رحلة البحث عن الوطن الضائع والحبيبة المفقودة
بقلم الأستاذ: ممدوح فرّاج النابي - ناقد من مصر
بعد روايته «سمراويت» الفَائزة بجائزة الشَّارقة للإبداع في دورتها السّادسة عشر 2012، تأتي الرِّواية الثانية «مَرسى فاطمة»
للرّوائي الإرتيري حجِّي جابر، الصَّادرة عن المركز الثَّقافي العربي، ببيروت، ليضيء لنا فَضاءً روائيًّا ما زالت المُخيلة الإبداعيّة لم تطأ أرضه بعد، وهي المنطقة التي تتصل بالعالم العربي بروابط عديدة ليس أوّلها الإسلام أو حتى اللُّغة، أو حتى القهر الواقع على إنسانها بفعل ديكتاتورية متجليّة عناصرها بصورة فاعلة تكاد تُرهق البَصرَ مِن فَداحتها وتحديها لكافةِ الأعراف الدوليَّة والقانونيّة حتى تكادَ تكون سببًا رئيسًا مِن الأسباب التي آلت إلى سُكّانها بتفضيل الهجرة هَربًا مِن مصير بائس أو موت محقَّق بفعلِ المافيا والعصابات أو حتى بالزج بأحد السجون، وإنما لما تمثِّله من امتدادٍ جغرافي لكثير من الدول العربية، ومن ثم فيحمل إنسانها طبوغرافيا الكثير من خصائصه.
تبدو قصةُ الحُبِّ التي تبدأُ بها الرِّوايةُ بين البطل مجهول الاسم، ثمَّ المعرَّف برقم في معسكر تدريب ساوا وهو ما يتكرّر في سجن الشجراب، وسلمى معذبته، طالبة الصف الثانوي التي يَقتفى أَثرها بعدما علم أنها رُحِّلَتْ إلى ساوا لرسوبها المتكرّر في دراستها، وإن كانت في الحقيقة مُختبئةً في أسمرا، وما أن علمتْ بأنه ذَهَبَ إلى ساوا وهو المَعْفٍي من التجنيد بحثًا عنها، حتى تقتفي أثره، دون أن تعلم بأنه هام في رِحلةٍ مُوجِعَةٍ بحثًا عنها. وفي رحلة البحثِ عنها من ساوا إلى السودان يكشف لنا عالمــًا مأساويًا عاشه الإنسان الإرتيري الذي وقع قديمًا فريسة للاستعمار الإيطالي، ثم وقوعه تحت تأثير الجماعات الوهابية التي غزت البلاد مع وفود الطّلاب الذين درسوا في جامعات المدينة، وما قابله من حركة قمعية مارستها الأجهزة الأمنية بفضل إيعاز الصحافة والتنكيل بهذه الجماعات التي انتشرت في القرى في صورة المدرسين الذين كانوا يقومون بتدريس داخل المعاهد، وبعد غلق المعهد كان الدافع الانتقال من قريته الصحراوية الخشنة إلى العاصمة أسمرا، ثمّ عمله مع أحد التُّجار، إلى أن يهيم خَلف نشوى الحب الذي أصابه سهمه، مرورًا بمعسكر التجنيد في ساوا، وفيه يكشف عن حالات القمع والتعذيب التي تمارسها السلطة ضد الفارين من تأدية الخدمة العسكرية، وما تفرضه عليهم من تدريبات من شأنها تعمد إلى قتلهم ولكن بطيئًا، أو بغسل أدمغتهم بدروس التثقيف السياسي التي يحرص عليها الضابط منجوس، علاوة على الطعام المقيت الذي يتجاوز العدس والخبز اليابس، وإن كان ثمة حلم بالثورة ماثل في شخصية كداني المثقف والمؤمن بحتمية التغيير، وعمله ضمن جماعة تنشد العدالة. تناضل لتغيير البلاد نحو الأفضل، ومع هذا فيعترف بأن «الوطن كذبة بيضاء، يروج لها البعض دون شعور بالذنب، ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة» والتي يتذكرها البطل في رحلته أثناء مشاهداته لعذابات الآخرين من أجل حلم الانعتاق والهروب من جحيم هذا الوطن، فيقعوا ضحايا لعصابات التهريب التي تتاجر بأجسادهم وترسلها إلى إسرائيل مرورًا بسيناء في مصر، وبعلم أفراد من ذوي سلطة، وصولاً إلى مخيمات اللاجئين وحالة الاستغلال والضغط عليهم من قبل عصابات التهريب بحرق خيامهم أو بخطف فتياتهم كنوع من الترهيب تدفعهم لقبول فكرة الهروب.
يوازى السَّارد بين الوطن الضائع وبين فَقْده لحبيبته سلمى، في موازاةٍ تجعلُ منهما شيئا واحدًا فهي جذوره ولغته ووعيه واحتياجاته حتَّى أنه يَتساءلُ في تعجُّبٍ «أولا يَستحقُّ هذا الوطن أن ألهثَ خلفه» (ص68)، ومع الإصرار على البحث عنها فيكتشفُ محنة هذا الوطن الذي هو الآخر راحَ يتبدّد ويتلاشى مِن قلوب أبنائه الذين اكتشفوا «الوطن كذبة بيضاء»، يروّج لها هؤلاء المنتفعون من خيراته وباستبداد أبنائه. ومع أن فرصة الهرب جاءت له ليغادره تمامًا بعد أن اعترفَ بأنَّه «هُزِمَ فيه»، ويجب أنْ يَبْحَثَ له عن «وطن بديل» كما أخبره أمير، إلا أنه كان يُدرك دائرية المصير عبر تساؤله «لماذا نهرب من الوجع إليه» (ص179) ومن ثم فقد بدت حياته كما يقول «كدائرة كبيرة، لا تتيح الالتقاء بمن أريد، طالما أننا نتبع الاتجاه ذاته، والقدر نفسه والشوق والاحتياج، بدا كل شيء خلفي وأنا الذي قضيت العمر كله في انتظار ما سيأتي» (ص252)، ومن فرط هذه الدائرية والتكرارية يخال أن كل شيء دائري بما في ذلك «الطريق والمحال والبيوت» (ص253) الشيء الوحيد الذي ربما خفّف من هزائمه هو رؤيته جلاده منجوس وقد خلع ملامحه القاسية المتغطرسة وارتدى ملامح المغلوبين بعد أن فقد سوطه وسلم ظهره لجلادين آخرين، وهو ما جعله يشعرُ بالإشفاق عليه، لذا كان القرار النهائي بالعودة إلى مَرسى فاطمة نقطة البداية، والتي عندها تتكشّف بعض الحقائق الأكثر إيلامًا، وكلاهما يبدآن رحلة البحث من جديد في إشارة إلى عدم جدوى الأحلام والآمال ما دام الحال كما هو لم يتغير «هنا في مَرسى فاطمة … حيث تبدأ كل المسارات، وإليه تنتهي» (ص254).
تطرح الرواية قيمة غائبة في مجتمعنا، يستحضرها ويلحُّ عليها، ألا وهي قيمة الإيثار فمع حالة العتامة التي وسمت الرواية ودليلها النهاية الدائرية، والعودة إلى نقطة الصفر في البحث، إلا أن الرواية تؤكِّد على قيمة الإيثار التي تطَّرِد بين الشّخصيات في مواقف نادرة، كما بدا واضحًا وهو في معسكر «ساوا» حيث ساعده صديقه كداني المسيحي في البحث عن سلمى داخل معسكر الفتيات المقابل، من خلال إرسال رسالة لحبيبته «إلسا» عبر أختها «روتا»، مرَّة ومرَّة ثانية عندما رَسَمَ له طريق الهرب وحثَّه عليها، ثمَّ في دولة الشفتا بعدما وقع أسيرًا، يفتدي زينب بتسديد ما تبقى عليها حتّى تخرج هي وإبراهام، وما أن تحكي زينب لإبراهام بما فعله حتّى يضحّى هو الآخر، فيطلب أن يُسَلِّمه الشفتاي لحرس الحدود الإرتيري في مقابل أن يأخذَ نصف المكافأة والنصف الآخر يتوّزع بين أمه التي قبضت عليها الحكومة لإجباره على العودة، وبين صديقه البطل، ليُخَلِّصهما مما هما فيه. ويتكرَّر مرّة ثالثة عندما يضحّي أمير بفرصة الهرب مع كارلا الإيطالية إلى بلدها، ويعطي فرصة النجاة لصديقه ليتخلَّص مِن كلّ همومه ويبدأ حياة جديدة كما أتّفق مع أمّ أوّاب، لكن في النهاية يرفض ويقرِّر العودة إلى مَرسى سلمى في امتثال لمصيره القدري، حيث المفاجأة التي يخبره بها صديقه جبريل الذي كان يعتبره أبيه في أسمرا وكان عونًا له منذ أن قدم من قريته الجبلية إلى المدنية وضجيجها، بأنّ سلمى جاءت بعد ذهابه إلى ساوا وعندما عرفت أنه ذهب إليها ذهبت إلى ساوا وهو ما جعله يقرر في النهاية أن يعود إلى ساوا ليكرر رحلة البحث خلف طيفها.
يُقَسِّمُ الكاتب روايته خمسة أقسام يحمل كُلّ قِسمٍ منها عُنوانًا فَرعيًا مُستقلاً، ثمّ وحدات مُنجمَّة داخليًا، الوحدات هي، (مَرسى فاطمة، ساوا، دولة الشفتا، الشجراب، مَرسى فاطمة 2) وجميع هذه الأقسام هي أماكن تنقلاته التي بدأ منه رحلته للبحث عن سلمى فاكتشف الوجه الآخر للوطن في صوره القميئة بدءًا من القهر مرورًا بعصابات الاتجار بالبشر وترحيلهم إلى إسرائيل، راصدًا لضحايا الحرب والهاربيين من التجنيد، في سجون الشفتا وفي مخيمات اللاجئين، وهي المأساة التي تتضافر مع ما يعانيه مواطنو الداخل. في كل قسم من هذه الأقسام ثمة أشخاص حاضرين بمآسيهم المتنوِّعة، وكأن في مآسيهم تفكيك لمأساته بفقد سلمى، لا فرق بين كدانى الحالم بالثورة التي لم تأت بعد ويقرأ عن أشكالها في الكتب ومازن المجهضة أحلامه في ساوا، إلى إبراهام وزينب في الشجراب (سجن عصابات التهريب)، إلى أم أوّاب وطفلها الذي تبحث عنه بعلامة في ذراع أطفال لم تفقد الأمل في العثور عليه، وقد يتحقَّق بعد ما تطمحُ إليه بما رسمته كارلا الإيطالية لها لتحتفظ بجسده بعدما غاب الأصل، وصولاً إلى أمير الذي فقد كليته أثناء تهريبه إلى إسرائيل. كل شخصية من هذه الشخصيات الموزعة على الوحدات السردية، هي بمثابة النماذج على فداحة هذا الواقع الذي أفرز هذه الشخصيات المنهزمة والمقبلة إلى مصيرها بشجاعة علمها بنهايته.
الأمل الوحيد الذي تركه الراوي بعد تبعثُّر الآمال وتبدد الأحلام هو العودة إلى مَرسى فاطمة مرّة ثانية، وإعادة البحث، فمع تواجد الوطن البديل والكل حثه عليه إلا أنه يرى الأوطان البديلة «قد يُبْقيكَ حَيًّا، لكنَّه لا يَمْنَحُكَ الحياة» (ص236) فعاد إلى مَرسى فاطمة طاردًا عن ذهنه فكرة الاستبدال خاصة أنها جاءت من ابنة الوطن المستعمر الأول لهم كارلا الإيطاليا التي كانت ما زالت تروج للفكر الكولوني، وهو بهذا يحث على مواصلة العمل لتحقيق الحُلْم الذي قد يأتي من تكرار المحاولة وهي الإيجابية الوحيدة في العالم السوداوي الذي نشره الكاتب في نصه، وهو ما جعل الهزائم لا تفارق معظم الشخصيات بلا استثناء.
لغة الرواية لغة عذبة، جاءت شاعرية في نداءات وأوصاف البطل لسلمى فوصفه لها هكذا يأتي «..عيناها لؤلؤتان لا تُملّ، في القلب منها حدائق لوز جبينها لا يكفُّ يحكي بشغف قصةضياع العشاق، وعلى خديها حطَّت حمائم الغرام وقد أنهت أطول الهجرات ..يداها» (ص77) فيما عدا اللغة العامية التي جاءت في كثير منها غير مفهومة، وإن كان أولى بالكاتب أن يخرج لها في الهامش لفك اللبس، أما الزمن فمع أن الزمن الروائي ليس بطويل إلا أن الزمن النفسي مهيمن على الشخصيات جميعها سواء بحديثها مع بعضها البعض أو في مونولوجاتها أو حتى في أحلامها المفزعة، وهو ما يشير إلى حالة التردّي الداخليّ للشخصيّات، وافتقاد الهوية كما في حالة البطل الذي لا اسم له، فامتلاكه لاسم دليل على امتلاكه لهوية، وهي الحقيقة التي سعى لامتلاكها بالبحث عن سلمى التي كانت بالنسبة له «حُلم بحجم الوطن» تارة وتارة أخرى كانت «يداها وطن دفء ينهي صقيع اغترابي» (ص212) على حد وصفه لها.