رغوة سوداء لحجي جابر.. بؤس الإنسان بين الوطن واللجوء

بقلم الأستاذإشراف بن مراد المصدر: جريدة الدستور

رغوة سوداء هي رابع إصدارات الروائي الارتري حجي جابر بعد روايته الاولى «سمراويت»

رواية رغوة سوداء

ثم الثانية «مرسى فاطمة» فالثالثة «لعبة المغزل». رواية مميزة حازت مؤخرا على جائزة كتارا للرواية العربية في دورتها الخامسة ضمن فئة الروايات المنشورة.

مَن قرأ لحجي جابر يعرف جيدا أنه قد تبنى ارتريا عنوانا لمشروعه السردي، فهو يكتب ليتعرف عليها أكثر كما يقول دوما. لكن في كل مرة يذهب حجي انطلاقا من ارتريا الى ارض جديدة ويطرق مواضيع لئن اشتركت في إبراز معاناة الانسان الارتري وبؤسه وقهره فإنّها قد جاءت ضمن حكايات مختلفة حاكها الكاتب بكثير من الدقة والرمزية، لتتجاوز حدود الاطار الجغرافي والانتماء للأرض، وتقدم ماهو إنساني شامل، فالبحث عن الحياة لا يخص الارتريين وحدهم ولكن كل المُجهَدين المُتعبين الباحثين عن الامل ولو كان سرابا.

يصر حجي جابر على القول بأنه حكّاء وبعد رغوة سوداء ندرك جيدا أنه حكاء ماهر من طراز رفيع فهو يقدم هذه المرة «حكاية الحكايات»، حكاية كل إنسان لا يرجو من هذه الدنيا إلا النجاة من أجل أن يحيا في أي أرض وتحت أي سماء، محاولا أن يتجاوز ثنائيات عديدة بين الانا والاخر، والاسود والابيض، والدين والدين الاخر، واللغة واللغة الاخرى والعرق والعرق الاخر.. فالبطل قد تنازل عن اسمه وأصله و«تبرأ» من أرضه وعرقه ودينه فقط ليعيش.. قدم كل التنازلات الممكنة لكنه في كل مرة يطفو الى السطح كما تطفو الرغوة ولأنه أسود البشرة كان العنوان رغوة سوداء بمثابة العتبة الاولى للرواية.. يهتدي من خلاله القارئ الى وجهته في حكاية حجي جابر.

ترتكز الرواية التي جاءت في 254 صفحة والمنشورة عن دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، على مضامين أكثراتساعا رغم تطرقها الى قضايا محددة تخص وضع اللاجئين الافارقة في اسرائيل، اليهود الفلاشا، بالاضافة إلى بؤس الواقع في ارتريا الذي يجعل الشباب يخوض مغامرة الموت من أجل البحث عن فرصة حياة.. وقد نتوهم أن الرواية تتوقف عند أزمة الانسان الارتري. لكن قراءة متأنية أو ربما ثانية، تجعلنا ندرك تماما أنّ الكاتب قد نسج أبعادا إنسانية كثيرة لحكايته. فكأنه أرد أن يكسر جميع الأقنعة ويعري جميع العورات التي نسترها بقناعات كثيرة قد لا تعجبنا أو قد نشتكي منها اذا تبناها الاخر، لكننا نعيد ممارستها وتصديرها بنفس الطريقة.

فداوود أو داويت أو ديفيد لم ينجح في الانتماء، هو إنسان واحد بأسماء متعددة يستخدمها كلما دعت الحاجة لذلك، فقد فشل في الانتماء الى ارضه كما فشل في الانتماء الى اي ارض أخرى..يظل في نظر من حوله عبد غريب،، فعلى الرغم من ادعائه كونه يهوديا من يهود الفلاشا لم ينجح في الولوج الى المجتمع الاسرائيلي، وفي الوقت ذاته يقابله الفلسطنيون بنفس الاستغراب والاستهجان فهو عبد أسود اللون، أينما ذهب يواجهه السؤال ماذا تفعل هنا ؟ («العبيد عبو البلد».. دون أن ينطق، رفع داويت يديه قرب رأسه معتذرا وهو يبتعد مسرعا، قبل أن تستوقفه ملامح الرجل، فقد كان هو نفسه ذاك العربي الذي فتشه الجنود بطريقة مهينة).

ورغم الخيبات يحاول البطل في كل مرة أن يصل إلى العمق فيثبت ويستقر، لكنه سرعان ما يطفو الى السطح..و يصل به اليأس إلى أن يرضى بأن يكون كذلك.. كالرغوة تماما..

لقد حاك حجي جابر روايته بسرد جذاب وتقنيات ماهرة رسم بها خطين زمنيين ليشد القارئ الى الرواية بكثير من التركيز والفطنة..

وقد لا نبالغ إن قلنا إن «رغوة سوداء» مغامرة حقيقية ليس فقط بالنسبة للرواية العربية حيث توجهت الى أرض جديدة وإنما أيضا بالنسبة إلى القارئ الغربي، خاصة إذا علمنا أن الرواية ستترجم إلى اللغتين الانجليزية والفرنسية.

ترى كيف سيتفاعل القارئ الغربي مع ما حكاه حجي عن اريتريا وعن اللاجئين وعن اسرائيل والقدس..

كما لا يمكن أن نغفل ايضا القارئ العربي الذي تعود أن لا يكون محايدا اذا ارتبط النص بفلسطين والتدين وهو عكس ما كان عليه بطل الرواية، فرغم تنقله الى اسرائيل فإنه لم يخض في ما ينتظره القارئ العربي دوما في مثل هذه المواضع، لقد كان محايدا حدّ الاستفزاز، برغماتيا الى درجة البؤس، لا شيء مهم بالنسبة إليه غير النجاة..

تُنهي قراءة الرواية ولا تنتهي منها، تظل الاسئلة المريرة تسكنك وتزعجك:

ألا يمكن أن تكون مختلفا عني ونعيش معا على الارض نفسها ؟
ما معنى دينك وديني وكلّها أديان تنادي بالرحمة والمحبة ؟
متى نتخلص من عنصريتنا ؟ ومتى نكون نحن ؟
ومتى نتخلّى عن هاجس الهجرة في سبيل أن نحيا ؟
ومتى نسترجع أوطاننا ؟

Top
X

Right Click

No Right Click