سلسلة حلقات رواية انتحار على أنغام الموسيقى (القصة الرابعة) عذراء أسفل عجلات القطار

المصدر: عزة برس  تأليف الكاتب والروائي: هاشم محمود

تسيقظ القرية على خبر مفجع، نبأ وفاة فاطمة تحت عجلات القطار، يبادر الحاضر بإعلان الغائب بالواقعة،

رواية الانتحار على انغام الموسيقى

ويتمنى البعض لها الرحمة بينما يردد آخر: اذكروا محاسن موتاكم.

ربنا يرحمنا جميعًا!

أخذت الشر ورحلت!

كان النبأ مفجعًا، لكنه معتاد، فلا يمر شهر في تلك القرية دون سماع مثل تلك الحادثة، خاصة مع غفلة عامل التحويلة وعدم حذر المارة عند عبور شريط السكة الحديد؛ فربما كان أحدهم منشغل البال في قضية ما أو في توفير نفقات أبنائه، أو ربما ظن أن القطارلا يزال بعيدًا فيتمهل في السير، لتكون عجلات القطار أسرع إلى جسده من عجلة الحياة، في النهاية هي أعمار، لكنه استهتار.

ظل نبأ وفاة فاطمة يتردد كثيرًا كنوع من العظة والعبرة، وكنوع من القصص التي يحب أن يتداولها البعض ويرددها، بل إن بعض الأشخاص يختلقون أحداثًا وهمية لموتاهم، وكأنهم شهود عيان على الواقعة، رغم أنه ربما لم يكن أحد على الإطلاق قد رآها عند لحظة الموت، لكن البشر بطبعهم محبون للحكي والقصص حتى لو كانت محض خيال.

ظن البعض أن زوجها من قتلها أو ربما والدها، بينما أكد آخرون أنها ماتت قضاء وقدرًا، لكن يصر الثلث الأخير على أنها قد انتحرت، فماتت بملء إرادتها.
كلها مجرد شائعات ستنتهي بوقوع حالة أخرى، فالقصص الجديدة تنسي الوقائع القديمة.

لم تغسَّل فاطمة كما هو المعتاد في مثل هذا النوع من الوفيات، كفنوها قبل الصلاة عليها داخل المسجد، لم يحضر عدد كبير تشييع الجنازة، ربما لأن وقت الدفن كان بعد صلاة الظهر، وفي يوم الثلاثاء والجميع في أعمالهم ومشاغلهم، أو ربما كان ذلك موقفًا اتخذه البعض عن قصد ظنًّا أنه لا يجوز الصلاة عليها أو تشييعها، لكن الحقيقة المؤكدة هو أن ابنها صاحب الرابعة عشر عامًا كان حاضرًا في أول الصفوف، يحمل جثمان والدته تارة ويسير بجانبها تارة أخرى حتى مثواه الأخير، لم يبك، وقف كالرجال رغم صغر سنه، لم يهتز له جفن، صامدًا هادئًا مطمئنًا، ففسر البعض حاله على أنه في صدمة شديدة بفقدان الأم في هذا العمر، بينما ظن آخرون أنه فرح بوفاتها، فهنا قد انتهى عاره وعار والده وجده!

لكن كيف له أن يتحمل كل ذلك؟!

اللهم ارحمها واغفر لها ذنوبها وتقبلها.. اللهم تغمدها برحمتك آمين.. آمين.

تلك الكلمة الوحيدة التي رددها هذا الولد في جمع من الناس وقفوا أمام المقبرة لإتمام مراسم الدفن.

يسمع عبدالرحمن بأذنه بعض الأحاديث الجانبية التي تطال أمه، لكنه لا يقول شيئًا، كثيرون ينهشون في عرضها وسمعتها، وآخرون يذكرونها بالخير، لا يتخذ موقف أحد الطرفين، يظل يسمع دون أن ينطق، دون أن يثور وكأنه يعلم ما يجب عليه أن يفعله، فلا يصح له البكاء، كما لا يمكنه أن يرد غيبة أمه المتوفاة.. فقط يكتفي بالصمت وهز رأسه.

يقدم البعض له واجب العزاء، لكنه يشعر في قرارة نفسه أنهم يقدمون التهاني والمباركة على وفاة والدته؛ فيحتضنه بعضهم كنوع من الدعم والود، لكنه يشعر بسعادة تخرج من أجسادهم، ليست بروح المواساة، إنها روح الفرح، فيتقبل كل شيء بسكينة تامة، وتظن أنه مغيب تمامًا عن المصيبة والحادث العظيم الذي يمر به.. طفل فقد أمه.

يعود لمنزل العائلة برفقة والده وجده اللذين اضطر لدفنها وتشييع جثمانها، ليذهبا مسرعين إلى المنزل ليغتسلا من أثار الغبار الذي لحق بهما، ثم يطلبا الطعام.

يأكل الأب والجد بنهم شديد، وكأن بطونهما كانت فارغة منذ خمسة أشهر، يطلبون المزيد من الطعام، والكثير من الحلو والشاي، لا يتعجب عبدالرحمن مما يرى، وفي الوقت نفسه لم يتناول قطعة واحدة من الطعام.

لا يكترث له أحد كأنهم في احتفال لا في مأتم، يتسامران، يتحدثان عن زيجة جديدة في انتظار الأب.

يا حامد يا ابني.. زوجتك في انتظارك.

هل هناك أحد بعينه تقصده يا والدي؟

نعم! ابنة عمك..

يصمت حامد قليلًا: لكن أتظن أنها تقبل بالزواج بعد كل هذه الأحداث؟

أنت ابن عمها، لا يمكن لها أن ترفض.

لكن يا والدي لا أريد أن تكون مكرهة على الزواج، فلا أحب أن أكرر نفس الخطأ.

لا شيء يجبرها، وهي كانت تتمناك قبل أن تتزوج، لكنك تسرعت في الزواج من تلك المرأة التي لا تشبهنا، ولم تكن لك من البداية يا ولدي.

الوضع اختلف الآن، فأنا لست بمفردي ومعي عبدالرحمن.

ليس له أي تأثير، اطمئن.

إذن بعد الأربعين نتحدث إلى عمي.

ولماذا ننتظر الأربعين!

حتى لا يتحدث عنا أهل القرية بسوء.

لا لن يتحدث عنك أحد، بل لا يجرؤ أحد على الحديث.

وماذا عن عبدالرحمن؟

لا شيء نفعله، تتزوج ويظل معي حتى مرور أسبوع على زواجك ثم تأخذه معك في منزلك أنت وزوجتك.

والله يا أبي لا أخفي عليك قلقي عليه.

لماذا؟

ألا ترى أنه لم يبكِ مطلقًا منذ نبأ وفاة فاطمة؟

لأنه يعلم أن موتها راحة لنا يا ابني.

لكنه صغير ولا يمكن أن يكون قد شعر بذلك.

لم يعد هناك طفل صغير، الأطفال يعلمون كل الأشياء الآن.

على الأقل يبكي، يصرخ، يثور حتى نطمئن.

اطمئن، لا خوف عليه ولا منه، فماذا يمكن له أن يفعل؟! الصمت خير يا ابني، المهم أنت، الأيام ستنسيه ما مر علينا طوال الشهور الماضية.

على الأقل ننتظر شهرًا قبل إتمام الزواج.

لا شهر ولا غيره، هو أسبوع واحد فقط.

أسبوع واحد؟!

والله يا ابني ولا تستحق حتى الأسبوع، لكن لله الأمر من قبل ومن بعد.

يتردد حامد في الموافقة لكن يعجبه ما يقوله والده؛ فهو يرى أنه يستحق حياة أفضل تنسيه حياته الماضية.

سأذهب لنوم القيلولة ساعتين، فاليوم كان طويلًا جدًّا دون داعٍ.. الجنازة حارة والميت كلب.

يسمع عبدالرحمن كل هذا الحديث من داخل الغرفة في ذلك المنزل القديم، فبعد الدفن أخذه والده إلى منزل الجد وليس منزل الأب الذي يقيم فيه عبدالرحمن، لكنه لا يلفت الأنظار إليه، يستمع دون أن يلاحظ أحد، لكنه لا يتلصص، فهم في الأساس لا يعيرونه أي اهتمام، إنه يمعن الاستماع جيدًا ولا تبدو على وجهه أية علامات.

تمر الأيام مسرعة ويتزوج حامد من ابنة عمه، وينتقل عبدالرحمن للعيش مع الزوجين الجديدين اللذين تناسيا أمر الزيجة الأولى ووفاة الزوجة على قضبان القطار، وكأن شيئًا لم يكن. كانت الزوجة الجديدة حنونة على هذا الطفل الولد، تعيره بعضًا من اهتمامها، على أمل أن يرزقها الله بطفل من حامد، فهي تعلم أنه لا ذنب له في ما اقترفته والدته، وأنه روح عليها أن تتقي الله فيها.

لم تكن الزوجة الجديدة على قدر من الجمال، لكنها كانت على قدر كبير من الإنسانية، اعترضت على الزواج بهذه السرعة، لكنها في الوقت نفسه لم ترد أن تغضب والدها الذي وافته المنية بعد شهر من زواجها، فكانت حالته متأخرة جدًّا بعد أن وصل إلى سن التسعين.

رغم رفضها الزواج بهذه السرعة، إلا أنها حمدت الله على ذلك بعد وفاة والدها، وإلا لما كان شهد عرسها ولا باركها، بل ربما قد وفاته المنية، وهو غاضب عليها، هكذا كانت تقول لنفسها وتحمد الله على عدم الإصرار على الرفض وتلبية رغبة العم والوالد.

مرت الأمور هادئة جدًّا على الزوجين، وتناسى الجميع أمر فاطمة، لكن وحده عبدالرحمن من يُحضِرُها على الورق وعلى الحائط بكتابة اسمها على جدران غرفته بخط صغير لا يقرأه سواه.

لم يشأ القدر أن تحمل تلك الزوجة، فصارت بمرور الوقت أمًّا لعبدالرحمن، الذي اندمج معها وصارت أقرب الناس إلى قلبه، فأحبها كما أحب والدته، لكن ظل كما هو لا يتحدث لأحد سوى بكلمات قليلة، ولم تظهر عليه أية بوادر تعلق بوالده أو جده، فكان يكره اليوم الذي يزور فيه جده، وكانت الزوجة تشعر بذلك، لكنها تخبره بأنه يجب عليه أن يحب جده، وعليه احترامه وتقبيل يديه عند رؤيته، فهو لها في مقام والدها الذي فقدته.

لا يستجب عبدالرحمن لما تقوله، يشعر بالغضب من مجرد رؤية جده ووالده معًا، ولا يتحدث بأي سوء، فقط يرفض تناول الطعام معهما أو الاستجابة لحواريهما.

في يوم من الأيام يذهب حامد لوالده ليخبره عن رغبته في تطليق ابنة عمه:

أنا أفكر في الطلاق يا أبي.

طلاق! أي طلاق؟ كيف؟ هل جننت؟ هل تطلق ابنة عمك؟!

نعم، لم تعد تسعدني، ولا أشعر بالراحة معها.

كيف هذا الكلام؟ ماذا حدث؟

لم تعد تريدني، فمنذ أكثر من ثلاثة أشهر ترفض أن أقترب منها، فكلما جئتها في الفراش هجرتني، وتسوق عشرات الحجج والأسباب حتى لا أقربها، بل الأدهى من ذلك أنها كثيرًا ما تذهب للنوم في غرفة عبدالرحمن.

كيف ذلك؟

والله يا أبي هذا ما يحدث.

لماذا؟ هل فهمت منها؟

حاولت مرارًا وتكرارًا لكن لا فائدة، لم أصل إلى أي شيء، مرة مريضة، ومرة في دورتها الشهرية، وأخرى حزينة ولا ترغب، بل في إحدى المرات صممت على العلاقة فأعطتني جسدها كالأموات، لا روح فيه ولا استجابة.

يجن جنون الجد:

لماذا كل هذا؟ هل أغضبتها يا بني؟ هل حدث بينكما شيء؟ ولماذا صبرت ثلاثة أشهر؟ لماذا لم تتحدث من الأسبوع الأول أو الثاني؟

أردت أن أفهم وأعطيها الفرصة ليخيب ظني، لكن في الحقيقة هي لا تريدني، ويبدو أنها تخجل من طلب الطلاق خوفًا على حزنك يا أبي.
وماذا عن حزنك أنت يا ولدي؟

لا يهم، هي لا يهمها شيء، بل حتى الطعام لم تعد تهتم بتقديمه، تكتفي بإطعام عبدالرحمن ما يريد، بينما تتجاهلني أو تقدم بلا اهتمام، في الحقيقة كل شيء تفعله على مضض.

لا حول ولا قوة إلا بالله!

اذهب وأحضرها لي، أريد أن أتحدث إليها.

وما فائدة الحديث؟

أريد أن أفهم ماذا يحدث، لا يمكن أن يقع الطلاق، هي مثل ابنتي فتركها والدها وحيدة وأمانة لدينا، كيف لنا أن نتركها! من لها غيرنا!

تأتي الزوجة لعمها يحاول أن يخرج منها بسبب واحد لحالتها، لكنها لا تقدم إجابة مفيدة تشفي فضول هذا الرجل وجنونه.

هل تريدين الطلاق يا ابنتي؟

من جاء بسيرة الطلاق يا عم أبو حامد؟

أنتِ؟

أنا؟ كيف؟ أنا لم أطلب الطلاق، فليس لي غيركم.

إذا ما الأمر يا ابنتي؟ تحدثي إليَّ أنا مثل والدك، ماذا بك؟

لا شيء.

إذا لماذا ابتعدتِ عن حامد؟

لا شيء ياعم، انا فقط كنت مريضة.

يشعر الجد أن ابنة أخيه تخفي شيئًا لا يستطيع معرفته، لكنه يتوقعه وهو أن المرأة فقدت الأمل في الحمل؛ فما يشغلها أن تلد طفلًا لحامد وللعائلة، فحامد قد تزوج قبلها وأنجب، ولا شيء يعيبه لكنها هي من تعجز عن الإنجاب.

هكذا فهم العم من صمتها وشرودها، واقترح على حامد اصطحابها لأحد الأطباء لتلبية فطرتها في الأمومة، ليعرض حامد الأمر عليها ليفاجىء بصعقة الإجابة:

من قال لك إني أريد أن أحمل منك؟ أنا لا أريد أبناء منك.

ظن حامد في بداية الأمر أن لا تعني ما تقوله، ربما لأنها فقدت الأمل في الإنجاب بعد مرور أربع سنوات على زواجهما.

كل شيء له علاج، لا تقلقي.

علاج؟ أي علاج تتحدث عنه؟

الحمل.

هل تظنني عاجزة عن الحمل؟

لا، كل ما أقصده أنه ربما تكون هناك بعض المشكلات التي تسببت في عدم إنجابك حتى الآن.

هل تجيد القراءة جيدًّا؟

يصمت حامد حتى تستكمل حديثها، تفتح خزانة الملابس لتخرج له تحليلًا يفيد بحملها منذ شهرين.

لا يمكن! هل أنت حامل؟

كنت حاملًا.

كنتِ؟

نعم.

والآن؟

أجهضت نفسي.

ماذا تقولين؟

كما سمعت، أجهضت نفسي.

يصرخ الرجل ويعنفها، بل ويصفعها على وجهها على ما فعلته، فكيف لها أن تقتل طفله، وكيف لها تجرؤ على ذلك الأمر؟

يسمع عبدالرحمن صوتها فيسرع إلى غرفتها ليحتضنها، ويحاول إبعاد والده عنه، لكنه يفاجئ بوالده يلقي به على الأرض ليبعده عنها ويكمل صفعها لها، لم يستسلم عبدالرحمن، بل تلقى بعض الصفعات بدلًا منها.

يخرج حامد مسرعًا إلى والده ليخبره بما حدث ليحضره في الحال ويسمع بنفسه ويرى؛ فتقف لهم الزوجة ثابتة قوية ممسكة بيدي عبدالرحمن: نعم قتلت الطفل قبل أن يولد؛ فلن أحمل أبدًا منك مهما حدث.

لا يستوعب الجد ما يحدث، فلماذا تفعل كل ذلك وهي تحب حامد؟ وكانت تتمنى أن تنجب منه، وعلى علاقة جيدة بعمها وبعبدالرحمن، فلماذا تقدم على تلك الخطوة؟ كلها تساؤلات يكاد الجد يجن بسببها، ليصرخ حامد:

سأبلغ عنها، سأقتلها.

اقتلني كما قتلت فاطمة.

يشعر حامد كأنها صفعته على وجهه، فيسود وجهه ويتوقف عن الكلام، وكأن لسانه قد قطع ويده قد شلت وقدميه قد توقفا عن الحركة، ليرد الجد عنه:
قتل! كيف له أن يقتل؟ ما هذا الجنون يا ابنتي؟

هذا ليس جنون يا عم، هو قتل وأنت ساعدته على ذلك.

أنا؟
نعم، وسأبلغ أنا عنكما.

صدمة كبيرة هزت أركان المنزل في دقائق معدودة، لكن حامد يصر على إنكار فعلته: لم أقتل، أقسم بالله لم أقتل، فأنا لا أخاف منك أو من الشرطة، أنا لم أقتل.

القتل يا حامد ليس بعجلات القطار، لقد قتلتم فاطمة قبل أن يدهسها القطار.

هل جننتِ؟ أقسم بالله لم أقتلها، وكيف أقتلها؟ أنا لم أرها قبل موتها بعشرة أيام، أقسم بالله لم أقتلها.

وماذا قبل العشرة أيام؟

لا شيء، أقسم بالله لا شيء، من قال لك إني قتلتها؟ وما دليله؟ وكيف كانت الوسيلة؟

قتلتها بهتك شرفها وعرضها الذي هو شرفك وعرض والدك.

لا يفهم الجد ماذا تقول الزوجة، يشعر كأنه يشاهد فيلمًا من أفلام الأكشن والإثارة دون أن يفهم سياق الأحداث، لكن حامد وحده يعلم ماذا تقصد، فيردد حامد:
هي جنت على نفسها، هي انتحرت بإرادتها، هي استحقت نهايتها.

خانتني وهي في عصمتي وحملت سفاحًا، ولم أفعل لها شيئًا رغم ذلك هي من أقدمت على الانتحار.

يذهب عبدالرحمن مسرعًا إلى غرفته، ويأتي بشيء من ملابس والدته فاطمة، ليعطيها لزوجة أبيه.

وماذا عن هذا يا حامد؟

يصاب حامد بالصدمة مما يرى، فتلك الملابس كانت آخر ما ارتدته فاطمة له قبل أن يشيع في القرية أنها خانته وحملت من غيره، ليقيم أهل القرية حكمًا عليه بالرجم، فيعلم أن لا شيء يمكن أن يظل في الخفاء طوال العمر.

يسأل الجد عن الأمر، فهو في الحقيقة لا يفهم ولا يعلم ما تقصده ابنة أخيه حتى لو كان فرحًا بموت فاطمة، ليرد لأول مرة عبدالرحمن الذي يؤكد أن والدته امرأة شريفة لم تخن والده، وأن الحمل كان من والده، وأنه كان على علم بذهاب والدته لبيت حامد رغم إصرارها على الطلاق منه بسبب اكتشافها خيانته لها، فبعد أن ذهبت إلى منزل أبيها هي وعبدالرحمن وهي مصرة على الطلاق إلا أن زوجها حامد يحاول استمالتها وإثناءها عن تلك الخطوة، وتضعف أمام رغباتها فتذهب معه إلى منزلهما الذي هجرته لكن دون أن تخطر والديها بمقابلتها لزوجها سرًّا خوفًا من أن يتخذا موقفًا منها بعد كل ما فعلته من أجل الحصول على الطلاق، ورفضها الصلح.

كانت فاطمة تخشى أن يفتضح أمرها بقيامها بمعاشرة زوجها رغم المشكلات التي حدثت بينهما، فكتمت الأمر عن والديها، وكأنها فعلت جريمة تستوجب العقاب، رغم أن الزواج لا يزال قائمًا وهي زوجته على سنة الله ورسوله.

عبدالرحمن وحده رغم صغر سنه آنذاك كان يعرف كل ذلك، لكنه كان يخشى الحديث، وكان حامد يعرف ما يحدث بينه وبين والدته، لكنه أيضًا كان على يقين من أن عبدالرحمن لا يزال طفلًا قد ينسى ما يحدث أو أن ضعف شخصيته وخوفه من والده يجعله لا يتحدث في ذلك الأمر.

الحقيقة أن عبدالرحمن لم يكن طفلًا بل كان يعي جيدًا كل ما يدور، بل هو من ساعد والدته على اختيار ملابس النوم عند ذهابها لرؤية والده، وما هو أعظم من ذلك أنه ذهب معها لمنزلهم، واستأذنه تتركه يلعب مع أقرانه في الشارع أمام المنزل حتى تنتهي من لقاء والده.

ربما كان عبدالرحمن يجهل طبيعة العلاقة الحميمة بين أبيه ووالدته، لكنه يمكنه أن يفهم بعض الأمور البسيطة والتي كان على رأسها أن أمه لم تفارق منزل والدها إلا لرؤية حامد، وأن تلك الثياب قد أعدتها لحامد، فأخبرها عبدالرحمن أن والده يحبها في هذا الملابس حينما أومأ له ذات مرة أن والدته جميلة بالأزرق ليختار لها نفس اللون ونفس الثياب، لتكتشف فاطمة بعد شهرين حملها، لتخبر حامد الذي يثور وينكر هذا الحمل متهمًا إياها في شرفها وعرضها، مستغلًا ذلك الأمر لتشويه صورتها أمام أهل القرية، لينكر عليها والداها هذا الأمر، بل تتفاقم الأمور بينهم فيظنان في ابنتهما السوء، فلا تجد من ينقذها من الألسنة ومن الاتهام، لكنها كانت تثق في عدالة السماء، وفي قلب حامد الذي لا يمكن له أن ينكر ابنه، كما أن عبدالرحمن كان كبيرًا بما يكفي وشاهدًا على ذلك، لكن لم يصدقه أحد.

جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، فحامد فعل كل ذلك عن عمد وقصد، فاستدرجها إلى منزله بدافع الحب والحاجة واعدًا إياها بمقاطعة النساء والاكتفاء بها وحدها ليورطها في ذلك الحمل ليبث للقرية كلها أن امرأته زانية وتستحق الرجم، وأنها تركته لأجل عشيقها، فلا تحتمل فاطمة كل هذا الكلام خاصة مع مرور ستة أشهر على حملها لتودع عبدالرحمن في ليلة شديدة العتمة، شديدة البرودة، لتلقي بنفسها أسفل عجلات القطار، ليكون السائق أشد رحمة بها من حامد فيهتك عظامها وجنينها لتصبح جثة هامدة يتناول أهل القرية الحديث عنها، يخوضون في عرضها دون أن يعلموا أنها كانت من أطهر نساء القرية، وعندما عجزت عن أن تجد الرحمة في قلوبهم بحثت عنها في مقابرهم، ليظل عبدالرحمن الشاهد الوحيد على طهر أمه وجرم أبيه، لتكتب النهاية بأن تنتهي تلك الزيجة، وتخرج الزوجة الجديدة مع عبدالرحمن دون عودة، لتعود ألسنة الناس للحديث عن هروب الزوجة مع ابن زوجها.

وتبدأ قصة شرف جديدة بأبطال جدد، دون أن يعلم أحد الحقيقة.

Top
X

Right Click

No Right Click