قراءة أدبية لرواية سمراويت
بقلم الأستاذة: حنان محمد صالح
"سمراويت" هي رواية للإعلامي والروائي حجي جابر، نافست الروايات المشاركة في مسابقة الشارقة للإبداع العربي لعام 2012
لتفوز بجائزتها ولتحتل المركز الأول. رواية (سمراويت) هي الوحيدة التي قررت أن أقرأها أكثر من مرة... فهي باختصار (نحن).
من الأسطر الأولى تشعر انه يتحدث عن مشاعرك عن لحظات مرت بك... (كنت مرعوباً من فكرة أن تعاملني أسمرا كمسافر الترانزيت، لا يكاد يحطُ رحاله حتى تأخذه وجهة أخرى... لا يليق بي أن أقضي العمر مسافراً إلى مدينة... ثم لا أجدها في استقبالي) هذه لم تكن مشاعر عمر فقط العائد للوطن بعد عقود في بلد المهجر ولكن يشاركه كل من عاش نفس الظروف، وأيضاً من نشأ في الوطن وعاد إليه بعد غياب. فالكل يتمنى أن تستقبله مدينته بترحاب.
عمر الذي تربى في بلد مضياف (السعودية) إلا إن الصعوبات لا تكاد تنتهي من أجل متطلبات الحياة اليومية، من أجل الحصول على أوراق تمنحك حق العيش فيها، من أجل التعليم، من أجل إثبات الذات ومن أجل ترك بصمة مميزة، وبحكم البيئة التي تعيش فيها تتأثر وتمتزج أحلامك ويومياتك بنكهات بيئتك والتغيرات التي تطرأ فيها وبالتالي فإن صدى تلك التغيرات والأحداث تظهر عليك شئت أم أبيت، في حديثك في لبسك وفي طريقة تعاملك للأمور... فأنت تعيش بين ثقافتين وعالمين (لم أكن إرترياً خالصاً لأن العمر كان يتمدد إلى الأمام بينما كدنا ننسى كيف تلتفت خلفنا.
ولم أكن إرترياً خالصاً لأني كنت مشغولاً جداً بالأهلي، وعبادي، والحلقة الأخيرة من ليلة هروب. في المقابل، ويا للأسى، لم أعش سعودياً خالصاً)... هنا أبدع حجي في وصف تلك التفاصيل البسيطة التي يعيشها المغترب في الخليج وحتى المستوطن في الغرب بكلمة (خالصاً)... فمهما حاول الشخص لا يستطيع أن يكون (خالصاً) وبالمقابل لا يكون (منصهراً) لثقافة غير ثقافته الأم ولذا نجد عمر يعيش وسط جاليته وجْدته التي دائما تذكره بجذوره ووطنه.
حين يتمشى عمر في اسمرا منتشيا وخطواته تلامس شارع كمشتاتو وعينيه تتحسس جمال المعمار الايطالي و الذي يظهر في كل زاوية من زوايا هذه المدينة التي تجبرك أن تكون أنيقاً في لبسك، أنيقاً في مشيتك، أنيقاً في حديثك ، أنيقاً في فكرك... يدرك مباشرةً إن اسمرا مدينة لا تشبه أي مدينة.
تتميز اريتريا بتعدد ثقافة أبنائها وألسنتهم وديانتهم... واسمرا هي لوحة الفسيفساء التي تُظهر ذلك ملتحفة رداء جوها الساحر المتعطر بنكهات البن المختلفة من جبنة تقليدية إلى كابتشينو أواسبريسو إيطالية... القارئ يجد هذا الجمال في وصف مقاهي اسمرا وملامح سكانها (كمشتاتو يتحدث الإيطالية في كل تفاصيله، فمن سينما روما إلى بار رويال ونابولي، مطاعم ومقاهٍ تقدم البيتزا والكابتشينو، حتى ان الإرتريين عادة ما يفاخرون بأنهم يملكون ثاني أفضل بينزا وكابتشينو في العالم).
ويجد سماحة هذه المدينة في مساجدها وكنائسها (سرت قليلاً حتى أصبحت في مواجهة كاتدرائية القديس جوزيف) (يتربع الجامع على هضبة مرتفعة قليلا حلف كمشتاتو).
في المقابل حجي يشارك القارئ تاريخ العلاقة بين ضفتي البحر الأحمر من خلال مداخلات حضور الأمسية الثقافية والتي كانت عن الوجود العربي في الجانب الغربي للبحر الأحمر... فقد تحدثوا عن الهجرات والعلاقات الإنسانية التي كانت بين ضفتي البحر على مر القرون وحتى الآن.
وكانت مداخلة الكاتب: محمد صادق دياب عن جمال ونظافة أسمرا كتأكيد عن سبب انبهار عمر بجمال أسمرا.
من الصفحات الأولى تظهر الفتاة القادمة من أوروبا سمراويت... التي تبدد خجل عمر، وتبهره بجمالها، فبالرغم إنه لم يكن يشارك صديقه أحمد مغامراته الطائشة في جدة... إلا انه أحب سمراويت من أول لقاء لهما... وتواصل معها بسهولة.
شخصية عمر ابن المناضل السابق في الجبهة... كانت حالة فريدة... وذلك لجهله تاريخ وطنه وعاداته وحتى رقص قبائله ويترك هذه المهمة لأحمد والذي يريه الأمور من زاويته... فشخصية أحمد فيها الكثير من التناقضات فهو في الحياة العادية طائش كله همه السهر والرقص والفتيات بالمقابل سياسي من الدرجة الأولى موالي للحكومة في أسمرا ومتابع تفاصيل الحياة السياسية في الداخل والخارج... لكن أجد كلمات سقطت سهوا في بعض عباراته فمثلاً حين يقول لعمر (الخميس في حفلة في السفارة تجي)... هنا لم يخبر أحمد عن مناسبة الحفلة، فهو المرشد لعمر لمعرفة التاريخ الاريتري والحفلات في السفارات تكون مرتبطة بمناسبات رسمية.
على النقيض من توجه أحمد السياسي نجد محمود الذي أخذ عمر إلى زاوية أخرى واعية بحق الارتري في الحياة التي يستحقها بعد معاناة النضال والتهجير والقتل... حقه في أن يعيش حياته وفقا لما يخطط له وباختياره... وجود أحمد ومحمود أثرت الفكر السياسي في حياة عمر... حتى تعرف إلى سعيد في أسمرا المناضل السابق في الشعبية... وشخصيته القيادية التي أوصلت لعمر رسائل عدة عن معنى النضال الخالص للوطن و المبادىء دون أن يتحدث طويلا بل بتصرفاته والأماكن التي زارها مع سمراويت.
نجد بين سطور الكلمات مدى حب عمر لسمراويت، حتى انه لم يدقق كثيراً في كلماتها (يبدو أنك إرتري مستجد)... هذه العبارة استفزازية لأي اريتري فبمالك بابن مناضل سابق... فالاريتريون مدمنون الحديث عن اريتريا وعاداتها وإبراز الشخصية الاريترية فيما بينهم وبينهم وبين الآخرين.
في رواية سمراويت... نجد مراحل حياة الإنسان بتفاصيلها الجميلة... نرى ذلك من خلال... الطفل عمر الذي يفرح لأول مرة بمدرسته الابتدائية ومن ثم يستصعب الاستيقاظ للمدرسة وللمسجد... ونجد المراهق الذي يبحث عن ذاته وطريقة حياته حتى يصبح (من أعمدة المطاوعة) بين مجموعة يقودها بعض الشيوخ الذين يرون الدين ملك لهم فقط وهم على حق دائما فهذا الشيخ يقول لهم: (وين ماتروحوا ماراح تلاقوا زي الإسلام هالبلد... هنا الصحيح والباقي بدع وضلالات، كان الشيخ يردد على شاب استشهد بفتوى عالم دين مرموق في بلد عربي، قبل أن يصبح أكثر صراحة: أتركك منه... خليك بس مع شيوخنا الله يحفظهم)... ويضيف عن هذه المرحلة: (ثلاثة أعوام فقط قضيتها في كنف الطواعة، احتجت بعدها إلى أعوام طويلة كي أتعافى من كل مالحق بي)... ومن ثم الإحباط الذي عاشه الارتري المتفوق في دراسته لعدم حصول على منح دراسية والتي كانت تمنح لأبناء قوميات بعينها ومناطق بذاتها... فعند بعض الارتريين للأسف لا يعترفون بكلمة المساواة التي يطالبون بها من الآخرين... ومن ثم العمل كصحفي وهذه المرحلة كانت مفترق مهم في حياته زاده من معرفة بمحيطه ومنحه قوة على المواجهة والتغير في آن معاً.
في رواية سمراويت نجد يوميات الارتري وأحاديثه... وحنينه الدائم لوطنه... نجد كيف إن عمر حمل معه حكايات أمه عن صديقتها وقصص جدته إلى مدينته (مصوع) المدينة التاريخية... المحافظة على أثار كل من مر بها... المدينة الصامدة رغم ما تعرضت له في حرب التحرير...
نجد في سمراويت هموم الارتري والتي يربطها دائماً بالسياسة فلا يخلوا مجلس دون الحديث عن الوطن وعن الحكومة وعن المعارضة في الخارج وعن التاريخ الذي له قراءات عدة، الحديث عن الآراء المختلفة المتضاربة في أمر السياسة فمرة تجد هذا يقنعك بكلامه وأخر يستفزك.
غير أن ما يتفق عليه الاريتريون هم الرموز الوطنية... نجد ذلك في اللقاء الذي كان في بيت المناضل الأديب محمد سعيد ناود فالكل كان يريد أن ينهل من ينبوع الشخصية الفريدة التي لم تفكر لذاتها أبداً بل كانت حرية اريتريا ووحدة أبنائها غايته... ولذا يقول: (كانت أمنيتي الوحيدة بين الاريتريين، لو توحدنا لما استمر نضالنا ثلاثون عاماً. أكثر ماحز في نفسي أنني كنت ألهث وأنادي بالوحدة ثم أجد من يركلني. إضافة إلى الكثير من الأشياء التي أجد مرارتها في نفسي إلى الآن).
في سمراويت هناك وصف آسر لجمال اريتريا والتي لا يعرفها الكثير، وهذه الرواية تعتبر موسوعة اجتماعية سياحية تاريخية لمن لا يعرف اريتريا... الجميل في هذه الرواية نجده في بدايتها حين يخبرنا عمر أنه عاد إلى اسمرا مرة أخرى... ربما نفارق أشخاص نودهم لكن الوطن لا نستطيع فراقه نعود إليه مراراً وتكراراً بأجسادنا لأنه لا يفارق أرواحنا ولا تقاصيل يومنا فهو جزء منا هو الحاسة السادسة في أجسادنا التي تختار لنا نوعية طعامنا وبخور بيوتنا وملمس ملبسنا واختيار أغانينا (هجر) ليس له بديل أبداً.
سمروايت امتداد لروايات اريترية، تقاطعت سير كتابها مع أبطال الروايات. اذكر هنا أول الروايات باللغة العربية (رحلة الشتاء) للأديب المناضل محمد سعيد ناود فهي تحكي مرحلة مهمة من تاريخنا الاريتري وبداية النضال من أجل التحرير والاستقلال، ومن ثم رواية (نواري) للإعلامي الأديب: أحمد عمر الشيخ والتي تجسد مرحلة بعد الاستقلال والأحلام الشبابية التي حققها نواري بالعودة إلى اريتريا والمساهمة في بناء الدولة الوليدة في بدايات التسعينات.
ونجد الآن (سمراويت) الرواية التي تمثل حنين الاريتري الدائم للوطن ولكن لا يفكر حالياً العودة إليها نهائياً والاستقرار فيها فبعد عقدين من الزمن أصبح هنا فجوة في تفكير ومشاعر الاريتري تجاه (معنى العودة النهائية للوطن)... لكن مازال يعود إليها باستمرار حتى يأتي اليوم الذي يستقر فيها، والخوف أن يبدأ الاريتري بعد ذلك مرحلة الحنين بطريقة أخرى.