قراءة وعرض لكتاب ارتريا من حلم التحرير الى كابوس الدكتاتورية للكاتب فتحى عثمان

بقلم الأستاذصالح سعد

الكاتب دبلوماسى أرترى وهو جزء من تجربة الشعبية وهو سودانى الميلاد والنشأة (أرترى) الهوى والنزعة

إرتريا من حلم التحرر إلى كابوس الدكتاتور

أختار أن يكون أرتريا بالرغم من توافر الإمكانات على أن لا يكون أرتريا حسب تعبيره، جمع مع ثقافته العربية اللغتين الانجليزية والفرنسية وكتاباته تدل على إمكاناته التحليلية العميقة، وتنم عن مستوى ثقافى ومعرفى عالى الكتاب عبارة عن مقالات للكاتب يحتوى على (21) مقالا تحليليا فى محاولة للاجابة على (أسئلة وجودية) حسب تعبير الكاتب وهى تساؤلات لفهم كيف تحولت نضالات الشعب الارترى ودمائه خلال ثلاثة عقود من النضال الثورى الأسطورى الى نفق الطغيان المظلم ؟ والكتاب محاولة جادة لقراءة الظاهرة السياسية الارترية من خلال المجهود التحليلى البنيوى للظاهرة وشروطها الموضوعية بناء على معطيات علم الاجتماع السياسى والجغرافية السياسية والاثنوغرافيا والاقتصادى السياسى بغض النظر عن مايمكن أن تؤدى اليه مخرجات القراءة ونتائجها من صدمة على القارئ والتى لن تكون على كل حال أكثر صدمة من الواقع السياسى الذى نعيشه محاولا تجاوز حالة السرد التأريخى والانطباعات الشخصية التى ميزت الكتابات الارترية دون سبر غور المسببات والمآلات بالإضافة الى مايكتنف الكتابة السردية من إشكالية عدم التأكد من مصداقية الكاتب وأمانته.

لم يكون غرض الكاتب الوصول الى إجابات حاسمة لايملكها بقدر ما كانت محاولة لتكثيف الأسئلة وتقديم أسلوب بنيوى يفكك الظاهرة السياسية لفهم أبعادها والملاحظ أن الكتاب رغم صغر حجمه إلا أنه يتميز بالإكتناز والتركيز ويدل على عمق العقل التحليلى للكاتب فى قراءة التجربة الوطنية الأرترية لاسيما تجربة الشعبية ومآلاتها الكارثية بغض النظر من الموافقة والمخالفة لمخرجات تلك التحليلات.

وبما أن الكتاب لم يضعه الكاتب على النمط التقليدى فى تراتبية التقسيم على نمط محدد فسأعمد فى هذه القراءة الوصفية والتحليلية للكتاب الى قراءة الأفكار المركزية التى تفرقت فى تلك المقالات.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة ايطاليا برز مفهوم تقريرالمصير وكانت بداية تشكل (الشعور الجمعى) الإرترى حيث اصبح هذا الشعور من عوامل الوحدة والتفرق فى آن واحد وهنا اهتم الكاتب بتحليل دور الاستعمار ابتداء من دور ايطاليا فى تكوين الجغرافية السياسية لإرتريا والدور البريطانى الخبيث والقاصد لتقسيم إرتريا ولكن نسبة للتحولات الدولية وتراجع دور بريطانيا لصالح أمريكا وظهور الاتحاد السوفيتى كقوة عظمى أفشل مشروع التقسيم والوحدة مع اثيوبيا لصالح مشروع الاتحاد الفيدرالى والذى كان بطبيعة الحال لاينسف (الشعور الجمعى) بالكلية وفى نفس الوقت يساعد على تكوين بيئة لفكرة التحرر والإستقلال وتكوين الوعى الجمعى الوطنى والكاتب اشار الى أهمية دراسة هذه الفترة دراسة سيوسولوجية - سياسية ضمن المؤثرات الدينية وسياقتها الاجتماعية دون تحرج من أجل استخلاص دروس التقارب والتجافى بين مكونات المجتمع الارترى ومن خلال تتبع مسارات التجربة الوطنية ومحطات العمل السياسى الواعى الذى يستحضر الحس الوطنى ولقد تتبع الكاتب تمظهر الشعور الجمعى الارترى وتشكله فى عدة مشاريع سياسية:-

• جمعية حب الوطن (محبر فقرى هقر)،
• الكتلة الاستقلالية،
• حركة تحرير ارتريا 1958م،
• تجربة الثورة الارترية والعمل المسلح وفيها بلغ الشعور الجمعى ذروة تراكمته،

ومن خلال القراءة الاجتماعية وتأثيرات البيئة الاجتماعية والجغرافية الحاضنة للتنظيمات الثورية الارترية ممثلة فى تجربتى (الجبهة / الشعبية) توصل الكاتب الى نتيجة مفادها أن تجربة الشعبية هى وليدة (المجتمع الزراعى) المستقر فى المرتفعات وقيمه والتى تضمنها هذا المجتمع من المركزية والانضباط واحترام السلطة وهيبتها والتقشف والسلوك الاحترازى الموغل فى الريبة والشك فى الآخرمما القى بظلاله على تركيبة التنظيم وسلوكه، وفى المقابل اعتبر تجربة الجبهة هى وليدة (المجتمع الرعوى) ومايتضمنه من قيم التناصر القبلى / العشائرى وثقافة الشفاهية والتمرد الطبيعى على قيود السلطة واشتراطاتها المطلبية وأثر ذلك على بنية التنيظم اللاشعورية ومساراته السياسية والقيادية ومآلاته.

فشل تجربة الجبهة فى إدارة التنوع الإجتماعى والثقافى والدينى فى المجتمع الارترى، ومشكلة الجبهة البنيوية نتيجة استنساخ تجربة (تقسيم المناطق) من التجربة الجزائرية ومابنى عليها من ممارسات قبلية وعشائرية، وأزمة القيادة السياسية فى الخارج وعدم قدرتها فى المواءمة بين (استرتجية الداخل) ومتطلبات الداخل ولد فجوة بين القيادة السياسة فى الخارج والقيادة العسكرية فى الداخل، وعدم بلورة برنامج سياسى وفق نظرية ثورية كل هذه العوامل أدت الى ظهور بداية الشرخ وثقافة الانشقاق والانقسام فكان بداية انشاق (قوات التحرير الشعبية) ونتيجة للتقارب بين أبناء سمهر والساحل وأبناء المرتفعات من حيث الاستقرار والمدنية بالاضافة الى ماتميز به أبناء سمهر والساحل من المرونة والبراغماتية وتغليب المصالح على الولاءات القبلية والعشائرية كل هذا شكل أرضية للالتقاء ضمن ماعرف (بقوات التحرير الشعبية).

الكاتب ركز على تجربة الشعبية ودراسة مساراتها وتأثيرتها على المستقبل الإرترى بناء على أنه ابن تلك التجربة ونحاول فيما يلى تلخيص مكثف لمخرجات تلك القراءة النقدية وهى إجابة على عدة اسئلة متعلقة بتجربة الشعبية هى:-

لماذا نجحت تجربة الشعبية فى مهمة التحرير وفشلت فى بناء الدولة الحديثة والتى تسع كل مكونات المجتمع الارترى الاجتماعية والسياسية ؟
هذا هو السؤال المركزى الذى بنى عليه تحليلاته وقراءته للتجربة وخرج بعدد من المخرجات والتى تعتبر طفرة سيما أنها صدرت من أحد أبناء التجربة.

وثيقة (نحن وأهدافنا) والتى صدرت فى نوفمبر 1971م بالرغم من أنها صدرت باسم قوات التحرير الشعبية الا أنها فى الحقيقة تعبر أفكار اسياس أفورقى شكلا ومضمونا وتعبرعن ماكان بين نخبة (أديس أبابا) وماتمثله من أرث سياسى وثقافى وعقلية الشك والريبة من الجبهة وتوجهاتها العروبية / الاسلامية ونخبة (القاهرة) وخلفياتها السياسية والتاريخية وارتباطتها الخارجية وتأثر تلك العلاقة بمؤثرات الحراك والخلاف السياسى بين مصر عبد الناصر / والامبراطور هيلى سلاسى ويمكن القول بأن البيان (الوثيقة) هو بيان تعريفى بقوات التحرير ورؤيتها للواقع الارترى السائد آنذاك والرؤية الحالية آنذاك والمستقلبية لمسار الثورة الارترية وخلاصة الأفكار التى تضمتها هذه الوثيقة هى:-

1. فهم شروط إرتريا ووضع برنامج سياسى للثورة حيث الانتقاد الأساسى لتجربة الجبهة هو عدم وجود نظرية ثورية للعمل المسلح.

2. الإنقسام فى الأربعينات مخطط أستعمارى لتقسيم المجتمع الأرترى وبيان أن خيارات الإنقسام صنيعة استعمارية.

3. تقسيم المجتمع الارترى الى تسع مجموعات ثقافية تطورت فيما بعد الى مفهوم (القوميات) وهذه نقطة جوهرية بنت عليها الشعبية سياساتها تجاه القوميات ولغاتها ورفض مبدأ ثنائية اللغة واعتبارها من صنع الاستعمار ولا أصل لها فى الجذر التكوينى للشعب الارترى.

4. إقرار العامل الثقافى الأبرز (الدين) ودوره فى التباين بين المنخفضات والمرتفعات وغياب الوعى بهذا الواقع فى تجربة الجبهة.

5. خطأ الجبهة فى عدم وصف النضال التحررى بالوطنية بدلا من التوجه العروبى / الاسلامى للجبهة.

6. الإرتكاز على واقع الممارسات والتصفيات من قبل الجبهة لأبناء المرتفعات فى توصيف الجبهة بالطائفية والقبلية.

بناء على الرؤية السابقة للتنظيم استطاعت الشعبية بناء تنظيم قوى استطاع التخلص والنجاة من شرك التصفية الذى أعدته الجبهة بإحكام وكذلك استعصت على محاولات التصفية من قبل العدو الأثيوبى حيث استعصمت بجبال الساحل العصية وثبتت أقدامها حتى عشية الاستقلال وهنا يطرح الكاتب الأسباب التى مكنت الجبهة الشعبية من البقاء وبناء تنظيم قوى يكمل المشوار التحررى وذلك من خلال تأسيس التنظيم على عدة أسس:-

1. تطبيق المقولات الماركسية وجعلها هى أساس النظرية الثورية للعمل النضالى والتحررى.

2. كسب معركة الأدلجة والتنظيم السياسى عبر التثقيف السياسى لمناضليها من أجل انتاج أفراد متشابهين فى الرؤية والقدرات.

3. إحكام الهيكلية القيادية حتى لايحدث نزاع كما فى الجبهة.

4. الإعداد العسكرى الصارم.

5. بناء علاقة التنظيم الطليعى بالجماهير من خلال شعار.

(فلتوع وتسلح وتنظم الجماهير) وتم إعداد برنامج يقوم بانجاز هذا الشعار على أرض الواقع:-

أ) التوعية: حيث أنشات مدرسة الكادر من أجل توعية المناضلين وتم نقل عصارة الفكر الماركسى بأسلوب مبسط والتركيز على التجارب الثورية للشعوب الأخرى بالاضافة الى برنامج (محو الأمية) للمناضلين والمواطنيين والتواءمة بين التوعية والاعلام حتى تأسيس (صوت الجماهير1979).

ب) التسليح: تأسيس المليشيات الشعبية من أجل تطبيق ممارسة التنظيم فى أواسط الجماهير وتقديم الحماية وربط المناطق المحررة وشبه المحررة به.

ج) التنظيم: والهدف منه خلق منظمات فئوية تستطيع استقطاب الجماهير وتأطيرها فى منظمات فرعية تابعة تؤمن عضوية واسعة فى الداخل والخارج تنشر أفكار التنظيم ومبادئه وادارة هذه الاتحادات من خلال الادارة الشعبية.

استطاع الكاتب الى تحليل بنية التنظيم على المستوى السياسى والعسكرى وتحديد نقاط القوة والضعف فيه ليصل الى مقاربة الاجابة على السؤال المركز بناء عليه حيث يمكن الاشارة الى نقط القوة فى الشعبية حسب الكاتب الى النقاط التالية:-

1. التفوق على الصعيد العسكرى وبناء قوة عسكرية تتميز بالانضباط الفائق ووضوح القيادة والهدف والتضحيات الجسيمة استطاعت بموجبه التماسك وتجاوز محاولات الاستئصال من العدو الاثيوبى وإفشال حملاته العسكرية.

2. الإعتماد على مبدأ (الاعتماد على الذات) فى المجهود العسكرى بشكل شبه كلى مما ساعدها على استقلال قرارها خاصة من القوى الاقليمية وأجندتها وتدخلاتها وشروط الجهات المانحة ولقد ساعدها على هذا تركيبة أبناء المرتفعات المبنية على التقشف.

3. تماسك البناء التنظيمى والعسكرى جعلها تتفوق على نفسها قبل أن تتفوق على الآخرين حيث لم تعان من الاختراق من قبل العدو الاثيوبى أو دول الجوار أ التنظيمات المنافسة على عكس جبهة التحرير ويعود ذلك للسرية المطلقة فى التنظيم ساعدت عليها التركيبة السيكولوجية لأبناء المرتفعات المكون الأساسى للتنظيم.

4. تأمين الجبهة وسلامتها من التشققات والانقسامات الداخلية الجماعية باستثناء مجموعة المنكع (فى الثورة) وقيام حركة مايو1993 وتمرد المقاتلين المعوقين فى ماى حبار ومجموعة (15) التصحيحية فى 2000 م مقارنة بتجربة الجبهة تعتبر الشعبية تنظيم متماسك داخليا استطاع تجاوز أزمة الانشقاق والانقسام نتيجة للطبيعة المركزية للتنظيم.

أما مايتعلق بنقاط الضعف الأساسية فى الشعبيه فهى:-

1. ضعفه القانونى وغياب وضعف المؤسسات القانونية وتبدت هذه الاشكالية فى تعاطيها مع مجموعة المنكع وكل المخالفين لسياسات وتوجهات القيادة.

2. ضعف التنظيم فى البناء السياسى واعتماده على مركزية وسرية فى القيادة حتى أن اللجنة المركزية لم تمارس سلطاتها التشريعية حقا وبالرغم من القدرات العالية من التنظيم والتأطير والانظباط الذى تميز به الا أنه عجز أن يبنى أفراده على الاختيار السياسى الواعى بدلا من الولاء المطلق والذى يتناقض مع جوهر التثقيف السياسى والذى يهدف الى خلق كادر واع يتصد لمهام التحرر الوطنى الديمقراطى.

انتهى الكاتب فى تحليله لمالآت تجربة الشعبية بتشبيه مجازى يصور المحصلة النهائية للتجربة وذلك باعتبارها مثل السيول الهادرة المندفعة بجنون المرتفعات وعندما تصل السهول الساحلية تقل قوة إندفاعها وتتشربها السهول الرملية الفسيحة، هكذا كانت نتيجة تلك التجربة حيث وصلت الشعبية فى التسعينات باندفاع هائل الى سهول الاستقلال الرملية الفيسحة فحدت متطلبات الدولة بناء الدولة وتحدياتها من اندفاعها وغاصت حتى الخاصرة فى مستنقع البناء عندما عجزت عن مواجهة هذه التحديات، حيث إن الجبهة الشعبية لم تكن تملك لتحدى بناء الدولة سوى شرعيتها الثورية واعتقادها أن
(التنظيم الذى حقق معجزة الاستقلال هو التنظيم نفسه القادر على تحقيق معجزة التنمية والبناء) متناسية أن متطلبات المرحلتين وشروطهما تختلف تماما.

الخلاصة التى توصل اليها الكاتب فى قراءته وتحيليله البنيوى لتجربة الشعبية وتركيبتها وتأثيرها على التاريخ النضالى والمستقبل السياسى لإرتريا والنتائج الكارثية لتلك التجربة هى أن الجبهة الشعبية خلال تاريخها الطويل هى نتاج سمة جغرافية حملتها معها ضمن سيادة العنصر البشرى الغالب فيها وفى قيادتها وظفتها الشعبية لبناء آلة عسكرية أمنية فعالة أمنت عبرها انجازات عسكرية حاسمة توجت باستقلال ارتريا وساعدها على تحقيق ذلك تاريخيا توافر ثلاث شروط وهى:-

أولها: تصدع جبهة التحرير داخليا مما جعلها تنفرد بالساحة والعمل العسكرى.

ثانيا: تأكل النظام الأثيوبى وتساقطه.

ثالثا: تأثر المنطقة بظروف الحرب الباردة.

هذا من ناحية الزمان، وأما من حيث اعتبارات المكان والجغرافية اختارت الشعبية جبال الساحل المنيعة ملجأ طبيعيا لها، وهذامايعرف فى الجغرافية السياسية بعامل البعد (Remoteness)، وهو العامل الذى يعتمد على أن السلطة المركزية كلما ضعفت اختارت القوى المناوئة لها المناطق النائية للتحصن والمقاومة، فكل هذه الشروط الذاتية والموضوعية أدت إلى تحقيق الشعبية معجزة الاستقلال.

ولكنها فى مرحلة بناء الدولة لم تستطع الا الانغماس حتى النخاع فى محاولة (إنتاج شرط وجودها التاريخى) ولكن الحقيقة التى لامحيص عنها هو أن الشعبية تنظيم عسكرى وصبغت العسكره مسيرته التاريخية وبناء عليه لم يستطع التعاطى السياسى مع قضية بناء الدولة وتحدياتها وعندما فشل بحث عن مايعلق به ذلك الفشل الذريع من تشكل (بارانويا وتهييج) مؤداها أن انجازات الشعب الأرترى مستهدفة من الأصولية الاسلامية المدعومة من الحكومات الأصولية (حكومة الانقاذ) فى التسعينات، وتارة مستهدفة من العقلية التوسعية لحكام تقراى فى اثيوبيا فى النصف الثانى للتسعينات، وأخيرا الإمبرالية الأمريكية المناهضة لحريات الشعوب فكانت نتيجة هذه (البارانويا) المتلبسة هو دق طبول الحرب مماحرم الشعب من العيش فى سلام وأصبحت هذه الحروب هى الكابح أمام تطلعاته.

تطلع الشعب الأرترى إلى تحقيق دولته المستقلة وقد حملت هذا التطلع أحزاب الكتلة الاستقلالية وسلمت الراية لحركة تحرير ارتريا وواصلت جبهة التحرير المسيرة وأكملتها الجبهة الشعبية ووصلت خط النهاية بتحقيق إستقلال البلاد ولما كان هذا الإنجاز ليس غاية فى ذاته انما هو وسيلة لغاية أعلى وهى (الحياة الكريمة) من خلال التنمية الوطنية والتى تعتمد على متطلبات تستلزم مؤسسات ومشاركة سياسية باعتبارها شرطا فى بنائية التنمية.

ومن خلال محاكمة تجربة الشعبية إلى تاريخها النضالى ونتاجها على أرض الواقع سياسيا واقتصاديا ومحاكمتها إلى شعارتها فى فترة الثورة والإستقلال (الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة) توصل الكاتب إلى نتيجة مؤداها أنها فشلت فى تحقيق طموحات الإنسان الإرترى المتمثلة فى الحياة الكريمة وفى العدالة والديمقراطية التى رفعتهما شعارا فى اسم التنظيم السياسى بعد الإستقلال، وكذلك عجزت فى خلق حالة من التراضى الوطنى والتشاركية فى بناء الدولة وإدارتها فهى بامتياز (تنظيم مأزوم) يعيش مجموعة من الأزمات فما هى مفاصل الوضع المأزوم التى يعيشها التنظيم ؟:-

1. أزمة عقدة المؤمراة التى صاحبت التنظيم فى كل مراحله وهاجس الريبه والشك الذى تأسس عليه التنظيم.

2. أزمة الثقة فهى تمنح الثقة المجزأة فى الشعب فى الحروب والشدائد وتتنكرله فى فيما تعلق بالحقوق الدستورية بحجة عدم الثقة بقدراته وجاهزيته لمتطلبات الديمقراطية ومن مظاهر أزمة الثقة وجود حاجز بين المدنيين والعسكريين وعدم الثقة فى ارتريى المهجر.

3. العجز عن مسايرة المتغيرات فالتنظيم مبنى على الولاء الأعمى وليس على عنصر الكفاءة والقدرة.

4. القطيعة العميقة الجذور مع الشباب الإرترى وإشكالات أغلال الخدمة الوطنية وتدمير جامعة أسمرا.

وفى ختام هذه القراءة لابد من الاشارة الى عدة أمور:-

أولا: هذه الكتاب فى سياق محاولات فهم آلية عمل الطغيان فى التفاعل السياسى يخدم هدفين نبيلين:-

1. ادراك الجذر الفلسفى الذى تتكئ عليه شجرة الطغيان الفاسدة من اجتثاثه من جذوره.

2. تطهير تربة التفاعل السياسى الارترى حتى لاتنبت نبتة طغيان أخرى.

ثانيا: من الاشارات المفيدة فى الكتاب فتح آفاق الى قضايا فى التجربة الوطنية الارترية تحتاج ادإلى دراسة وإعادة قراءة عميقة من خلال معطيات موضوعية ومداخل تحليلية متعددة وهذا القضايا هى:-

1. دراسة فترة تقصير المصير فى سياقاتها الاجتماعية والثقافية والدينية وتردادتها فى مسيرة العمل السياسى والنضالى.

2. دراسة موسعة لشخصية القائد/ عثمان صالح سبى إنجازته السياسية والثقافية وأثره فى النضال السياسى بعيدا عن التحيزات والأراء المسبقة.

3. دراسة الحروب الأهلية والإصطراع الأهلى ودوره فى تآكل الشعور الجمعى.

4. التجارب الأصلاحية داخل الجبهة الشعبية وعوامل فشلها وعدم وصولها لمقاصدها والإجابة على سؤال محورى هل يمكن إصلاح الجبهة الشعبية ؟

ثالثا: اخطر مايمكن ان يواجه المستقبل السياسى فى أرتريا طرحه الكاتب فى سؤال مخيف وهو هل يمكن أن تفقد أرتريا إستقلالها ؟

هذا السيناريو الكارثى نظر إليه الكاتب من خلال إعتبارات موضوعية وهى:

1. القيادة السياسية المتهورة ممثلة فى نيرون ارتريا (إسياس افورقى) والتى فقدت البوصلة ولا تضع النهايات الكارثية فى حساباتها.

2. المحيط الإقليمى لايكترث إلى مثل هذه النهاية الكارثية بل ربما كانت مفيدة للبعض.

3. حالة البؤس الراهن وعدم القدره على حماية نفسها وشعبها يساعد على هذا الإحتمال.

4. الإحتراب الأهلى والذى بذرت الشعبية بذوره وربما قادت الدرورس المستخلصة من قراءة مآلات تجربة الشعبية إلى قناعة وهى أن الحديد والنار هما السبيل الوحيد لتخليص الشعب الآرترى من الشعبية ولا مجال للإصلاح.

5. حالة الإغتراب التى فرضتها الشعبية وتوسع رقعة (إرتيرى الشتات) مؤشر خطيرفى هذا الإتجاه.

يبقى السؤال قائما وله إعتباراته ومسوغاته والذى ينبغى التفكير فيه هو ما الذى يمكن فعله عند حصولمثل هذا السناريو الكارثى.

ماسبق ماهو إلا تلخيص مكثف للأفكار والتحليل العميق الذى أودعه المؤلف فى هذا الكتاب والذى يعتبر بالرغم من صغر حجم الكتاب مادة دسمة للنقاش والتعمق فى قراءة تجربة الجبهة الشعبية والتى وفق الكاتب - فى تقديرى - على الأقل إلى النفاذ إلى العمق والإبتعاد عن القراءة السطحية لتلك التجربة وتجاوز الخطاب العاطفى ولكن لو أفرد مقالا أو أكثر لقراءة أفاق مستقبل الوطن وموقع الشعبية من إمكانية أن تكون جزء الحل كما كانت الجزء الذى له نصيب الأسد فى الوصول الى هذا الأفق المسدود لأكتمل عقد الكتاب، فالكاتب توسع فى قراءة (الإنسداد التأريخى) و المأزق التأريخى الذى خلفته هذه التجربة ولكن غض الطرف عن (آفاق المستقبل) وسبيل الخروج من هذه (المأزق) إلا إشارات هنا وهناك ولعل عذر الكاتب أنه أراد إثارة الأسئلة وقراءة مكامن (تعقيدات) التجربة وإشكالاتها وأثر ذلك على الوضع الحرج الذى يمر به الوطن أكثر من تقديم حلول جاهزة.

وأخيرا لايملك قارئ هذا الكتاب بغض النظر عن التجافى والتقارب مع أفكاره ونتائجه إلا أن يعترف بأنه جدير بالقراءة الناقدة العميقة فهو إضافة حقيقية للمكتبة الإرترية.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click