من الألم إلى الأمل... عطر البارود

بقلم الدكتور: محمد الشبراوي - كاتب ومدون  المصدر: العربي الجديد

لكل حربٍ خسائرها وتبعاتها، يخسر بعضهم وجاهةً أو نفوذًا، يفقد آخرون أطرافهم، بينما أشدهم خسارة

عطر البارود

من يفقد كرامته ويبيع أمته. منذ عرفت البشرية الحروب، فإن بعض الناس آثر أن يقدِّم مصالحه الضيقة على تراب الوطن، لا بأس في نظره أن يطعن في الظهر أو يمالئ أعداء بلده، لكن ذلك لا يمنع ولا يحجب انتفاضة الشرفاء، وتمسك المخلصين بأهداب الوطن والعزة والتحرر من سطوة الغاصبين.

والروائي الإريتري هاشم محمود حسن محمد، من مواليد عام 1976، درس بمدرسة عمر الحاج موسي الثانوية العليا، ومدينة كسلا شرق السودان 1993-1996 ثم جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا وكلية الدراسات التجارية 2001. تعد رواية "عطر البارود" أحدث أعماله، صدرت عن دار روافد للنشر والتوزيع، في مارس/ آذار 2019، وسبقها بروايتي "تقوربا" و"الطريق إلى أدال"، ومجموعة قصصية بعنوان "شتاء أسمرا".

عطر البارود لبنة جديدة في عالم الرواية الإريترية، أدواتها السردية مبسطة ولغتها سهلة دون تعمق في قاموس الضاد، بينما يأخذك العنوان لعوالم من التناقض والغموض، يكشفها هاشم محمود رويدًا رويدًا في دواخل النص، ويحدو بك للوقوف على مغزى العنوان، وقد أحسن اختيار عنوانه "عطر البارود"؛ ليدلل على أن العطر وإن ارتبط بالحالة النفسية الآمنة، والأجواء السعيدة المتفائلة، لكن الألم قد يكون معبرًا للأمل، وطريقًا إجباريًا لوصول الأماني والآمال، وعندها فإن رائحة البارود الخانقة تصبح جسرًا للأمل المرتقب والصبح المنشود.

يتقبل ميكائيل إعاقته بصدرٍ رحب، إذ فقد أحد أطرافه قربانًا لوطنه، ولم تمنعه إعاقته من مواصلة درب الخدمة الوطنية، ويلتحق بسلاح الهندسة، إنها فلسفة العطاء مهما دفع المرء من صحته ووقته

يصحبنا هاشم محمود إلى رحلةٍ إلى شرق القارة السمراء، إلى أرض الطيبة والتسامح، إلى إرتريا! وقد قرر بعض شبابها الأبي أن يثور في وجه الاستعمار، لم يعدموا الوسيلة لنصرة أرضهم ومجابهة عدوهم، خططوا لبلوغ مأربهم وتحقيق أملهم؛ فانقسموا إلى مجموعات، منها من حمل السلاح، ومنهم من التزم بالذود عن محارمهم.

لم يكن شباب أسمرا وحدهم من انتخى نصرةً لقضيته، بل انتشرت عدوى الحماس في ربوع البلاد، من مدن تِسني ومصوع وعصب ودقمحري، إلى وادي عنبسا وغيرها من التراب الإريتري، اتحدوا على قلب رجلٍ واحد لصد عدوان العجوز الإثيوبي "هيلي سيلاسي".

يسلط هاشم محمود في "عطر البارود" الضوء على خمسة من هؤلاء؛ محمد وأحمد وإبراهيم وأبراهام وميكائيل، وتدور بنا أحداث الرواية في سلاسة بين ما يواجههم من عقبات، وحيلهم في التغلب عليها وتذليل العقبات، واضطرارهم للهجرة إلى السودان مؤقتًا لترتيب الأوضاع وتنظيم الصف، ثم العودة تحت وطأة الخطر إلى بلدهم المكلوم، والمشاركة في الجهاد المسلح ضد المغتصب.

يستهل هاشم روايته بجملة افتتاحية ذات مغزى؛ فيقول "إنه صراع البقاء والفناء، خوفٌ يصحبه قلق، رهبة يتبعها صراع، عويل، ألم، شقاء، حزن، بكاء... تلك مشاعر مركبة يخالطها أمل يسير معهم هربًا من جحيمٍ موحش جرفَ الأخضر واليابس"، ويشحنها بمجموعة من الدلائل المرتبطة بالاحتلال الإثيوبي لإرتريا، وشعور الإحباط والنكسة المسيطر على أبناء إرتريا.

يتبع المشهد الافتتاحي بمزيد من قتامة المشهد والظرف غير الإنساني، الحرب لا تعرف الرحمة وتستخف بالمشاعر، يدوس المعتدي كل الأخلاق والقوانين، المهم أن يوسِّع سلطته وسطوته، ولتذهب المشاعر والأخلاق والمواثيق إلى الجحيم! ما يضع على عاتق الشباب مسؤوليات ربما تبدو أكبر من قدراتهم، هنا يتضخم التحدي، لكن ما حيلة المضطر إلا بذل نكيثته.

أثناء هجرة من لم يطيقوا ويلات الحرب، لا سيَّما من السيدات والأطفال، تموت إحدى السيدات في الطريق إلى السودان، فجأة يشعر الجميع بقيمة الأمن والأمان، قد لا يفكر المرء في قيمة الشيء إلا بفقده. ولسخرية القدر فإن السيدة تلبي نداء ربها، وتترك لمن بعدها طفلتها الوليدة "مريم".

يلتف المهجَّرون حول مريم، إنها أيقونة الأمل وميلاد العهد الجديد، بقدومها يستقبل الإريتريون موجة من التفاؤل، وإن اضطروا للخروج من أرضهم؛ فإنه خروج لن يطول إذا ما بذلوا دماءهم وانتزعوا أرضهم من عدوهم. تولد مريم لتصنع الأمل في نفوس المعذبين، "تحولت أثداء الأمهات إلى ينبوع لإرضاع تلك المسكينة، التي لا تتوقف عن الصراخ، ولا أحد يعلم إن كانت تصرخ جوعًا أم ألمًا أم حزنًا على ما يحدث حولها، أو ربما كان صراخها في المحيطين بها؛ لتدعوهم للانتفاضة على ما وصلوا إليه".

صارت مريم حديث الجميع، ومعها تولد قصة حبٍّ عذري، تجمع طرفيها خيوطُ القضية الإريترية، يتودد محمد إلى عافيت وتسري في قلبيهما كيمياء الحب. كانت مريم صوت آلامهم المكتومة، ورمز الرحمة والإنسانية، وفي أجواء الرحمة يولد الحب ويورق أشجاره السامقة؛ فأطل الحب برأسه بالرغم من الأجواء المظلمة من حوله، لعلَّه يكون مُتنفَّسًا أو محفِّزًا أو تعلُّقًا بالغد المأمول.

لم يكن هدفهم تزجية الوقت في الندم وبكاء الأمس؛ فالتحق أبطال الرواية بمجموعات المقاومة، وتفرقوا في أماكن مختلفة وكلهم أمل وإصرار أن يجمعهم تراب إرتريا، وتُفرِّق الظروف بين محمد وعافيت؛ فتسافر عافيت للدراسة في مدينة الضباب، ويذوب محمد شوقًا لها ولكنه لا ينفصل عن قضيته الكبرى، ويشارك أصدقاءه في التدريب والاستعدادات لتنفيذ عمليات المقاومة المشروعة، ويجد لنفسه فرصةً في القوات البحرية.

يتدرب ليل نهار وينفذ المهام بكل جوارحه، يحدوه قلبه أن ينتصر لعافيت ومريم وأصدقائه وتراب بلده الأم، يكتب لعافيت رسائل الغرام، ويمنعه حياؤه من إرسالها، ويمني النفس بتغيير الوضع ليطلب يدها. أخوها الأكبر إبراهيم لا يضيِّع وقتًا في غير التدريب، ومثله ميكائيل وأبراهام، أما أحمد فلا يقدر على التدريب العسكري لضعف بنيته، لكنه لا يتهرب من واجبه الواطني؛ فيقرر تعليم الناس ومحو أميتهم؛ ليمتد دورهم في النهوض بإرتريا بعد تحريرها في أقرب موقت مأمول.

تدور رحى المعارك الطاحنة بين إرتريا وإثيوبيا، ويتمكن جيش الثورة الإريترية من انتزاع مصوع، ويحصل ميناء مصوع على صك حريته في فبراير 1990، وتتوالى انتصارات جيش الثورة، وشيئًا فشيئًا يتحرر التراب الإريتري، وتبدأ رحلة جديدة من التحرير، تحرير النفوس من الوهن، ونشر البسمة في القلوب وعلى الوجوه، ويرتبط محمد بحبِّ حياته عافيت، ويولد أمل من رحم الألم والغصة.

يتقبل ميكائيل إعاقته بصدرٍ رحب، إذ فقد أحد أطرافه قربانًا لوطنه، ولم تمنعه إعاقته من مواصلة درب الخدمة الوطنية، ويلتحق بسلاح الهندسة، إنها فلسفة العطاء مهما دفع المرء من صحته ووقته، عطاء الوطن دأب النفوس السوية، بينما يحرص غيرهم على انتهاب مقدرات أوطانهم، وإضاعة فرص الشعوب لأجل مصالحهم الشخصية !

وفي الرواية، يتنقل هاشم الأدوات السردية بسلاسة وتمكن؛ فلا يبدو لك أنه يتصنع أو يفتعل الأحداث، ويميل إلى تغليب الاسترجاع الخارجي، وذلك ديدن أهل الرواية كما يقرر جيرار جينيت، ثم يعرِّج إلى الوصف قليلًا ودون توسُّع، ومنه إلى الحوارات البسيطة غير الفلسفية، إذ يخاطب بالدرجة الأولى مشاعر الإنسان المتضررة من ويلات الحرب وآلام الفقد والنزوح والتهجير القسري. أفادت الرواية من تقنية التناص الأدبي والديني في غير موضع؛ فمن التناص الديني نجد أم إبراهيم تكثر من الاستغفار "أستغفر الله العظيم ! أستغفر الله العظيم"، ثم تضيف "كلُّ نفسٍ ذائقة الموت"، "ولكلِّ أجلٍ كتاب".

ومن التناص الأدبي، التضمين من قصيدة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم:

إرتريا
سمعت عن صبيةٍ
تغوص في دمائها
تمسح الغبار والدموع عن أبوابها
وتطرد الأشباح عن سمائها
وقيل إن وجهها
ينضح بالخصوبة
والشمس والعروبة
فمن هي ؟
إرتريا
إرتريا يا غابة مشتعلة
وقمة تكسر عنف عاصفة
يا صرخةً غاضبةً وقنبلة
يا ساعدًا وسنبلة... حبيبتي أنتِ إذن
وفيك مثل ما بي من العذاب في الهوى وفي الوطن
إرتريا
إرتريا إلى اللقاء... إننا نحفر مجرى الزمن
وندفع الثمن...

Top
X

Right Click

No Right Click