إنطباعتي عن رواية تيتانيكات أفريقية

بقلم الأستاذة: فاطمة موسى - شاعره وكاتبه ارترية

الروائي أبو بكر حامد كهال روائي إرتري و من المناضلين الذين شاركوا في معارك التحرير ضد الإحتلال الإثيوبي.

تيتانيكات أفريقية

بعد ذلك عاش فى المنفي و كانت ليبيا البلاد التى قضي فيها وقت طويل قبل هجرته إلى الدنمارك و مازال لها مكانة كبيرة فى قلبه. كتب روايتان الأولى بعنوان رائحة السلاح و روايته الثانية بركنتيا: أرض المرأة الحكيمة و من خلال السرديتان و شخوص الروايتان و الأحداث تظهر حقبات مهمة من تاريخ نضال الشعب الإرتري. تيتانيكات أفريقية العمل الروائي الثالث لكاتبنا صدرت من دار الساقي و ترجمت للغة الإنجليزية و التركية كذلك هى تعد من أول الروايات التى تدخلنا إلى عوالم الهجرة الغير شرعية مع تفاصيل الرحلة التي أصبحت رغم خطورتها تجذب الكثيرين من كافة أنحاء افريقيا و العالم العربي من الحالمين بالوصول إلى أوروبا.

الرواية تتميز بأسلوب سردي مبتكر حيث تتداخل الحكايات لأبطال الرواية ممزوجة بسحر القارة السمراء العبقة بالأساطير و أغاني الوجود. اللغة حوارية بديعة غنية بالصور و التشبيهات تنقل لنا معاني عبارات من لغات أخرى و تحمل مصداقية تنوع و إختلاف اللهجات في المنطقة العربية. فى الصفحات الأولى من الرواية ينضم القارئ لمن يساءل هل ”ستغدو أفريقيا مثل خشبة مجوفة تعزف فيها الريح ألحان العدم؟ صوت الراوي هو شاب إرتري سنعرف أسمه فى الصفحة ٥٧ من الرواية التى تتكون من ١٢٢ صفحة من الحجم المتوسط.

زاد شجن الشاب فراق الأحبة و الأصدقاء الذين لاقوا حتفهم في طريق الهجرة و يقوم بالسرد لأحداث الرحلة بأسلوب سلس عبق بالشعر و الأسطورة و ملاحم الشعوب القصصية. يحكي أن الهجرة كالسحر لها رنين الأجراس الذي لا يترك رأس شابة أو شاب على حالها و انه قاوم ولم يقع فى براثن سحر الجرس و ظل في بلدته الإرترية ليأتي يوما يستيقظ فيه وقد ضعفت مناعته حيث إنغرست جرثومة الهجرة فى مجري دمه. هكذا كالمسحور عبر الحدود للسودان و من أم درمان للخرطوم باحثا عن سماسرة ينقلونه مع رفاق الطريق الراغبين بالوصول إلى طرابلس حتى يمكنهم عبور البحر إلى أحد الجزر الأوروبية. في اليوم الموعود بعد الإتفاق مع السمسار وبعد غياب الشمس على أحد مقاهي الطريق الأبيض خارج الخرطوم تنطلق سيارة المهرب بهم و هى تحمل ثلاثة و عشرين فردا، بينهم ثلاث فتيات. بعد دفع الرشاوي لرجال حرس الحدود ينطلقون بإتجاه رحلة شاقة مكبدة بالمخاطر و الصعاب.

كان بطلنا الراوي "أبدار" يهاب غدر البحر أكثر من تيه الفيافي ربما لعدم معرفته بالصحراء التى أختصرها ناجي السائق الليبي في عبارة واحدة هى “ أنها متاهة ” فهي تتغير معالم كثبانها عندما يثور الرمل و يسكنها الهمباتا الذين يمتلكون السلاح و السيارات الصحرواية و لا يتورعون عن أطلاق الأعيرة النارية للأمساك بسيارات المهاجرين و تفريغها من كل ثمين. تتلاحق الأحداث فى الرواية، فبعد مطاردة من الهمباتا يخسر الركب مخزون مائي كبير و مع حدوث عاصفة رملية ضَل سائق الركب الطريق. ينفذ الماء لتتوالي خسارات الأرواح و مازال أمامهم تسعة لعشرة أيام للوصول. تظهر شجاعة البعض و عواطفهم الإنسانية الجياشة و كانت الفتاة الإرترية التى تدعى ترحاس كأم للجميع. أبهرت الجميع و هي تحاول بعزيمة إنقاذ حياة أسقدوم نسفت الذي أبتلع رمال العاصفة و ظل يصارع سكرات الموت التي أفاقت ذكرى الحرب الدامية فى ذهنه.

كان وجود ترحاس و القمر في الليالي المظلمة معين لأبدار حتى يقاوم الهلوسة من ضربات الشمس و ألم ترك جثث رفاق الرحلة من ضحايا العطش بين الرمال. يقال أن العطش يقتل عقب الغروب مباشرة. حين ينقلب الجو ويتحول الطقس إلى البرودة أو الاعتدال، يموت العطشان بعد ظهور مدينة عامرة خلف الكثبان تمكن من تبقي من الركاب الوصول لطرابلس هناك حيث تبدء مرحلة ترتيبات التيتانك و هى القوارب التى يركبونها فى رحلة البحر. السماسرة كثيرون بعضهم ينجز الأتفاق و كذلك يوجد من ينتحل دور السماسر ليختفي حال حصوله على المبلغ المتفق عليه من اللاجئين. يتعرف بطلنا و ترحاس علي مهاجرين جدد من جنسيات مختلفة، أفريقية و عربية من المغرب، تونس، الجزائر، مصر، و العراق.

الغرف التى يسكنها اللاجئين مليئة بذكريات قوم مضوا قبلهم إلى مصيرهم و لا يعلم أحد إذا كان البحر حليفهم أم قرر إبتلاعهم بين طيات موجاته العظيمة. مما يخفف الهواجس و الشكوك من أن يقبض عليهم الأمن الليبي كان صداقات المهاجرين ببعضهم بعضا و تمازج لهجاتهم و لغاتهم التى أهم حديثها حالة الطقس فى قنوات التلفاز الأوربية و حالة موج البحر. كانوا يتطلعون بشوق و إصرار على مواصلة الطريق رغم علمهم من القنوات التلفزيونية عن أخبار غرقي البحر الأبيض المتوسط و صور جثثهم على اليابسة الأوروبية. مع وصول الدفعة الثانية من المهاجرين للمنزل الكبير الذي يسكن غرفه الاجئين يظهر مالوك الذي حدثنا عنه الراوي في بدايات الرواية. فمالوك كان يعشق الكتابة و تدوين حكايات بداية الخلق و الخليقة في أفريقيا و فنان عاشق لغيتاره لا يهاب البحر. فهو قد ورث أغاني قديمة من أجداده ستحميه و كانت ألحانه و أشعاره مليئة بالشجن و الحنين لحبيبته التى قتلت فى خضم حرب أهلية فى ليبيريا.

ماذا يخبئ القدر لترحاس و مالوك و أبدار بعد هجوم مفاجئ من الأمن الليبي على مكان إقامتهم و أين تنتهي بهم رحلة الهجرة ؟! رواية كهال عرضت بطريقة مذهلة معناة إنسانية حقيقية و نهايات رحلة كللت بالخيبة و أحلام بعضها لاحقها لعنة النحس لتصبح سجينة بين أسوار سجون ليبيا و بعضها وصلت لأرض الحلم لتفاجئ أن الفردوس مكان بعيد لا تعرفه هذه الأرض.

Top
X

Right Click

No Right Click