كـ«رغوة سوداء» لا وطنَ إلا المنفى.. لا صرخةَ ميلاد إلا شهقة الموت
بقلم الأستاذ: عادل خميس الزهراني المصدر: المدينة
بثلاثة أسماء.. وثلاث حكايات.. وثلاثة أنفاس لاهثة، كان لشابٍ -إرتريِّ القدَر.. إرتريِّ اللعنة- أن يعيشَ، وأن يموت..
وأن تُصبح قصته موضوعاً لرواية، وإجابةً ناقصةَ الملامح لسيلٍ من الأسئلة المتبجّحة بجاحةَ المكان وحدودِه.. وبجاحةَ إنسان المكان ومبادئه المزيفة !!
هذا الشاب اكتشف -متأخِّراً جداً- أنه مجرد رغوة.. زبَدٍ.. على سطح هذه الأرض.
هذا الشاب وجد أنه لا يُمثّل - مع ملايين المهجرين المنفيين عن أوطانهم، أو الهاربين من أوطانهم، أو اللاهثين عبثاً لأوطانهم- إلا زيادةً لا معنى لها؛ لا تضيف شيئاً، ولا تنقِص شيئاً.. هم هكذا مجرد «إضافة».. لا محل لها في جملة، ولا داعي لها في وجود.
هكذا تقول رواية «حجي جابر» الأخيرة، برشاقة ثقيلةٍ على القلب، وبساطةٍ لا يُجاريها في تعقيدها إلا هذه الحياة التي ندّعي - بسذاجة أحياناً - أننا نحياها !! لذلك كان عنوانها (رغوة سوداء) خيرَ ما يمكن أن تُعنوَن به حكاية مثل هذه، خيرَ ما يمكن أن يُوسم به زمن مثل هذا..!!
منذ عرفتُ «حجي جابر» في بلاط الصحافة، كان مُولعاً بالحكايات.. بسماعِها بأكبر قدرٍ من الشراهة.. وسردِها بأقلِّ قدرٍ من النزاهة.. لأن الحكايات -كما تعلمون- مسكونة بالتغيير.. مهووسة بالزيادة والنقصان.. الحكايةُ أنثى فاتنة معجبةٌ بجمالها، لكنها -رغم ذلك- تقفُ كلَّ يوم أمام مرآتها متمنيةً أنها «أنحفُ قليلاً».. أو «أروى قليلاً».. «أقصر بقدر شُرفة».. أو «أطول بحجم لهفة».. ولأن ولعَ «حجي» جعله يُدرك تماماً ما تحتاجه الحكاية / الأنثى.. فقد أصبح اليوم اسماً لامعاً في الرواية العربية، وانتظاراً سنوياً، تُطارده رغبة المعجبين في معارض الكتاب، وأسئلتهم/ــنّ في مواقع التواصل.
وفي (رغوة سوداء) يثبت «حجي» أحقيّته بهذه المكانة بجدارة، حين يغزل روايته بمهارةٍ مشوقة، ونُضجٍ مذهل بأبعاد الفن الأدبي وتقنياته. يُدرك «حجي» -والرواية تُثبت ذلك- شروط الكتابة السردية، وأهمية اللغة الأدبية في التعامل مع سرد الحكايات، يعرف تماماً كيف يُؤرجح قُـرّاءه أسفل حبل التشويق، وكيف يكون الوصف نزهةً حقيقية يحتاجها القارئ لالتقاط نفَسِ سؤال.. أو حذفِ حجرِ آخر.
يفهم «حجي» متى يجب أن يتدخَّل الحوار، ومتى يجب أن يتراجع بهدوء. كما يعرف «حجي» أي التفاصيل تحتاجه الحكاية.. وأيها يمكن - أو يجب - الاستغناء عنه.. أما الزمن فقد أصبح لعبة «حجي» المفضلة.. ينسج حكاياته خلال طبقات زمنية متوازية تجذب قارئه لغواية الحكايات، دون أن يشعر بمتاهة زمنها.. تدوخنا حكايات «حجي» المتشابكة - رغم بُعدِ أماكنها واختلاف أزمنتها - دون أن نسقط من الوجل أو الملل..!!
بطلُ رواية «حجي» - منذ وُلد - كان يسعى للنجاة في هذه الحياة، مثلنا تماماً.. غير أننا -في رحلة سعينا هذه- نحمل أسماءنا.. نعرفُ هوياتنا.. وننتمي لها.. فتعترف بنا.. كما نعرف أوطاننا، نحملها في قلوبنا.. وننتمي لها.. فتعترف بنا.
بطل «حجي» لم يكن مثلنا تماماً.. وجد نفسه -في رحلة سعيه تلك- بثلاثة أسماء.. وثلاث حكايات.. وثلاثة أنفاس لاهثة.. هرب من إرتريا «مسلماً» يعتقد أن اسمه «داود»، وعاش في مخيّمات اللاجئين «مسيحياً» يدعونه «ديفيد».. لكنه مات «يهودياً» باسم «داويت».. أو هكذا خُيّل له، حين تلقَّى رصاصة في صدره..!!
وهو يحتضر.. رأى الجنودَ الإسرائيليين مُلتفَّين حوله.. أراد أن يسألهم عن اسمه !! عن ديانته !! وعن جنسيته !! لكنه أدرك حينها.. أن الأمر لم يعد يستحق.. فاختار أن يبتسم.. أن يبتسمَ ويموت..!!