قراءة نقدية في رواية ٩ مارس للروائي محمود الشامي ٢-٣
بقلم الأستاذ: مصطفى نصر - صحفي وكاتب سوداني
ومتابعة لما ذكر وورد في الجزء الاول قراءتنا النقدية لرواية 9 مارس، نستطيع القول ان الكاتب استخدم
كل أدوات العرض المتاحة لكاتب الرواية ، بين السرد الذي هو الخاصية الأهم للرواية، والذي برع الكاتب فيه باستخدام مخزونه اللغوي، والمزاوجة بين المقاطع النثرية والمقاطع الشعرية، مستفيداً من براعته في الصياغة النثرية والشعرية على حد سواء، لذا تكاد تلمس شعرية المفردة في كامل الرواية نثرها وشعرها، ومحمود الشامي بهذا الصنيع من أوائل المهتمين بشعرية اللغة، رغم حرصه على بساطة اللغة والنأي عن التقعر والتعقيد، أكثر من اهتمامه باللغة، بعكس بعض الروايات التي تجعل اللغة في حالة حشو، يمكن معها التخلص من عشرات الصفحات دون أن تختل قراءتها.
وقد وفق الكاتب بصورة واضحة في وضع المقاطع الشعرية في نهاية الفصول لتكون خير تلخيص وبيان للحالة الوجدانية الشعورية للبطل المتصل بكل فصل، وقد تميز أسلوب السرد عنده بعدة خصائص منها:-
أولاً: اعتماد السرد على دلالات مكانية وزمانية، فربط السرد بالدلالات الزمانية والمكانية يجعله أكثر تشويقاً، ويمكنه من ترتيب وتنسيق جميع الأحداث التي تتناولها الرواية.
ثانياً: وقع سرد الأحداث في روايته بشكل متسلسل ومتدرج، رغم أنه بدأ الأحداث من نهايتها، ثم عاد بالفلاش باك للبداية، مما خلق تسلسلاً منطقياً للأحداث الروائية، جعل القاريء مشدوداً مع الحدث الأساسي دوماً، دون أن يتشتت ذهنه مع الأحداث الفرعية.
ثالثاً: استخدام أسلوبا إضافياً وهو أسلوب السرد الخارجي، بربط الأحداث الاجتماعية والواقعية والمألوفة عند القراء، وربطها مع محتوى النص السردي حتى تفهم واضحة.
رابعاً: نوَّع بين السرد المتسلسل والسرد المتقطع والسرد المتناوب مع آلية ما يعرف بالسرد الحجاجي، وهي واحدة من الفعاليات العقلية للبرهنة ودحض الأفكار المتعارضة مع منطق النص، مع تحفيز الفكر للانتقال من قضية إلى قضية اعتماداً على مايسمى بالاستقراء تارة، والقياس تارة أخرى، والاستدلال الجدلي من جهة ثالثة، لإقناع القاريء بصحة أفكاره، دون أن يخل كل هذا التنوع السردي من الإثارة والتشويق للحدث القصصي الأساسي، مع وجود بداية ونهاية وعقدة وذروة لتسلسل الأحداث.
خامساً: بدت معالم الأسلوب السردي المتقطع في أن تبدأ الرواية من قرب نهاية الأحداث، ونعود بالتدريج عبر الـ(فلاش باك) لبداية الأحداث، دون أن يتسبب ذلك في ضياع القاريء وتشتت أفكاره.
سادساً: لعل من أكبر علامات نجاح الأسلوب السردي في الرواية هو تنوعه ما بين سلسلة متتابعة ومنطقية مع الأحداث تنمو وتتطور مع الأفعال الصادرة من شخوص النص والحوارات بينهم، وحوارها الداخلي: أو ما يعرف بـ(المنولوج الداخلي) بالإضافة لحالات الشخوص الانفعالية التي تربط النص بملامح وجدانية صرفة كالحزن أو الفرح أو الغضب أو الضحك، مما يربط المتلقي بالنص بشكل دقيق لتقارب الحالات الوجدانية لدى الناس جميعاً سواء أكانوا في أوروبا أو أفريقيا أو أمريكا أو أستراليا.
سابعاً وأخيراً: فإن من خصائص الأسلوب السردي للكاتب هو ارتباطه بهدف ما، فلابد لكل عمل روائي من مغزى وفكرة، فالفكرة في رواية 9 مارس توزعت ما بين مناقشة قضية وطنية هي قصة ثورة هذا الشعب ونضاله من أجل التحرر، والذي توج بنصر أبريل من العام 1993 واستقلال أريتريا واعتراف الكثير من الدول بها.. والتعبير عن حقبة زمنية محددة من هذا النضال الطويل، وهي 9 مارس انطلاق التحرر الوطني، فضلاً عن بحث متعمق في أحوال اللاجئين الإرتيريين في مختلف منافيهم.
ولم يعتمد الكاتب السرد وحده إذ كسر من رتابة السرد أحياناً بالوصف، وأحياناً بالحوار، فالوصف في هذه الرواية تنوع بين وصف الزمان ووصف الأماكن ووصف الأشخاص، فمن بين وصف الزمان في رواية 9 مارس تركيزه على إلقاء الضوء على حقب تأريخية محددة كوصفه لمدينة البرعصلي عبر لمحة دالة تقع في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ومع ازدهار التجارة وحركة النقل البحري بين ضفتي البحر الأحمر، وتحديداً بين مينائي عدن ومصوع، لعبت برعصولي دوراً مهماً، وأهَّلها موقعها للعب هذا الدور، فهي تقع في منتصف المينائين، وكذا بسبب جغرافية المنطقة الجيدة والمناسبة لحماية السفن وحمولتها من هيجان البحر جراء الرياح والعواصف والمد البحري، ولهذه الأسباب اختيرت البرعوصلي أو (برالصولي) كمحطة وصل لاستقبال السفن القادمة من، أو المتجهة إلى عدن، والمتجهة أو القادمة من موانيء محلية، كمرفأ عدي وطيعو ومرافيء بوري وصولاً إلى الميناء الهام والرئيسي مصوَّع.
ومثلها وصف حقبة من تاريخ تاجورا وملامح من خضوعها للعثمانيين وللعفريين وفرسان البلو، وما أسسوه من مجد تليد بها، إضافة إلى وصف ملامح من تاريخ الحرب العراقية الإيرانية في العراق، أما وصف الأماكن فقد رأينا براعة الكاتب فيه وكأنما كان يتنقل بين الأماكن بكاميرا سينمائية تلتقط كل المشاهد وتضيء المكان وكأنما المتلقي يشاهد شريطاً سينمائياً، حيث كان الموعد الأول لنا في عرس فندق المدينة، عند أحد أصدقاء (ناصر)، فوصف لنا المكان وما يضج به من مظاهر الترف، والثراء، ومظاهر الاحتفال وشيء من المأكل وما تزينت به النساء من ملابس وأكسسوارات، وأغاني العرس البناتية وما كادت أن تودي له من معارك بسبب التفاخر بالأنساب، لولا تدخل العاقلة الرزينة (زهرة) إحدى أساطير مجتمع تاجورا المؤثرة، ذات الكاريزما والأثر الفعال في نفوس الكبار والصغار على حد سواء.
أما وصف الأشخاص فقد كان قمة في الروعة حيث تعرفنا على ملامح منه في الجزء الأول من هذه الدراسة، في رسم الشخوص الروائية - أساسية وفرعية - بدقة متناهية، تحمل كل ملامحها الشخصية والنفسية الوجدانية، خاصة عند غوصه في معالم شخصية (زهرة تاجورا) الأسطورية، التي ربطها بأمشاج من تأريخ هذه المدينة الأسطورية، على مر العصور.
وأضاف للسرد والوصف عنصراً ثالثاً هو الحوار المتناثر هنا وهناك بجمل قصيرة وفاعلة ونابضة بالحيوية والواقعية اللغوية، بلغتها البسيطة التي تتلون بين الفصاحة والبساطة بحسب قدر المتحدثين ومستواهم الثقافي والتعليمي، إذ حرص الكاتب على ألا يساوي لغة خطاب العوام، بلغة المثقفين الجامعيين من أمثال رحمة وناصر وبقية الشلة، فظلت قمة إبداع لغة الحوار في إنزال المتحدثين منازلهم الحقيقية، كما هي في الواقع.. وبذا استغل الكاتب كل أدوات العرض، مع لغة فصيحة إلا أنها تخلو من الوعورة والتقعر، ونصوص شعرية جميلة تزين خاتمة الفصول.
وللحديث بقية إن شاء الله... في الجزء القادم