مجموعة قصصية من شتاء اسمرا (القصة الثالثة) دفعة الإنجاز
المصدر: عزة برس تأليف الكاتب والروائي: هاشم محمود
تلك الدفعة الجميلة والمبدعة تتكون من عدد من الجنسيات جمعتهم دورب العلم والمعرفة
فمنهم طلاب من عدد من الدول الافريقية والعربية
بالإضافة إلى الطلاب السودانيين القادمين من مختلف ولايات السودان المتنوعة.
وهذا هو سر هذه الدفع..!!
تم توزيعهم جميعا بكلية الدراسات التجارية، ولانهم فى عامهم الأول كان من الطبيعى ان يكون هناك شيء من التحفظ حتى تتقارب المسافات بينهم ويشكلون كيانا واحدا، ومن هنا بدأت حلقات التعارف فيما بينهم والجميع مسرور بتواجده فى الجامعة فهى لحظات لا تنسى ابدا.
وقد كان من بين هذه الدفعة الطلاب السودانيين القادمين من البلدان العربية حملة الشهادات العربية وهم يشكلون نموذج اخر بحكم التلاقح الثقافى المؤثر في احاديثهم وطريقة هندامهم وغيرها من الاشياء، وهذا هو ما يميز هذه الدفعة المنوعة والجميلة.
حامد أحد الطلاب القادمين من يوغندا،
كان يتحدث اللغة العربية بلحن افريقي جميل، وهو انسان لطيف يزيل الحواجز بينه وبين الطلاب بسرعة وتلقائية، لذلك اشتهر حامد وسط زملاءه فى فترة وجيزة، بل صار يوثق الروابط بينهم ويدعو للعديد من البرامج التى تجمع بين الطلاب.
كان حامد مثار الجميع وكان لدى البعض انطباع بان الكثير من طلاب الدول الافريقية لا يجيدون اللغة العربية، بينما أمامهم هذا اليوغندى يتحدث العربية بطريقة سليمة رغم لحنه الافريقي.
احد الطلاب يسأل حامد مستفسرا:
من اى بلد انت يا حامد..؟
يجيب حامد:
من يوغندا.
يتسائل البعض بفضول:
انت تجيد اللغة العربية.
أين تعلمتها..؟
يرد حامد
يبدو انكم لا تعرفون شيئاً عن دور الجوار، اللغة العربية تدرس فى الكثير من الدول الافريقية، ولا تنسوا اننا نهتم كثيرا بتعاليم الدين الحنيف، لذلك يأتى اهتمامنا بدراسة القرآن الكريم ضمن أولوياتنا وهناك الكثير من الخلاوى لتحفيظ القران الكريم.
شيئا فشيئا اصبح الطلاب يتعرفون على ملامح بعضهم البعض، واضافة الجلسات العفوية على تبادل المعلومات فقد اصبح الغالبية يتعرف على ثقافة وعادات بلد ما عن طريق الطالب القادم من ذات البلد، خصوصا فى الاشياء اليومية كالطعام والغذاء واللباس والسينما والمسرح والاغاني وغيرها من المعلومات التى تشكل حيز كبير من اهتمام الطلاب.
كلية الدراسات التجارية تقع بالجناح الغربي لجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا وفي ذلك الموقع من الجامعة نجد كلية الفنون الجميلة
وكلية علوم الحاسوب، وكلية المختبرات الطبية، كما نجد بالجناح الغربي إدارة الدراسات العليا.
اكمل طلاب كلية الدراسات التجارية عامهم الاول، وهو عام حافل بالعديد من الانجازات، فقد استطاعوا ان يستفيدوا من التنوع الموجود فى هذه الدفعة فى تشكيل فرقة مسرحية وغنائية، عملت على تقديم التراث الافريقى فى ارقى صوره.
حامد اليوغندى مدير الفرقة والعمود الفقرى لها، فهو لا يتردد فى ان يطرق كل الابواب فى سبيل تسهيل مستلزمات الفرقة، فقد ابدعت هذه الفرقة وجذبت اليها عدد كبير من الهواة والمبدعين، واستطاعت فى نهاية العام ان تقدم عروضا مسرحية راقية جدا اضافة الى اصناف من انواع الغناء الافريقي الجميل، خصوصا الغناء الاستعراضي الذى تشتهر به القارة السمراء.
كما وجدت هذه الفرقة دعما ماديا ومعنويا من ادارة الجامعة، على امل ان تواصل ابداعاتها الجميلة باستمرار.
اقام حامد اجتماعا طارئا للدفعة يطرح فيه اقامة رحلة ترفيهية قبل سفر الطلاب الى بلدانهم لقضاء فترة الاجازة.
اقترح الباقر القادم من منطقة الرهد ان تكون الرحلة الى حظيرة (الدندر) حتى يتعرف الطلاب القادمين من مختلف الدول على واحدة من اهم المناطق السياحية بالسودان.
فرح الجميع بهذا الاقتراح خصوصا الذين يعرفون حظيرة (الدندر) او سمعوا بها، وقد قام احدهم بالتحدث عن الحظيرة باهتمام شديد، وعن الاشياء التى تميزها عن بقية الاماكن السياحية، فهى حظيرة طبيعية وبها الكثير من الحيوانات المتوحشة، كما ان لها ادارة تهتم وترى وتتابع كل الاشياء المتعلقة بها.
قال الباقر:
سوف اتصل بوالدى فهو احد الاداريين الذين يشرفون على المشروع، وسوف يسهل علينا الكثير من الامور حتى نتستطيع ان نقضى وقتا ممتعا وجميلا.
بعيدا عن اجواء الجامعة، وفى جو رائع ومختلف انطلقت انشطة الدفعة فى حظيرة (الدندر) الجميلة، وهناك كان للمساء شيء مختلف تمام عن الطقوس الاخرى التى شهدها الطلاب، حيث كانت الفرقة المسرحية والموسيقية تختم كل يوم بمساء ثقافي مميز.
الاغاني الافريقية الحارة والايقاعات المتعددة والرقصات المتنوعة تشكل فى كل لحظة بلد بعينه من خلال استعراض فنونه الشعبية.
فى هذه الاجواء المميزة تعرف اسامة على نادية، وشاركا مع بعض فى بعض البرامج فى اطار فقرات الرحلة.
كانت نادية قادمة من المملكة العربية السعودية ضمن طلاب الشهادة العربية، كما ان اسرتها تنحدر من مناطق وسط السودان، فتاة جميلة تتحدث اللغة العربية على طريقة اهل جدة (الجداوية)، وهى تعشق الفنان محمد عبده بصورة مبالغ فيها، وعندما علمت ان اسامة فى عرض حديثه يتحدث دون قصد عن الفنان محمد عبده ويفند اغنياته كناقد متمرس، لم تخف اعجابها به، وقد تحدثا عن الموضوع بانفراد وهى فى غاية السعادة والسرور، خصوصا عندما اكتشفت ان اغنية (الاماكن) هى القاسم المشترك بينهما فى عشق اغنيات محمد عبده.
اسامة القادم من مدينة عطبرة، انسان بسيط ومتواضع، يعشق الفنون بكل انواعها، ويعرف عدد كبير من ثقافات الكثير من الدول فهو مطلع وقارىء نهم بالاضافة الى عشقة لكرة القدم.
عندما عادت الدفعة من رحلتها الجميلة والتى اضافة اكتشافات جديدة لعدد من الجنسيات فى التعرف على جزء مهم من المناطق السياحية بالسودان، كان اسامة الوحيد الذى جاء يحمل قلبا معبأ بنادية ومشحون باغنيات محمد عبده. بينما سافر الجميع الى اوطانهم او مدنهم داخل السودان لقضاء اول اجازة لهم فى مسيرتهم الجامعية.
في بداية العام الدراسي الثاني انشغل الجميع فى تحديد تخصصاتهم، فمنهم من يريد أن يكمل قسم المحاسبة المالية أو قسم إدارة الأعمال أو قسم محاسبة التكاليف.
ولكن لتحقيق هذه الامنية يجب ان يكمل الطلاب عامهم الثاني فى القسم العام ومن ثم الانتقال الى واحدة من هذه التخصصات.
أما من احب الالتحاق بقسم البنوك والتصدير فيختار التخصص من العام الثاني، وهذا ما ادى الى تفرع الدفعة الى قسمين، كان نصيب القسم العام العدد الاكبر من الطلاب بينما توجه الباقون الى بقية الاقسام.
بقى اسامة فى القسم العام بينما توجهت نادية الى قسم البنوك، فهذه رغبتها فى اتمام دراستها فى قسم البنوك، وقد شجعها والدها على ذلك، فهو يدير واحدة من البنوك السعودية فى مدينة جدة.
لم يفرح اسامة لهذا الابتعاد، فقد كان يحبذ ان تكون معه فى نفس القسم، ولكن هذه رغبتها، ولا حيلة له فى ذلك، سوى انه يريد ان يطور علاقته بنادية فهذه العلاقة لا تزال فى بداية الطريق ولم تتجاوز اغنية الاماكن حتى الان.
فى الكافتيريا كان ينتظرها، فهما لم يتقابلا بعد نهاية الرحلة، اذ سافر هو الى عطبرة و هى الى جدة،
عندما دخلت الكافتريا وهى فى اروع حلتها قال وهو يصافحها:
(الاماكن كلها مشتاقه لك)
شكرا اسامة
ثم اضافت بصوت خافت:
(كل شيء فيك يذكرني بشيء)
قالتها فى حياء وجلست قبالته، تحكى له عن جدة واسرتها هناك واستمتاعها معهم، خصوصا الامسيات على كورنيش جدة الجميل.
بينما اسامه تحدث عن مدينته عطبرة واجازته فيها مع الاهل والاصدقاء وعن النيل وجماله هناك اكثر من الخرطوم، وقد حكى لها عن الفنان (حسن العطبراوى) وعن اهم اغنياته خصوصا اغنية (يا غريب يلا ل بلدك) والتى غناها للمستعمر الانجليزى عند جلاءه من السودان واقامة دولة حرة ومستقلة.
فى قسم التخصص العام زادت المحاضرات مع زيادة الدراسة وظهور مواد جديدة لم يتوقعها الطلاب او لم يكتشفوا ذلك لحداثتهم بالقسم، كمواد محاسبة التكاليف والاحصاء الوصفي، وغرق الجميع فى المذاكرة والتركيز حتى يسهلون على انفسهم حرية الاختيار للمرحلة القادمة، وهو امر صعب يتطلب الكثير من الجهد والاهتمام.
هذا الانشغال اضعف برنامج الفرقة المسرحية والغنائية، ولم يظهر لها اى نشاط خلال الفترة السابقة، واصبح الجميع مشغولين ببرامج المذاكرة والانتقال من قاعة المحاضرات الى المكتبة وغيرها من الامور المتعلقة بالدراسة.
حامد اليوغندى يقترح اقامة امسية ثقافية.
اسامة يضيف:
والله معك حق يا حامد، نحن بحاجة الى متنفس.
كان اسامة يخطط للقاء نادية فقد انشغل الجميع فى الفترة السابقة بالدراسة والتزاماتها المتعددة.
واخيرا تقرر اقامة الامسية الثقافية للفرقة، وقد تم اختيار مسرح (البقعة) فى ام درمان مكانا لاقامة الامسية ودعوة اكبر عدد ممكن من طلاب جامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا للاستمتاع بعروض الفرقة.
فى مسرح البقعة جلس اسامة وناديه مع بعض وهما مستمتعان بالامسية الجميلة، فقد قدمت الفرقة انواع مختلفة من الغناء الافريقي الجميل، كما ابدع حامد فى تقديم عروض الفرقة حيث كان يقدم شرحا بلكنته الجميلة لكل عمل قبل ابتداءه ليسهل على الجمهور تعب التعرف على نوع الغناء وبعض الخلفية لمناسبة الاغنية والظروف التى تؤدى فيها والبلد الذى تنتمى اليه.
كلما اكمل حامد تعريفا عن اغنية معينة، كان اسامة يضيف الى نادية عدد من المعلومات عن نوع الغناء المقدم وعن البلد ومجتمعاته وغيرها من المعلومات.
نادية تستفسر مستغربة:
يبدو انك تسافر كثيرا..
من اين لك كل هذه المعلومات..؟
يجيب اسامة:
انا لا اسافر كثيرا، بل اقرأ كثيرا.
اذن انت تمتلك ذاكرة حديدية..؟
يضحك اسامة وهو يقول:
لا تبالغي كثيرا
عادي..!!
اصبحت نادية تتعلق باسامة، فلا يمر يوما والا يتلتقيا، وقد كان اسامة متحدثا جيدا يعرف كيف يدير حديثه ويجذب الناس اليه، وقد رأى فى عيني نادية كل طموحاته للفتاة التى يحلم بها.
نادية التى تسكن مع عمها فى الخرطوم صارت تتأخر كثيرا عند رجوعها للبيت على غير عادتها، فقد اصبحا هى واسامة بعد نهاية الدراسة يتناولان وجبة الغداء مع بعض فى واحدة من المطاعم الراقية فى كل مرة.
اصبح جعفر ابن عمها يضيق عليها الخناق ويسألها كثرا مستفسرا عن اسباب تأخرها المستمر.
تتعلل نادية فى كل مرة عن انشغالها بالدراسة وقضاء اوقات طويلة داخل المكتبة.
حكت نادية لاسامة عن مضايقات جعفر لها وعن مراقبته المستمرة لها.
لاتهتمي هذه امور عادية، وهو غلق عليك،
الخرطوم مدينة كبيرة، ولا تنسى انت لا تعرفين عنها شيء، وهذا مصدر غلقه على ما يبدو.
لا ادرى والله..!!
لكنني اصبحت اتضايق من هذه التصرفات.
جعفر انسان متهور جدا فهو دائما يفكر بطريقة مختلفة وينظر للاشياء عبر مفاهيم ضيقة جدا، لذلك اصبح كل همه الانشغال ببنت عمه نادية، وقد تفرغ تماما ليعرف اسباب تأخرها التى لم تكن اسبابها مقنعة بالنسبة له.
استعان جعفر بواحد من ابناء الحى الذين يدرسون بنفس الجامعة، ليترصد خطوات نادية وهى خارجة من الجامعة.
لم يفلح ذلك الشخص طيلة اسبوع كامل من رصد نادية، فقد صادف ذلك الاسبوع سفر اسامة الى عطبرة.
عاد اسامة من عطبرة، فقد كان اسبوعا قاسيا بالنسبة لنادية، تعودت عليه وعلى نهارياته الجميلة وحديثه الذى يشفى القلب وضحكته الساكنة فى اعماق قلبها.
ما ان انتهى كل منهما من محاضراته حتى انطلقا الى واحدة من الكافتيريات الراقية، هناك جلس اسامة ونادية وبينهما اسبوع من اللوعة والفراق،
ولاول مرة تتحدث نادية بهذه الصراحة مع اسامة:
الخرطوم لا طعم لها بدونك يا اسامة..؟!
اسامة والفرحة تغمر عينيه:
حتى عطبرة لم تكن كما عرفتها من قبل.
(ارجو ان لا تطول غيابك بعد ذلك،
انا احتاج اليك كثيرا..!!)
قالتها وعيناها تدمع
لن يطول غيابي يا نادية،
بل لن اسافر بعد اليوم
الا اذا كنت برفقتي..؟
ليتني استطيع يا اسامة، لارى معك النيل من مكان مختلف
كما تحبه انت.
كان الشخص المكلف بمراقبتها يجلس فى الطاولة المقابلة لهما، مديرا ظهره لهما ويديه تلاعب جواله وكأنه مشغول بشيء اخر، بينما اذنيه كانتا منصوبتين تجاههما وهى تلتقط كل صغيرة وكبيرة مما دار بينهما من حديث.
يا للمصيبة…!!!
علم جعفر اين تقضى نادية وقتها الاطول بعد انصرافها من الجامعة، وصار يخطط ليل نهار على انهاء هذه المهزلة كما كان يسميها.
احيانا يكذب جعفر عن ما سمعه من جاره،
واحيانا يحاول التأكد بنفسه لكنه يخاف من ردة فعله، وما يمكن ان يقوم به وضح النهار وامام الناس.
واحيانا يحاول ان يفاتحها فى الموضوع، لكنه يتعقل ويصبر لحين آخر.
نادية تزداد تعلقا باسامة كلما اشرقت شمس يوم جديد، وجعفر يبدل خطة بعد اخرى فى كل يوم جديد، واسامة يزداد حبا وعشقا بنادية التى تبادله نفس الاحساس والمشاعر،
اقامة رابطة الطلاب السودانيين القادمين من المملكة العربية السعودية بالجامعة ندوة تحت عنوان (الغربة وتأثيراتها السيكلوجية على الانتماء)، كانت نادية ضمن اللجنة التحضيرية للندوة، فقد دعت اسامة لحضور الندوة.
تحدث البروفسير المكلف بمحاضرة الندوة عن الموضوع بصورة رائعة وملفته وقدم حلولا رائعة لما يمكن ان يقوم به ولاة الامور والجاليات والاعلام فى سبيل ترسيخ بعض المفاهيم التى من شأنها أن ترقى بمستوى المسأؤليه ليتشكل جيل شديد الانتماء للوطن رغم وجوده بالغربة.
كان سامة شديد الفرحة باقامة مثل هذه الندوات، وقد ناقش نادية نقاشا مستفيضا حول ما تم تقديمه، وحى الرابطة على دورها المسؤول لاهتمامها بعناوين مهمة يجب التحدث عنها باستمرار.
ثم اضاف مازحا:
وما دوري أنا..؟
ضحكت نادية حتى كادت ان تقع:
انت الوطن الذى اعيش من اجله،
لولا وجودك بجانبي لما حققت كل هذا التقدم.
يجيبها مازحا:
اولا تخلصى من لغتك الجداوية لتتحدثين بعد ذلك عن الانتماء.
انا ولدت وترعرت وتعلمت بجدة وهذا نتاج طبيعى، ولكن لا يمنع انتمايء الكامل قلبا وقالبا للبلد الذى انتمى اليه.
قال اسامة بملامح جادة:
(انا اهرج معك)..؟؟
(ايش فيك)
ضحكت نادية لمكر اسامة وقالت:
يكفيك لعب، خذني لأى مكان هادىء
احتاج كوب ليمون بارد..؟
فى واحدة من الكافتريات القريبة من الجامعة جلسا اسامة ونادية ليتناولا كوبين باردين من الليمون، ولم ينتبها لوجود جعفر الذى كان يترصدهم منذ ان خرجا من حرم الجامعة برفقة جاره المكلف بمراقبة نادية.
اختار جعفر موقعا يتيح له الاختباء عن ناظريهما والغضب يشتعل فى كل اطرافه.
لم يمكث نادية واسامة طويلا، فقد كانت مشغولة هى بالانصراف لان الوقت تأخر بالنسبة لها والساعة تقترب من الثامنة مساءا، بل خرجا وهما يسيران جنبا الى جنب بغرض توصيلها الى محطة الاوتوبيسات.
خرج جعفر مندفعا من الكافتريا، وما ان اقترب منهما صرخ فى وجه نادية وهو يقول:
هذه هى دراستك يا شاطرة..؟
حاول اسامة ان يتدخل ليفهم ما يجرى، ولكن جعفر لم يمهله، بل اخرج سكينا وحاول قرزها فى صدره، لولا محاولة اسامة للابتعاد بسرعة لكان فى عداد الموتى، فقد اصابته السكين فى اعلى يده اليسرى، وسقط على الارض غارقا فى دماءه.
نادية تصرخ بكل قواها وتجمهر الناس حول المكان، وحاولوا الاسراع لانقاذ اسامة الى اقرب مشفى، بينما اخذت الشرطة جعفر لواحدة من المخافر القريبة.
وصلت نادية البيت متأخرة جدا وهى منزعجة ولا تدرى بماذا تتحدث، ما ان وصلت البيت حتى استقبلها الجميع وهم منشغلين.
عمها رجل هادئ لكن انشغاله عليها اخرجه عن طوره:
اين تاخرت يا بنتي..؟
والله ياعمي وقع سوء…
لم تكمل جملتها بل جثت على ركبتيها مجهشة بالبكاء.
ما بك يا بنتي..؟
حاول الجميع تهدأتها لمعرفة ما جرى،
ولكن دون جدوى…!!!
أخذها عمها وجلسا وحدهما فى واحدة من الغرف وهو يسألها مستفسرا:
احكى لي يا بنتي،
ماذا حصل…؟
جعفر يا عمي.. جعفر.
وماذا جرى لجعفر..؟
يزداد الرجل انشغالا وهويسألها من جديد:
جعفر، ما به..؟
ضرب جعفر احد زملايء بالجامعة بالسكين وهو الان بالسجن.
ماذا …؟
اهديء يا بنتي،
(واحدة، واحدة لو سمحت)
أنا لاافهم ما تقولين..؟
يا عمي جاء جعفر الى الجامعة وضرب احد زملايء بالسكين.
واين هذا الطالب الان..؟
فى مشفى قريب من الجامعة.
ارتدى الرجل ملابسه مزعورا وخرج هو وزوجته بصحبة نادية، متوجهين الى المشفى للاطمئنان على صحة المصاب.
فى المشفى منع الطبيب الدخول الى غرفة اسامة، فقد لا يزال فاقدا للوعى نتيجة الدم الذى نزفه والعملية المستعجلة التى جرت له لسد المكان المفتوح على زراعه.
لم يصدق عم نادية ما جرى ولا يدرى سببا، حتى نادية لم تكن تعلم ان جعفر كان يترصدها، لكنها فهمت من خلال حديثه القصير معها قبل الاعتداء على اسامة، لعله كان ينوى هذا منذ فترة.
فى الصباح كانت معظم الدفعة بالمشفى، وقد افاق اسامة من غيبوته، واصبح يتحدث الى الاصدقاءه بكل ارتياح،
كان فى الغرفة نادية وعمها وزوجة عمها، كان الرجل محرجا فى كيفية بدأ الحديث مع اسامة ليفهم شيئا، واخيرا استأذن من الجميع بالخروج من الغرفة بمن فيهم نادية ليتحدث مع اسامة على انفراد.
استغرب الرجل كثيرا عندما علم ان اسامة لم ير جعفر قبل مساء امس، بل هو لايتذكر ملامحه الا ن، فليس هناك اى علاقة تربطه به.
خرج اسامة بعد اسبوع من المشفى وهو يحمل على زراعه اليسرى أول أوسمة الحب كما علق حامد اليوغندى على ذلك، بعد ان شاع خبر الاعتداء على اسامة فى اوساط الطلاب.
عادت نادية الى الجامعة بعدالحادثة فقد حاولت خلال فترة غيابها الاهتمام باسامة والاطمئنان على صحته، وقد جاء والدها مسرعا من جدة بعد أن علم بما حدث.
ذهب اسامة الى عطبرة مع عدد من أهله واصدقاءه الذين جاءو اللاطمئنان على صحته وقضى هناك عشرة ايام كاملة رجع بعدا متشافيا،
لم يأت اسامة وحدها من عطبرة بل جاء برفقة والده لخطبة نادية مستفيدا من تواجد والدها بالخرطوم.
فى دار عم نادية بالخرطوم جرت مراسم الخطوبة، وقام جعفر وسط الحضور طالبا العفو من اسامة وتعانقا فى حب واحترام.
حامد اليوغندى يواصل تعليقاته على اسامة وهو يقول لاصحابه:
(انتم هكذا لا تستقيمون الا بالسكين)
قررت الدفعة فى اقامة حفل خاص لاسامة ونادية بمناسبة خطوبتهم، وقد اختاروا واحدة من اروع القاعات التى تقام بها المناسبات، وقد شارك فى المناسبة عدد كبير من اهل عطبرة واقارب واصدقاء أهل نادية، وقد اكتظت القاعة بعدد من الجنسيات بحكم التنوع الموجود فى هذه الدفعة المميزة.
قدمت الفرقة التابعة لكلية الدراسات التجارية انواع مختلفة من الاغاني والرقصات، فقد كان مساءا افريقيا مميزا ارتفعت فيه اصوات الطبول الحارة والزغاريد، ورقص العروسين محاطين بعدد كبير من الاهل والاصدقاء، وفى ختام الحفل قدم حامد اليوغندى كلمة شكر لكل من ساهم فى انجاح الحفل ومهنئا اسامة ونادية بهذه المناسبة الكريمة.
أربعة اعوام قضتها هذه الدفعة بالجامعة وكأنها اربعة ايام، شهدت خلالها العديد من المناسبات والبرامج والرحلات الترفيهية، كما توجت فى النهاية بحفل زفاف اسامة ونادية، فى امسية لا تقل روعتها عن امسية الخطوبة، ولكن ما يميز هذه الفرحة هو مزجها بفرحة التخرج لتكتمل فى ابهى مناظرها، وينطلق بعدها الجميع فى دروب الحياة بحثا عن العمل واختيار مسار جديد لحياة كل فرد منهم.