأهلية، أتذكر يا أبا سعدة عندما قامت الكتائب بعمل كمين لباص وقتلوا من كان فيه؟ كنت أنا في بيروت.
وسألته: ماذا حدث في المؤتمر الثاني يا أحمد؟..
وأنا أعرف أمانة وأخلاق أحمد ناصر فهو الذي سيقول لي الحقيقة قال:
الشيء الجديد في المؤتمر هو مشاركة كل الارتريين من آخر المرتفعات إلى الحدود السودانية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، حضر الارتريون للمشاركة في هذا المؤتمر، إن هذا الحضور أضاف عنصراً جديداً في سياسة الجبهة. وإن القتال الذي دار بيننا وبين الجبهة الشعبية أوقف، إن التدفق الكبير الذي أتى من المرتفعات وغيرها أضاف عنصراً آخر، أضاف إليهم تفسيرات القادة والجنود والذي تركّز على عدم الحوار مع قوات التحرير الشعبية.
بعض الأخوة تكلموا بعفوية، وبعضهم تكلم لغرض في نفس يعقوب، في هذا الجو تم الصراع بين الموجودين، وفي النهاية تم انتخاب قيادة جديدة وأقصي بعض القياديين البارزين والذي برز على السطح مشكلة حروي وزملائه حروي لم يأت لا في القيادة ولا في المجلس، إنني أقف هنا لأروي ما أعرفه عن حروي، إن حروي ابن رئيس الوزراء السابق تدلا بايرو وكان هذا سكرتيراً لحزب الوحدة مع أثيوبيا وهذا الحزب كان موالياً للأثيوبيين، وتأسس حزب الوحدة في 1941/5/5 وقد انضمت إليه بعض قيادات جمعية حب الوطن 1946 وسكرتير الحزب "تدلا بايرو" وكانت أهداف الحزب أهمها المطالبة بالوحدة مع أثيوبيا أما مصادره المادية فكانت من الكنيسة القبطية والحكومة الأثيوبية.
أقول إن الذي عرّفني بحروي، هو الأخ صالح اياي فكان لقائي الأول مع حروي في منزلنا في حي الميدان، كنت واياه من تفكير واحد، وكما يقولون نحن تقدميون، كان في البداية يتكلم العربية بركاكة، ويعتبر نفسه منظّراً ولعب دوراً هاماً في جبهة التحرير الارترية، ويعتبر من المهمين في حزب العمل الارتري، ذي الصبغة والاتجاه الماركسي اللينيني. كان حروي "دينمو" الجبهة والمحرّك الأول بعد انتخابه نائباً للرئيس في المؤتمر الوطني الأول، إن الرفيق حروي من المؤيدين والمتحمسين لتصفية قوات التحرير الشعبية وكان يسألني دائماً أين ما التقينا؟
ما رأيك بتصفية الشعبية؟
لم أجد لهذا السؤال أي معنى فالحرب الأهلية مستمرة والارتريون يتساقطون يومياً، كنا إلى جانب بعضنا بعضاً في أكثر من موقع في ارتريا وعدن ودمشق، نعم كنا في عدن سوية كنا نجتمع يومياً في فندق السيلورز كلوب، حروي و عمر محمد و محمد صالح حمد و الدكتور يوسف برهانو و صالح اياي و كبريتاي وأحياناً محمد عمر يحيى لأن هذا رجل محافظ لا يتناول أي شراب كحولي، أما نحن ماشاء الله فكلنا قرباً مثقوبة.
سألت صالح اياي في حينها: ألا ترى أن تصرفات وطروحات حروي غير سليمة أم لا؟
ثم أضفت: اسمع يا صالح - إن ما يفعله حروي سوف يؤدي إلى ضرب الجبهة على المستوى البعيد.
وهذا ما حصل فعلاً بقصد أو دون قصد وإني أروي بعض الأمثلة هنا.
حاول حروي بعد التفق الكبير من المواطنين الارتريين سكان كبسة المسيحيين الذين تدفقوا بالآلاف وكانوا متعلمين، وقسم منهم مثقف، وإذا سألتموني عن سبب تعلّم أهل المرتفعات عن غيرهم فالجواب بسيط ومعروف لدى عموم الشعب الارتري، لكني أقول هنا، وأنا الذي عشت الثورة الارترية على مدى 26 عاماً لم تطلق رصاصة واحدة من سكان المرتفعات قبل عام 1974 وبصعوبة تامة وبدماء غزيرة من قبل ثوار الجبهة رسّخوا المفاهيم السياسية والكفاح المسلح في المرتفعات الارترية، إن الاستعمار الأثيوبي وسكان الهضبة كانوا في وقت من الأوقات متعاونين تعاوناً وثيقاً مع بعض، والارتريون الذين عاشوا في المرتفعات وبشكل طوعي كانوا مدعومين من الجيش الأثيوبي. إن سكان المرتفعات كانوا مرتاحين والمبشرون الوربيون والأمريكان لغبوا وما زالوا يلعبون دوراً في بذر الشقاق والتفرقة بين الارتريين.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة