حرب الجياع - الحلقة السابعة والثلاثون

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية

حقيقــة ما جــرى:

وجهة نظر الحكومة الارترية:

الانطباع الذي خلفته المراحل الأخيرة للحرب بين ارتريا واثيوبيا،

عالمياً، كان بالغ التشويش والخلل، بسبب آلة الدعاية الاثيوبية التي أدت بدورها لخداع الصحافة العالمية. وتبعاً لهذا السيناريو فإن ارتريا قد هزمت شر هزيمة وحكومتها وشعبها أرغما على الخضوع. غير أن الصورة من الجانب الارتري تبدو مختلفة تماماً. وبالطبع، فإن الحقيقة ليست خافية على الجيشين المتحاربين ولا على المراقبين الذين تابعوا تطورات الحرب بالأقمار الصناعية وغيرها، فيوماً ما ستظهر الحقيقة ويعرفها الجميع.

بكل أسف، ستظل في الذاكرة البشرية ولمدة طويلة ترهات من قبيل ما سمي "بحملة الأغبياء" التي تروي بأن الاثيوبيين تسللوا عبر الحدود علي ظهور الدواب. هذا الهجوم، لو استبعدنا جانبه الدرامي العالي الإثارة، كان غير ذا فائدة عسكرية تذكر. فمنذ البداية لخصت الحكومة الارترية العملية الاثيوبية برمتها بأنها ليست أكثر من لهاث وراء الأراضي ظناً بأن التفوق العددي بشرياً سيجلب الهدف. كانت استراتيجية الحكومة الارترية المعلنة هي أن تحارب بأقل الخسائر البشرية حتى تدمير القوة الغازية نهائياً. هذا ما فعله الروس، تقريباً، ضد نابليون وهتلر. ولا عاقل يمكن أن يصف أياً من الغازيين بالمنتصر. فقد شهد كل من نابليون وهتلر نهايتهما في روسيا. والأن، سيكتب هذا الغزو نهاية الأقلية التي دبرته؟.

لقد أفرطت الصحافة العالمية في استباق الأحداث. توقعت سقوط مدينة مندفرا والهجوم على أسمرا. وسمح بعض الذين نصبوا أنفسهم "كمسؤولين" لخيالهم بالحديث عن كماشة ضخمة طرفيها القوة التي رابطت في بارنتو لتتحرك باتجاه مفرزة قادمة من اثيوبيا بعد عبور نهر مرب باتجاه جنوبي ـ شرقي ليهاجم القوات الارترية في زالمبسا. هذا الخيال لا يجرؤ عليه سوى مدعو المعرفة بالتحليل والتكتيك العسكري ومعرفة طبيعة تلك المنطقة، وسبل عزل القوات.

وكما أثبتت الأحداث فإن الجيش الاثيوبي الذي ذهب لبارنتو بقي مقصياً هناك. وخلال الأسبوعين اللذين قضاهما هناك شرع في نهب سوق المدينة. تحركت قوة كبرى باتجاه أسمرا في ما يشبه عملية اختراق من ضواحي بارنتو وتصدت لها قوات الدفاع والطيران الارتري وأبيدت تلك القوة. أما القوات التي عهد إليها بالاستيلاء على بلدة عرزا فلم تستطيع أن تتقدم أكثر من بلدة ماي ـ دما، حاولت قوة أخرى أن تعبر لداخل ارتريا قريباً من "عدى خالا" إلى "عدى قشي" ومن ثم تصل إلى "دعر وقنعات" وكان مصير تلك القوة هو الإبادة. في جبهة "ظرونا" اقتصرت المعارك على مناوشات بالمدفعية. فالاثيوبيون كانوا على علم بأنهم لا يستطيعون اختراق هذه المنطقة الحصينة، أثناء ذلك كانت زالمبسا آمنة تحت السيادة الارترية وكذلك جبهة بوري. وهذه شهدت تبدلاً بنيران المدفعية ومناوشات متفرقة.

ما يتعلق بالطيران الحربي الاثيوبي ورغم سيطرته المطلقة على الأجواء إلا أنه لم يستعرض قدراته في الدعم الأرضي المباشر أو يقوم بضربات قاصمة أو استراتيجية. وكل ذلك الاستثمار الضخم الذي نفقته الحكومة الاثيوبية في شراء الطائرات الحربية الروسية وأطقم قيادتها من المرتزقة الروس لم يتعد بضع قنابل ألقيت على مطار أسمرا ومحطة توليد الكهرباء في حرقيقو جنوب ميناء مصوع. من الجانب المقابل فالطيران الارتري المحدود سجل أدوار حاسمة في قطاعي بارنتو و "تسني".

وعندما قلبت القوات الارترية مجرى الحرب تم إقصاء الغزاة الاثيوبيين من بارنتو وتسني. وبشكل خاطف عادت الأوضاع إلى سابق عهدها قبل هذه الجولة من الحرب. وتماشياً مع قرارات منظمة الوحدة الإفريقية انسحبت القوات الارترية لعدة أميال من جبهتي زالامباسا وبوري داخل الحدود الارترية. وعوض أن تطبق اثيوبيا قرارات (م.و.أ) سارعت قواتها للتوغل في العمق الارتري حتى بلدة "سنعفي"، وانطلقت التكهنات الصحفية، مثل أن "عدي قيح" صارت على وشك السقوط. بل أن راديو صوت امريكا أعلن سقوطها بالفعل للقوات الاثيوبية.

في يومي 9-10 من يونيو، وقبل يوم واحد من انقضاء المهلة المحددة لاثيوبيا من قبل المنظمة للقبول بوقف إطلال النار، شن الاثيوبيون هجوماً بجيش يفوق قوامه عن 4 فرق في جبهة عصب. كان الهدف هو الاستيلاء على الميناء لخلق الأمر الواقع شبيهاً بما حدث لهيرمان كوهين وكبار المسؤولين الاثيوبيين في عهد الدرق في مؤتمر لندن عام 1991م. وقتها حاول كوهين هندسة تحالف بين الحكومة والفصائل المعارضة. ولكن هذا المسعى لم ينجح لأن الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا، الحليف الأساسي للجبهة الشعبية لتحرير تفراي، كانت ضد ذلك المشروع. وكما هو متوقع فقد سحقت كل الحملات الاثيوبية. وعلى الفور وافقت اثيوبيا على وقف إطلاق النار وطالبت بقوات حفظ السلام تابعة للمنظمة الدولية لحماية اثيوبيا من هجمات ارترية. كانت هذه هي حقيقة الأوضاع التي قبلت فيها اثيوبيا وقف إطلاق النار وعملية السلام.

من الصعب تحديد الخاسر من المنتصر في هذه الحرب. والاحتمال القوي هو عدم وجود منتصر، وإنما خاسرين فقط. رغم ذلك، لو حدث ورأى كلا الطرفين أنهما منتصران فهو المطلوب. وهذه هي الوضعية المثلى لفض النزاعات. باختصار، إن حالة غالب ومغلوب تتحول إلى وضعية كسب مشاع للجميع. إنه وضع أشبه بعراك شخصين على ليمونة، ثم الاتفاق بعد ذلك. أحدهما يأخذ القشرة لأنه يريد الانتفاع بنكهتها في صنع مشروبات خاصة به بينما يلتهم الأخر اللب.

من جانبها حققت ارتريا القبول برسم الحدود طبقاً للحدود الاستعمارية كأنجح السبل لحل المشكلة. وهذا كل ما كانت تبتغيه بالنسبة لاثيوبيا. حيث أن انسحاب القوات الارترية من المناطق المتنازع عليها يعتبر مكسباً. رغم أن ملكية تلك المناطق ستحدد مستقبلاً بالترسيم. وعلى اثيوبيا أن تلعق جراحها وتقبل بحقيقة أنها لم تستطيع قصم ظهر الجيش الارتري ولا قدراته القتالية، أو تغير النظام في ارتريا. أما عصب والبحر الأحمر فسيظلان دوماً كالسراب البعيد. ويبقى التخريب والعبث بالممتلكات وتشريد 750.000 ارتريا شواهداً على الإنجازات الجبانة لأناس مصابين بعقدة أوديب. أما الإنجاز الطويل الأمد فهو دق إسفين من العداء بين الشعبين في تجراي وارتريا.

إن عدم قبول اثيوبيا بعملية السلام ودخول قوات سلام تابعة للمنظمة الدولية لمناطق النزاع لا يترك خياراً لارتريا سوى طرد اثيوبيا بالقوة. فالجيش الاثيوبي وصل إلى قمة أدائه وكفاءته. ومن الآن فصاعداً فكل الأشياء ستتجه نحو الانحدار، واثيوبيا تلعب بالنار في كل يوم تقضيه فوق الأراضي الارترية قبل بدء عملية السلام.

فمن المؤكد أن الجيش الاثيوبي بني خططاً معقدة بدت براقة على الورق.. وعموماً، فالجنرالات الروس معروفون بولعهم بالخطط العسكرية الضخمة. لكن الجيش الذي بنته جبهة تجراي ليس بتلك المقدرات لتنفيذ خطط مقعدة من قبيل حركة الكماشة. تحركات تقتضي الدقة والمرونة ولا تعتمد على الصدف أو الظروف. فعندما قصت القوات الارترية أيدي هذه الكماشة سرعان ما تداعت كل الخطط في غرب وجنوب ارتريا.

وقد لخص قائد القوات الاثيوبية تلك الاستراتيجية والتكتيك الذي اتبعه جيشه بأنه حديث مع قابليته للتغير. شيء أقرب للحرب الخاطفة على القرار الألماني. وعلى النقيض فقد اعتبر التكتيك والاستراتيجية الارترية جامدين ومتحجرين. ووصل الأمر بأحد المسؤولين الاثيوبيين ليصرح قائلاً إن الجيش الارتري يفتقر للمعرفة أو الدراية بالحرب التقليدية. هؤلاء الاثيوبيون نسوا بأن الارتريين طردوا الجيش الاثيوبي عام 1991، ووسيلتهم الأساسية في ذلك كانت هي الحرب الميكانيكية التقليدية، كما نسوا أيضاً بأن الوحدات الارترية المدرعة هي التي كانت رأس الرمح في دخول أديس أبابا.

وللمراسل الحربي وصف دقيق للتكتيكات الاثيوبية، التي وصفها بأنها عتيقة مثل ما استخدم في معركة "عدوة" في القرن التاسع عشر، إنها حرب أشبه بالفارس والثور على الحلبة.

كان الأداء العسكري الارتري عندما ينظر إليه من زاوية المقارنة العددية للسكان 1-20. فشكل الخريطة الارترية في حد ذاته هو عبء تكتيكي واضح. هناك مناطق هشة مثل القاش ـ ستيت، ثم سهول "هزمو" وهي مناطق إنتاج الغذاء في ارتريا، وتقع قريباً من الحدود الاثيوبية. وأفضل عمق استراتيجي في ارتريا يوجد في ساحلها البحري ووسطها الذي لا يسهل الوصول إليه، ومناطقها الشمالية الغربية.

إن الدفاعات الطبيعية لتلك المناطق الهشة تقع بجانب الحدود. واي انسحاب من هذه المناطق يقتضي التراجع أميال عديدة للعمق الارتري. لذا فعندما انسحبت القوات الارترية من مناطق النزاع تمكنت القوات الاثيوبية من دخول "ضعفي" وشردت آلاف السكان لتمارس نهبها المعهود للممتلكات. وعموماً، فهذا هو الضرر الوحيد الذي ألحقته اثيوبيا بالبلاد. كانت القوات الارترية واثقة من نفسها فانسحبت لتعطي السلام فرصة. واغتنمت القوات الاثيوبية تلك الفرصة وتقدمت، ومرة ثانية فرضت القوات الارترية هيمنتها وردت القوة الغازية على أعقابها.

إن الجيش الذي يدافع ثم ينسحب ليتقدم لهو جيش لا يقهر. هذا هو طابع الحرب وهذه مزايا أكدتها قوات الدفاع الارترية مراراً. إن ما يطمئن هو تلك الروح الارترية المصادمة الجسارة في مواجهة الأخطار وبذل الروح حتى درجة الاستشهاد وهي المزايا التي حققت الاستقلال لهذا الشعب.

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click