هاشم محمود في قلبه وطنه وفي يده سلاحه ولا سقف لإبداعه
بقلم الأستاذ: مفرح سرحان - كاتب صحافي وروائي وشاعر ونائب رئس تحرير الأهرام المسائي المصدر: سكاي سودان
كلما تابعته، يبهرك.. كلما قرأت له يسحرك، كلما عددت مواهبه يلهمك، فلا تملك إلا أن تقف مشدوها
أمام تلك الطاقة الإبداعية التي تفيض منه من دون انقطاع.
يبدو هذا الكاتب الإريتري الموهوب كقارورة العطر، كلما ضغطته الظروف، وانشغل بهموم وطنه التي يحملها في قلبه أينما سار، يفوح من كتاباته كل طيب ومسك.
إنه الكاتب والروائي الإريتري هاشم محمود الذي يبدو لك محيرا طيلة الوقت، فأنت إذا صنفته قاصا وأعجبتك مجموعاته القصصية كشتاء أسمرا والانتحار على أنغام الموسيقى، ستجده يخدعك وأنت في نشوة إعجابك، ليقفز من ملعب القصة إلى مسرح الرواية، فتقرأ له وتغوص في أعماق سرده كأنك تكتشف الأحجار الكريمة والشعاب المرجانية في مياه البحر الأحمر التي تزين شواطيء بلاده، وعندما تشعر بالرضا عن الوقت الذي أمضيته في حضرة أعماله الروائية (تقوربا - عطر البارود على سبيل المثال)، وتبحث عن روايات جديدة لهاشم محمود، ستقع مرة أخرى في فخ هاشم الذي يخدعك من جديد وهو ينتقل للكتابة في لون آخر مختلف من الإبداع، حين يدخل السرد في كرة القدم فيحرز لك هدفا عالميا بكتاب ما أجمله عن اللاعب المصري العالمي محمد صلاح عنونه ب ”مسافر زاده الكرة“!
الحقيقة أن هذا الكاتب محير جدا، ومناور أيضا كما لاعب الكرة المحترف، لا تعرف له مركزا تراقبه فيه، إنه يتنقل بين صنوف الإبداع كالطيف أو البرق لا تمسكه ولا تحدد مكانه.
هكذا رأيت هاشم في الأسابيع القليلة الأخيرة وهو يقتحم مجال المقال الصحافي، كأنه يتحدانا ويزاحمنا في تخصصنا، فلقد كتب هاشم في السياسة كأنه متخصص مخضرم فيها، وعندما بحثت عن إخفاق أو إخلال في بنية أي من مقالاته الأخيرة، وجدتني أنا المخفق وهو المتمرس في المقال كمحلل سياسي بارع.
ففي مقاله من يصنع الديكتاتور، يبدو هاشم منظرا محترفا وسياسيا بارعا وعالم نفس متعمق وأستاذ اجتماع مثقف، جمع كل هذه التخصصات في بوتقة واحدة ثم صهرها بموهبته المتقدة، ليقدم لنا روشتة لعلاج الديكتاتورية والوقاية من أعراضها وأغراضها.
وفي مقاله عن الحرب الدائرة بين إثيوبيا والتغراي يفتح صفحة من صفحات التاريخ ويعيد قراءتها بعين مثقف واع، تلتقط الحدث من جميع الزوايا، وتقرأه برؤية حداثية من قلب الماضي، فيجد القارئ وجبة دسمة لن يقرأها بالطبع في تحليلات الساسة والخبراء على صفحات الجرائد العالمية ولن يشاهدها في محطات التلفزة الكبرى.
ومن الحيرة التي يصيبك بها هاشم محمود وهو يقرأ التاريخ، يأخذك إلى حيرة أخرى وهو يستشرف المستقبل عندما يتحدث عن مصير آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي وما سيقود إليه بلاده والمنطقة بأسرها من خطر الحرب والصراع، ثم تكتشف بين سطور مقال هاشم السياسي جانبا آخر من جوانب إبداعاته، إنه يبدو ساخرا بمنتهى الروعة وهو يسخر من جائزة نوبل للسلام التي يحملها آبي أحمد وسط هذا الخراب والدمار من جهة، وبين صمت المجتمع الدولي على ما يفعله هذا الرجل من ناحية أخرى.
أخيرا اهتديت إلى سر ذلك التنوع في منتوج هاشم محمود أدبا وفكرا ورأيا ورؤية، إنه حب الوطن الذي يمنح المثقف طاقة لا تقاس بأجهزة ولا تقرأها مؤشرات ولا عدادات، فعندما يحمل كاتب هم وطن بل يطلق عليه كاتب وطن فحتما يتحفنا بكل ماهو جديد ومفيد.
فقد اطلق كاتبنا الموهوب العنان لقلمه في ثلاث من أروع المقالات التي قرأتها بل تعتبر بيانا شافيا وقولا فصلا قاطعا للأحداث التي تجري في القرن الإفريقي، وهو المتجرد من كل الانتماءات الضيقة، ليبقي الوطن هو الشغل الشاغل والهم الأكبر له في كل ما تخطه يمينه وتجود به قريحته.
حينما قرات مقالات هاشم محمود الرصينة، تذكرت تلك الشخصية الجميلة المليئة بالشجون والحب إلى وطنه، والإنسانية التي يفيض بها هاشم محمود، فمن لايعرف هاشم محمود عن قرب يظلمه، لأن هذا ليس مجرد كاتب وروائي، إنه ثورة هادئة ووطني غيور.
في معرض القاهرة الدولي للكتاب العام الماضي، سألته عن أعماله الأدبية التي يعرف فيها ارتريا تعريفا دقيقا ويمجد ثورتها ويتباكى علي مافقدته من قادة عظام ورجال اوفياء، فكان رده:
أستاذ مفرح أينما أمضي فثم وطن في قلبي.. إريتريا تحملني وأحملها وسأبقى مشغول بها وعليها ما حييت.
ثم زاد الرجل قوله متحسرا: حدثت جفوة بين إريتريا والعرب، وهذا شي مؤسف ومقصود واستهداف ممنهج فلن انتظر أحدا يخبركم ببلادي وإنما اجتهد كي تصل رسالة بني وطني بالعربي إلى العرب وهم اكثر من دعمونا طيلة مرحلة النضال، إن همي الأول عودة إريتريا إلى محيطها العربي.
وأنا أقول لهاشم محمود: أنت كاتب صاحب رسالة، وأعمالك ستبلغك أداء هذه الرسالة، والعرب يقرأون لك من المحيط إلى الخليج ولم نعرف إريتريا إلا من خلال الكتاب المخلصين المبدعين وعلى رأسهم هاشم محمود.. فامض إلى حلمك واحمل وطنك إلى مقام المجد، فأنت ووطنك أهل له.