الغولاغ الأرتري مشاهدات سوداني في معتقلات الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة - الحلقة الخامسة

بقلم الأستاذ: أمير بابكر عبدالله  المصدر: دفاتر أمير

أرتريا هي الدولة ذات الشاطئ الأطول من بين الدول المطلة على البحر الأحمر، والذي يمتد من جيبوتي جنوباً

الغولاغ الأرتري

حتى الحدود السودانية شمالاً. وينقسم - ضمن التقسيم الإداري الحالي لأرتريا - إلى قسمين، إقليم شمال البحر الأحمر الذي تقطنه قبائل البني عامر (التقري كما يطلقون عليها) المتمددة داخل السودان مع إمتداد سلاسل جبال البحر الأحمر، وأكبر مدنه مصوع ونقفة وأفعبت. وقد لعبت منطقة البحر الأحمر السودانية، جغرافياً وطبوغرافياً وبشرياً، دوراً رئيسياً في إنتصارات الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا (للديمقراطية والعدالة لاحقاً) على الجيش الأثيوبي. وكان لـ(الشعبية) وجودها في تلك المنطقة وغيرها من مناطق السودان، وهو وجود محمي بأمر الشعب السوداني الذي ناصرها حتى النهاية ولم يبخل عليها ولا على بقية الفصائل الأرترية دعماً ومؤازرة وحتى قتالاً من أجل أن يكون لإرتريا دولتها الحرة المستقلة.

رغم تقلبات السياسة إلاَّ أن وقفة الشعب السوداني مع الشعب الإرتري لم تكن إعتباطاً ولا ترفاً، بل هي وقفة مع الحق قائمة على دعامات تاريخية وركائز إثنوثقافية متداخلة، هذا غير القوانين الداخلية التي تحكم العلاقات بين الشعوب التي تحدثنا عنها سابقاً (تلك القوانين التي احتملت أن يستضيف الشعب السوداني كلا الشعبين الإرتري والأثيوبي في ذات الوقت). ولا تزال ألسنة المواطنين الأرتريين تلهج بالشكر وقلوبهم يملأها الحب للسودانيين وللسودان. بل ويثقون فيهم أكثر من ثقتهم فيما بينهم، حيث بيوتهم وعقولهم وقلوبهم مفتوحة للسوداني دون تحفظ، وتلك اللازمة المحببة لديهم "السودانيون كرماء دائماً ما يقولون لك تفضل" لا تكاد تبارح لسانهم، وهي رغم بساطتها (في اعتقادنا) لكنها تفصح عن الكثير من الوشائج العاطفية التي تشكلت خلال رحلة الهجرة واللجوء التي ما زال يعاني منها الشعب الأرتري.

إذا كان سجن "نُخْرَة" الذي تحدثت عنه سابقاً يقع في إقليم جنوب البحر الأحمر الذي تقطنه قومية العفر وأكبر مدنه عصب التي يقوم فيها ميناء عصب الشهير، فشمال البحر الأحمر يروي عن سجونه ستة أشقاء (ثلاثة ذكور وثلاث فتيات). أكبر الذكور ملامحه تدل على أنه في العشرين من عمره أما أصغرهم فلا يتجاوز الثلاثة عشر عاماً بأية حال من الأحوال، وما بينهما في السادسة عشر وربما زاد قليلاً أو نقص. فيما تتراوح أعمار الفتيات ما بين الخمس وعشرين والسبع عشرة سنة.

بدأ الستة أشقاء رحلتهم الغريبة قبل تحركهم من مدينة أسمرا مسقط رأسهم وموطنهم الأصل. وكانت البداية رحلة بحث عن مخرج من النفق المظلم الذي يعيشون داخله، ولا يلمح أحد منهم بريق أمل في الأفق ليقرروا مثل بقية الشباب الأرتري الهروب منه بأية ثمن. ومن سخرية القدر أن يلتقي تفكير هؤلاء الشباب الستة مع (إبن الجبهة الشعبية المدلل) رئيس الإتحاد الوطني لشباب وطلبة إرتريا الأستاذ محي الدين شنقب الذي عزم، ونفذ هروبه الشهير، فيما بعد، أثناء رحلة رسمية له لخارج البلاد (على طريقة الإعلانات التلفزيونية، خرج ولم يعد) وهو الذي كان مرشحاً لكرسي الوزارة في مرحلة حكم الجبهة الشعبية القادمة.

استطاع الشباب الستة التسلل إلى مدينة مصوع على دفعات بعد إتفاقهم مع أحد الأشخاص الذين يعملون في مجال تهريب البشر (التجارة السائدة الآن في إرتريا)، الذي إستلم منهم مبلغ مائة وثمانين ألف نقفة نقداً عداً، أي كل رأس مقابل ثلاثين ألف نقفة. وبعد نجاحهم جميعاً في اجتياز نقاط تفتيش ومراقبة الجبهة الشعبية المنتشرة على طول الطرقات وإكتمال تجمعهم في المدينة الساحلية، بدأوا الرحلة الحقيقية.

على مشارف شمال مدينة مصوع إنتظرتهم ستة جمال وسابعها من النوق التي تفخر بها العرب تخص (المهرباتي) الذي يسقودهم إلى (الخلاص). إنطلقت القافلة في ليلة نصف مقمرة تقطع تلك الصحراء التي يحتضنها البحر من الشرق وتعتصرها سلسلة جبال البحر الإحمر من الغرب، إنطلقت بعد أن تزود ركابها بما يعينهم على مشقة الطريق.

ثلاث ليالي أحتملوا فيها ما احتملوا من معاناة وتقيأوا فيها كل مشاعر الإنتماء، ولكن ما يقتل اليأس داخلهم هو ذلك الأمل الذي يداعب دواخلهم في حياة تلوح فيها آفاق مشرقة للمستقبل مع بزوغ شمس كل يوم، حيث يأخذون قسطهم الوافر من الراحة بين ثنايا الرمال وتعرجات الصخور التي يحطون رحالهم قربها، ليواصلوا مسيرتهم مرة أخرى بعد سقوط قرص الشمس في برزخها.

في الثلث الثاني من الليلة الرابعة تجاوزت القافلة منطقة "مي هميمات" التي لا تبعد كثيراً عن الحدود السودانية، وامرهم الدليل بالتوقف في منطقة تقع في منتصف المسافة بين "مي هميمات" و"قرورة الأرترية، التي لا يفصلها عن السودانية سوى مجرى مائي يمتلئ أثناء هطول المطار". وذكر لهم بأنه سيذهب لإحضار عربة بوكس (كان قد إتفق مع سائقها كما ذكر لهم) لإكمال بقية المشوار والعبور بهم إلى العمق السوداني. وحيث لا ركن قصي ينتبذون إليه في ذلك الفضاء الرحب فقد ظلت عيونهم مفتوحة تحاول إختراق المجهول. ولكن المجهول أتاهم على أربع في هيئة عربة لاندكروزر بك أب تتبع لجهاز المخابرات الإرتري عليها قوة مدججة بالأسلحة.

إنهارت أحلام الشباب واستحالت سائلاً ثم غازاً لتتلاشى في ظلمة الليل رغم وجود بعض من قمر. ومن تلك البقعة تم ترحيلهم إلى "قرورة الأرترية" مقر استخبارات حرس الحدود. ويوجد في "قرورة" سجن تحت الأرض يتبع للمخابرات ويديره قائد المنطقة وقتها (الرائد ولدو) وملازم أول عثمان. ويمكن تخيل ما حدث لثلاث فتيات على سطح الأرض ناهيك من تحت الأرض، إضافة إلى أنهم قريبون من منطقة "عريرب" التي أنشأت فيها الجبهة الشعبية واحد من أشهر سجون مخابراتها - منذ أيام النضال - والتي تتواجد فيها فرق الإعدام التي تنفذ في معارضيها الآن دون محاكمات. تم ترحيل الشباب الست إلى مخابرات منطقة "مي هميمات" وتم حفظهم كودائع يمكن التصرف فيها في سجن المخابرات الواقع قرب المطار الذي شيده الأثيوبيون لإستخدامه في ضرب مواقع الثوار الإرتريين. لتبدأ رحلة الجحيم منه إلى سجن "تراكبي" في أسمرا مروراً بسجن "تسني".

وها نحن عائدون منتصف النهار، وقد أخذ منا التعب والإرهاق مأخذاً بعيداً بعد يوم عمل شاق آخر. إن ظهري يؤلمني بشكل حاد، هذا غير إرتفاع الضغط الذي أعاني منه وقد منعت عني إدارة السجن الحبوب التي إنقطعت عني في اليوم الثاني لقدومي. رغم كل ذلك شدَّ إنتباهي - كما الجميع - وصول هؤلاء الشباب في تلك الأثناء.

عادة ما يصل نزلاء جدد لسجن "أدر سار" يومياً ولكن الشاحنة "الفيات" العجيبة الشكل والتي تأتي محملة بالسجناء من سجن تسني هي التي يتوقعها النزلاء، مرتين في الأسبوع، لتحمل لهم أنباء من خارج الأسوار. ولكن هذه المرة جاء الشباب الستة إلى معقل "أدر سار" في عربة لاندكروزر بك أب. وأضيفت إلى زنزانة النساء ثلاث فتيات غير الأربع اللاتي ينتظرن مصيرهن "وغالباً إلى ساوا حيث مركز التدريب العسكري".

لأن طبيعة سجن "أدر سار" لا تحتمل فوق طاقتها يتم تفريغه من فترة لأخرى، فقد شهدت خلال الفترة الماضية أعداد من النزلاء يتم استدعاءهم وترحيلهم - وبالتحديد الشباب منهم - إلى معسكر تدريب ساوا. بعضهم تتهلل وجوههم لخروجهم من جوف الأرض والبعض الآخر يعتقد أن لا فرق بين ساوا وسجون الإستخبارات. أما الفتيات من شاكلة "سمريت وفاطمة" فمصيرهم معسكر ساوا الذي حاولوا الهروب بسببه أصلاً.

إن وجود فتيات رهن الإعتقال في هذا الموقع من العالم، يعد شيئاً غريباً لا يبرره شيء سوى طريقة التفكير المشوهة التي تسيطر على الجبهة الشعبية في مختلف الأمور. وغرابة الوضع تأتي من خصوصية المرأة واحتياجاتها اليومية. فلا مكان مخصص للتبول، حيث تتبول في الخلاء وتحت فوهات البنادق المشرعة، ولا أدري كيف يقضين حاجتهن في ظل هذا الوضع الذي نعاني منه نحن جنس الرجال.

12 أبريل 2004م ...

أشعر اليوم بأن وضعي الصحي في أسوأ حالاته، ولكن كيف يمكنني أن أفحص ضغطي بعد أن رفضت إدارة السجن تحويلي لمستشفى حرس الحدود ورفضت حتى طلبي الملح بضرورة حصولي على حبوب البروبرنالول التي أتعاطها يومياً وانتهت قبل مدة. ورغم دعم طلبي بواسطة المسئول الطبي للسجن أخونا "ناصر" إلاَّ أنني توكلت على الحي الدائم واعتمدت على فصوص الثوم الذي يجلبه لي بعض العاملين ضمن طاقم الحرس. لا ادري لماذا هو مهتم بي ولكنه كان ضمن طاقم الذي رافقنا من سجن "تراكبي" إلى هنا إنه واحد من أبناء التقري "البني عامر" يدعى "عامرا".

أبناء النبي عامر في سجون المخابرات الأرتيرية كثيرون ورغم وجود أعداد متقاربة من كل القوميات الأرترية في تلك السجون إلاَّ أنهم المشكوك فيهم من قبل المخابرات أكثر من غيرهم، خاصة في مناطق المنخفضات والبحر الأحمر. فهم أولاً سكان تلك المناطق القريبة من السودان ووجودهم ممتد حتى العمق السوداني، فهم سودانيون أرتريون كبقية القبائل الحدودية في أطراف السودان المختلفة. وواحدة من الأشياء المحزنة وجود شيخنا إدريس وإبنه في هذا الموقع. إنه وضع لا إنساني ويمثل قمة الإحتقار للإنسان.

يسكن شيخنا إدريس - الذي يكاد يتحرك بالكاد وهو الذي تجاوز السبعين من عمره - يسكن في قرية "علي قِدِر" المجاورة لمدينة تسني. وهو مثل غيره من أبناء البني عامر له علاقاته الأسرية الممتدة داخل السودان، فله أخوة وأبناء عمومة وبنات متزوجات في مختلف مدن السودان. وقبل أن تقلب الجبهة الشعبية (للديمقراطية والعدالة) ظهر المجن للسودان وشعبه، كانت الحركة الحدودية إعتيادية بلا تعقيدات رسمية، وكان المواطن يعبر الحدود من هنا وهناك بيسر هو وما يحمله، ويمكن أن تكون زوجتك وابناءك في كسلا و أنت عمل في تسني كأنك تعمل في إحدى المدن السودانية.

ما حدث لشيخنا إدريس وإبنه لا يعبر سوى عن المحاولات البائسة للسلطة في دق إسفين في علاقات الشعوب، بل الشعب الواحد. فقد قرر أبن شيخنا إدريس الزواج من إحدى بنات عمه المقيمة في قرية على مشارف مدينة كسلا. سافر الإبن متسللاً إلى القرية في فترة سابقة ليقدم شبكته للعروس وهو ما قام به، وعاد مرة أخرى إلى قريته "علي قِدِر" وواصل عمله إلى حين موعد الزواج الذي حدد تاريخه. وعندما حان موعد الزواج سافر الإبن مرة أخرى وأيضاً متسللاً لإكمال المراسيم. وهو ما حدث بالضبط وعندما عاد تم إلقاء القبض عليه من قبل المخابرات الإرترية هو ووالده الشيخ إدريس. إتهمت المخابرات الإرترية الإبن بالتخابر لصالح المعارضة الإرترية وأن سفره المتكرر إلى تلك القرية ما هو إلا من مهام عمله التخابري. فيما اتهمت الأب بمساعدة إبنه على التسلل عبر الحدود وإخفاء معلومات عن الدولة.

تم ترحيلهما فوراً إلى مدينة تسني وإيداعهما سجن المخابرات هناك. وكما قال لي شيخنا إدريس بسودانية حميمة "وعين ما تشوف إلاَّ النور". إلى رحِّلا إلينا قبل يومين. جلت ببصريى في شيخنا إدريس وإبنه علني أنفذ إلى سر تخابرهما لصالح المعارضة الإرترية بلا جدوى. فالرجل هرِم لدرجة لا تسمح له بالسمع ولا البصر جيداً، وفوق ذلك همومه واهتماماته لا علاقة لها لا بالمعارضة ولا بالسلطة الحاكمة.

"إنه الهوس الذي اعترى نظام الجبهة الشعبية (للديمقراطية والعدالة) والرعب الذي أصابها من المعارضين لها ما يجعلها تعتقل شيخنا إدريس" قالها لي أحد المعتقلين بجواري وهو ينظر إلى شيخنا إدريس ويشير بعدها إلى أخونا محمد الأمين راعي الغنم الأربعيني. إعتقلته المخابرات في المنطقة التي يرعى فيها جوار قرية قلوج المفتوحة حدودياً على منطقة القرقف السودانية. ليس من سبب لإعتقاله سوى أن أحد الذين اعتقلتهم المخابرات سابقاً دلهم تحت وطأة التعذيب على من أرشده على الطريق إلى القرقف. وعندما سألت محمد الأمين عن ذلك ذكر بأنه كان يرعى كالعادة في تلك المنطقة وكان لحظتها في مفترق طرق عندما قدم إليه شخص لا يعرفه وسأله عن أي الطريقين يوصله إلى القرقف السودانية، فأشار إليه إلى الطريق الصحيح .

إنه حقا هوس ورعب ذلك الذي يجعل جهاز مخابرات دولة يتخبط عشوائياً، خاصة إذا كانت دولة نظامها مصاب بالشلل الرعاش. ولكن علاج الشلل الرعاش السياسي أيسر. فما على الجبهة الشعبية (للديمقراطية والعدالة) إلا أن تكون عادلة وديمقراطية، تعترف بالآخر وتترك نهجها الإقصائي حتى وإن أدى ذلك إلى فقدها مقاليد الحكم ديمقراطياً. فهي الآن غير مؤهلة لتحقيق تطلعات جماهير شعبها، وإن فقدته ديمقراطياً فهذا لن يغير من هذه النتيجة.

14 أبريل 2004م ...

هرج شديد غطَّى على كل أحاسيس التعب والإرهاق ونحن قادمون منتصف النهار، عندما جاء القائد الإداري ومسئول شئون المعتقلين في إدارة سجن "أدر سار"، النقيب سلطان وهو خريج كلية القانون في جامعة أديس أبابا الأثيوبية قبل تحرير إرتريا، وانخرط مثل كثيرين من أبناء الشعب الإرتري في النضال من أجل تحرير وإستقلال وطنه وانتهى به المطاف في الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا. وقف سلطان وسط السجن وهو يحمل عدة أوراق في يده قرأها البعض في خياله بأنها إفراج عن أعداد كبيرة من المعتقلين. وساور بعضهم التفاؤل في الخروج اليوم قبل غدٍ والعودة إلى الحياة الطبيعية.

كانت المفاجأة المضحكة المبكية التي أعلنها الضابط سلطان، وذلك بعد أن أمر الجميع بالجلوس القرفصاء في هجير الشمس بينما وقف هو على أطراف ظلة شجرة تكاد تتوارى خجلاً من شدة فقرها خضرةً وظلاً. كانت المفاجأة أن الضابط المسئول عن الإدارة - وهو أقل من سلطان رتبة - قد جمع كل الأمانات التي بطرفه بما فيها أمانات المعتقلين من أموال (وهي أموال كثيرة بمقاييس أرتريا) ومقتنيات ثمينة كانت في حوزة بعض المعتقلين عند احتجازهم، جمع كل هذا وهرب إلى جهة غير معلومة. كانت هذه المفاجأة المضحكة، اما المبكية فهي إعلان سيادة القائد الإداري بأن كل من كانت له أمانة طرف سجن "أدر سار" يعتبرها في حكم الوديعة الضائعة ولا يحق له مطالبة أي جهة عنها لا حاضراً ولا مستقبلاً.

غم النتيجة المبكية هذه إلا ان الجميع إتفقت أمنياتهم على "أن لا يقع الهارب في يد المخابرات"، خاصة وقد سرت شائعة سريعاً - رغم حرارة الشمس - أن الهارب توجه إلى السودان بغنيمته. ومرد هذه الأمنيات البادية الغرابة أن الهارب يعتبر من ذوي الرتب في الجيش الإرتري، وهم يعاملون بقسوة أشد كما ذكر لي مرة أحد الذين عرفتهم في مدينة أسمرا، وقد كنا نمر بقرب بناية فخمة، أنه كان داخل هذا المبنى مرة وعانى ما عانى الرائد داؤود ملك التعذيب في المخابرات الأرترية.

المبنى يقع في حي "ترافولو" أحد أرقى أحياء العاصمة، الذي كان يسكنه في السابق جنرالات الجيش الأثيوبي في الفترة ما قبل التحرير، وهو مبني بفخامة ومزين بالزجاج يوهم من يراه من الخارج بأنه يخص أحدى الشركات الإستثمارية. مقابل الواجهة من الداخل مكاتب للضباط ومكاتب للتحقيق. ويواصل محدثي، أما من الجهة الغربية داخل المبني فيقوم حائط عالي في وسطه بوابة كبيرة تفضي إلى موقع الزنازين الأول وهي عبارة عن ثماني زنازين رئيسية مداخلها جنوبية وتطل على ساحة كبيرة نسبياً، جنوبها تقع أربع زنازين أخرى لابد من المرور بباب صغير للوصول إليها خلفها مباشرة ساحة بذات حجم الأولى. أما من الناحية الشرقية فتوجد بوبابة تفضي إلى أربع زنازين أخرى.

كل رواد هذا المبنى من المعتقلين هم ينتمون للجيش الأرتري، إما من قدامى المناضلين او من الذين خضعوا للتجنيد حديثاً. وارتبط هذا الموقع بالحرب الأخيرة بين إرتريا وإثيوبيا والتي من تداعياتها غير حالات الجنون التي بدأت تظهر بشدة في شوارع العاصمة أسمرا وغيرها من المدن وبين الشباب خاصة الذين خاضوا غمار الحرب ولم يحتملوا ضجيج مدافعها، وغير حالات الفقر التي قادت إلى ظاهرة التسول بكثرة أيضاً في كل المدن، كانت واحدة من تداعياتها هي الإعتقالات وسط العسكريين والإعدامات التي طالت العديدين.

أما في هذا المبنى - كما يقول محدثي - فمعظم المعتقلين من القيادات العسكرية التي قادت أسلحة مهمة في الحرب الأخيرة. وجاء إعتقالهم نتيجة لآرائهم في الحرب بعد أن خفت صوت المدافع وبعضهم نتيجة لإنسحابات من موقع دفاعية مهمة بعد العمليات الهجومية الضاغطة التي قام بها الجيش الأثيوبي. وكان محدثي من ضمن الفئة الأولى (كما قال لي). وقد تعرض للتعذيب المستمر طوال فترة وجوده داخل المبنى كغيره من المعتقلين.

"كان يشرف على التعذيب أحد الضباط يدعى "داؤود" وهو واحد من سيئي السمعة في هذا المجال ويتبع مباشرة للجنرال تخلي منجوس الرجل الخامس في الدولة. كانوا يربطوا يدي بحبل خلف ظهري ويعلقونني في أعلى البوابة. إنه وضع مؤلم يقود إلى إلى الكفر أن تكون معلقاً لا تبلغ السماء ولا تلامس الأرض. غير هذا كانوا يجلدونني، إنه راتب يومي، رغم خدمتي الطويلة في الجبهة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير إرتريا قبل التحرير. إن آثار السياط لا تزال على جسدي - رفع لي طرف من قميصه ناحية الظهر ليؤكد لي على صدق روايته. غيري كانوا يمرون بنفس الموقف، حتى الفتيات كنا نسمع صراخهن يومياً بعد العاشرة مساء، كنا نقول إنهن يتعرضن للضرب أيضاً وربما الإغتصاب وهو شيء متوقع من داؤود وطاقمه".

أن يتعرض المعتقلون للتعذيب هو أمر إعتيادي، وقد شاهدت ضمن ما شاهدت ذلك الأثيوبي المعتقل معنا في سجن "أدر سار" - لا أذكر إسمه - وهو يتعرض للتعذيب البشع ومعه ذلك العجوز الإرتري ويدعى "قبرو سلاسي". وجدتهما داخل السجن حيث كنت أرى الأثيوبي (الوياني كما يطلقون عليه) يخرج من زنازين الحجز الإنفرادي لقضاء الحاجة فقط، فيما كان العجوز "قبرو سلاسي" معتقل في العنبر الذي يضمني. أعتقل الأول بتهمة محاولة الهروب من إرتريا والعجوز بتهمة محاولة تهريبه، أما العجوز فقد كان يقود عربة بوكس - هي أيضاً معتقلة داخل حظيرة السجن - تخص أحد المواطنين الإرتريين هو أيضاً تم إعتقاله من أسمرا وإحضاره قبل أيام وهو لا يقل عن ذلك العجوز سناً وخضع لتحقيق شديد بواسطة رجال المخابرات فقط لأن العربة ملكه هو وعائد عملها التجاري سيدخل جيبه في النهاية. رغم ذلك كان وضعه أفضل حالاً من سابقيه إذ كان يقضي يومه في مظلة فوق الأرض أمام العنابر التحت أرضية بسبب إصابته بمرض السكر وشفع له أنه إستطاع إقناع المسئولين بأن لا علاقة له بما جرى وأن عربته يقودها ذلك العجوز وهو من يحدد نوعية العمل وبالتالي يتحمل المسئولية عنه، ولكنه يقضي ليله تحت الأرض كبقية خلق الله من أمثالنا.

كانوا يعلقون "الوياني" والعجوز "قبرو سلاسي" في أعمدة بعد ان يربطوا أياديهما من الخلف بحيث لا تلامس أرجلهما الأرض. ولكنهم كانوا يضغطون على "الوياني" اكثر من زميله العجوز، إلى أن أصيبت يداه بالشلل، ليعجز تماماً عن إستخدام كلتا يديه. ولكني لم أر أصلب منه وأقدر منه على تحمل الأذى. كان كل المعتقلين يشفقون عليه من التعذيب الذي يمارس في حقه، ويسخطون سراً ومرات علانية على تلك الممارسات ويقولون "نعم إنه وياني، ونحن قد عانينا من الحرب مثلما هم عانوا، ولكنه إنسان وقد كان يعيش في إرتريا قبل الحرب حياة طبيعية كغيره من الإثيوبيين".

كانت واحدة من الظواهر التي أفرزتها الحرب، وهي من أسوأ ما أفرزته، تصاعد حدة المشاعر السالبة بين المواطنين في البلدين (إرتريا وإثيوبيا) تجاه بعضهما البعض ولكن تلك الحدة خفَّت كثيراً - على الأقل في الجانب الإرتري - وهو ما لمسته رغم محاولات التصعيد الإعلامي الذي تمارسه سلطات الجبهة الشعبية داخلياً للتعبئة ضد الشعب الإثيوبي. لقد بلغت درجة الحدة - أثناء الحرب وقبل إنخفاض صوت مدافعها - أعلى مستوياتها عندما تعامل النظامان الحاكمان مع المواطنين المتواجدين في بلدانهما بردود أفعال الحرب وتداعياتها. فقد طرد الجانبان المواطنين كل إلى بلادهم وتمت تصفية العديد من المواطنين الإثيوبيين في إرتريا بواسطة جهات مجهولة، وتقول إرتريا إن هذا رد فعل لما تقوم به السلطات الإثيوبية ضد مواطنيها هناك. ولكن - في إعتقادي - إن ما تم ليست له علاقة بذلك، وإنما يأتي في إطار تلك المحاولات التي تقوم بها الأنظمة عادة في مثل هذه الظروف، وكما يقول (مونتغمري): "إن من يريد الإنتصار في الحرب عليه إولاً توحيد جبهته الداخلية" وواحدة من طرق توحيد الجبهة الداخلية لدى أنظمة العالم الثالث هو تعبئة المواطنين ضد مواطني الدولة الأخرى ومحاولة عرقلة القوانين التي جعلت من الممكن أن تتعايش تلك الشعوب مع بعضها رغم كل شيء. وها هي تلك القوانين تثبت فعاليتها داخل سجن "أدر سار" من خلال مظاهر التعاطف مع ذلك "الوياني" الذي أصاب يديه الشلل نتيجة التعذيب المستمر.

تـابـعـونـا... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة

Top
X

Right Click

No Right Click