لعبة السرد في "رغوة سوداء" لحجي جابر
بقلم الأستاذ: صهيب عبد الرحمن المصدر: العربي الجديد
يحاول الكاتب الإريتري حجي جابر في عمله الروائي الأحدث "رغوة سوداء"، الصادر عن دار تنوير للنشر (2018)،
التعرف على عالم اللاجئين، لاجئي اضطهاد الديكتاتورية الإريترية المنتشرين في أصقاع العالم، ويحاول كذلك تعريف شخص لاجئ سينتقل من محطة إلى أخرى، ليكتسب أسماء جديدة، وديانات مختلفة، وليحاول في كل مرة، دونما فائدة، الوصول إلى الفردوس الأرضي.
وهناك تبدأ معاناة جديدة يكتشفها في المهاجرين سُمر البشرة الذين سبقوه إلى هناك، ويدخلنا الكاتب في تفاصيل حياتهم وبؤسهم ومعاناتهم، ثم في حياة وبؤس الذين هاجروا إلى أرض الميعاد مع حلم أنهم ستوفر لهم حياة كريمة.
لكن ما أن يصل داويت إلى "أرض الميعاد"، حتى يتبدّد وهم الفردوس الإسرائيلي، ليلجأ إلى تغيير اسمه مرة أخرى وليعيش حياة أخرى، لكن كل هذا لم ينقذه من حالة الخوف التي يواجهها، ولا من التمزقات التي يعانيها، سواء بسبب لون بشرته أو بسبب كونه مهاجراً.
تضعنا الرواية في قلب التمزقات الداخلية التي تعانيها شخصية داويت، وتصوّر لنا الفراغ الداخلي الذي يواجهه، وشكوكه عن جدوى مواصلة الطريق حتى حين يصل إلى وجهته الجديدة. لا يعرف ما إذا كان يقصد مسجد الأقصى أم كنيسة القيامة أم الحائط (البراق)، أو ما إذا كان سيصبح داود أم ديفيد أم داويت، "كل الذي يعرفه أنه فارغ من الداخل ويبحث عن شيء يستند عليه" (ص 233).
مجيئه إلى إسرائيل يصبح متطابقاً بشكل مذهل مع حياته في الجحيم الإريتري، ورحلة مجيئه إلى إسرائيل تغدو شبيهة برحلة هروبه منها، "كأنما كتب عليه أن يتنقل من بلد الى بلد ولا وطن في الطريق" (229).
"تنفتح الرواية بسرد قصة شاب إريتري يُدعى داويت، والذي لم يكن يهودياً، فاخترع لنفسه شخصية جديدة، مغيراً اسمه وتاريخه حتى يستطيع الخروج مع يهود الفلاشا إلى إسرائيل"
لعبة السرد:
لا يخلو العمل الروائي عند جابر، وفي "رغوة سوداء" بشكل خاص، من نبرةٍ جمالية، ولغة مشدودة، ككتلة عضل، مع ملكة جيدة في الحكي، أو في الاختلاق بالأحرى، فكما تقول الرواية "ما الحكي إلا اختلاق، عدا ذلك هو محض تلقيد رديء لساعي البريد" (ص 212).
بنزوعٍ واضحٍ للسرد التوثيقي، وبالتقاطٍ واعٍ للتفاصيل، يتكئ عمل جابر على خلق الحكايات، نرى ذلك مثلاً في المشهد الذي عمد السارد إلى إظهار قدرة داويت على نسج عشرات القصص في محاولاته لإقناع موظف مكتب الأمم المتحدة للاجئين بتوطينه في بلد أوروبي، في سرد يذكرنا بشهرزاد في ألف ليلة وليلة، وتلعب الحكاية هنا الدور نفسه؛ أن تمد لصاحبه/ها حبل النجاة، عليه أن يسترضي الموظف الأوروبي بمكتب اللجوء بحكاياته حتى يمنحه فرصة اللجوء إلى أوروبا. وأي اختلال في تماسك الحكاية، أي نتوءات، ستظهر برفض الأوروبي لطلبه.
يبرع الكاتب في الانتقال ببطله بين زمنين وعدة أماكن، مستخدماً عدداً من التقنيات السردية، فهو ينتقل بين ماضي داويت وحاضره من خلال تغيير اسم البطل، دون أن يحتاج إلى استدعاء تاريخ محدد. إذ يعرف القارئ أن داويت هو البطل بعد انتقاله من أديس أبابا إلى إسرائيل، أما الماضي فيحمل اسم ديفيد مرة وداود مرة أخرى. ويتنقل مكانياً بين مخيمات (نداغبونا) و(غوندار) في كل من إريتريا وإثيوبيا، بكل ما تحويه تلك الأماكن من آلام وصراعات.
استناداً للواقع:
تستند الرواية إلى عددٍ من الوقائع التاريخية والاجتماعية، مثل فكرة هجرة يهود الفلاشا إلى إسرائيل في بداية التسعينيات، وعن وجود الأفارقة في القدس، وهم أناسٌ أتوا إلى مدينة القدس لأسباب مختلفة - حسبما تشرح شخصية ماريل، صاحب المحلّ التجاري: "بعضهم جاء لمجاورة الأقصى، وهؤلاء يطلق عليهم المجاورون، والبعض جاء يحارب إسرائيل بمجرد أن أعلنت دولتها عام ثمانية وأربعين، وهناك أفارقة أقدم جلبهم البريطانيون لبناء سكة القطارات، وحين عادوا إلى بلدانهم سحروا الناس بحكاياتهم عن القدس" (ص 240).
لكن هل هم فلسطينيون ؟ ليست المسألة محسومة تماما، ولكن حسبما تقول شخصية ماريل، هم خصوم لإسرائيل، لكنهم مضطرون بالوقت نفسه لاستخدام هوية زرقاء تعود لها، يقول: "المضحك أن إسرائيل تكتب في خانة الجنسية (أردني) بحكم أن القدس الشرقية كانت تتبع الأردن قبل أن تحتلها إسرائيل. لكن الأردن يحرمهم من وثائقه ويعتبرهم وافدين على المكان. ولأن اتفاق أوسلو يمنع السلطة من منح سكان القدس هويات فلسطينية، لم يجدوا بدّاً من استخدام وثائق خصومهم" (ص 240).
تزيد هذه المفارقات من حالة التيه التي يعيشها داويت، فالإسرائيليون يعادون السود هناك بسبب موقفهم من الاحتلال، وبعض الفلسطينيين لم يتقبلوا لون بشرتهم. إنها الرغوة السوداء، تطفو على السطح رغم كل محاولاتها أن تصبح في قلب المكان. ومن هنا تأتي بلاغة عنوان العمل.
"داويت هو البطل بعد انتقاله من أديس أبابا إلى إسرائيل، أما الماضي فيحمل اسم ديفيد مرة وداود مرة أخرى. ويتنقل مكانياً بين مخيمات (نداغبونا) و(غوندار) في كل من إريتريا وإثيوبيا، بكل ما تحويه تلك الأماكن من آلام وصراعات"
قوة الحكاية:
إن قيمة هذه الرواية تظهر من خلال سرد معاناة داويت داخل مسارين، الأول أدبي يتمتع بالعاطفة الإنسانية العميقة ومسار إنساني أو توثيقي، يتعلق بشرح أوضاع اللاجئين الإريتريين، والقمع الذي يطاردهم من بلدهم. وهو مسار عُرف به الكاتب في أغلب أعماله السابقة: (سمراويت؛ 2012)، و(مرسي فاطمة؛ 2013)، و(لعبة المغزل؛ 2015)، وعبر السرد التوثيقي الواقعي الأقرب إلى الشهادات الأدبية، يظهر الكاتب ناقلاً حذقاً لقصص الآخرين، وموثقاً لها كي لا يجرفها النسيان.
سنعرف في نهاية الرواية أن حجي جابر كتب هذه الرواية لروح الشاب الإريتري "هبتوم ولدي ميكائيل زرئوم" الذي أرداه رصاص الشرطة الإسرائيلية قتيلاً عن طريق الخطأ، لكنها بدت مرتاحة حين عرفت أن قتلها له مجرد خطأ تافه لا يستوجب الاعتذار لأحد، فهي لم تقتل سوى محض لاجئ هش، دخل إلى بلادها بطريقة غير شرعية، فيما انشغل الفلسطينيون بالتساؤل، ولمَ جاء الإريتري إلى بلادنا ؟
من هنا أيضا تُحسب لحجي جابر براعة نجاته من نرجسية السرد التي تتسم بها أغلب الروايات التوثيقية من هذا النوع، حين تعتبر الضحية أن آلامها هي الآلام الوحيدة في هذا العالم، فتعمّد الكاتب في هذا العمل بالمقام الأول فضح آخر نظام كولونيالي في العالم، كولونيالية إسرائيل، وعنصريتها وممارستها القتل المجاني بحق أصحاب الأرض، وبحق الذين خدعتهم بوعود الخلاص والميعاد.