حكايات كولونيالي وتأريخ ما أهمله التاريخ

بقلم الأستاذ: فتحي عثمان - دبلوماسي إرتري سابق

في أثناء الاحتفال بصدور النسخة الفرنسية من رواية مسيح دارفور، حكى صاحبها عبد العزيز بركة ساكن قصة المرأة التي تظهر

رواية حكايات كولينيالي

في الرواية كل يوم عند خروج الأطفال من المدرسة وتنصرف دون أن يصحبها أي منهم. وقال ساكن بأن قصة هذه المرأة حقيقية:

فهو أعتاد أن يراها دوما عند خروج التلاميذ عند الظهيرة، ويلاحظ انصرافها بعد انصراف آخر واحد منهم. فلما سأل عنها أجابه بعضهم بأن هذه المرأة فقدت ثلاثة أطفال في إحدى غارات "الانطونوف"؛ وهي غارات كان يشنها سلاح الجو السوداني في دارفور.

وكان اطفالها دون سن المدارس؛ ولكن بعد مضي سنوات على الغارة تتصورهم أن عاشوا أن يكونوا في سن أطفال المدرسة لذلك تأتي كل يوم لترى خروج "اشباحهم" مع أقرانهم من التلاميذ.

سمح لي كرم عبد العزيز بركة ساكن الفياض بالتعليق على هذه الحادثة؛ فقلت: أطفال هذه المرأة تحولوا إلى أرقام في سجل ضحايا تلك الغارة الجوية، وانطوى الحزن بمرور الأيام، وأصبحت المرأة رقما أيضا في سجل من فقدوا ذويهم بسبب تلك الغارة. لكن من يسجل أنين القلب، ولوعة الفؤاد والتهاب الذاكرة وأنحسار مد الأمل، ونزيف الروح والتوهان بعد الفقد. حتما ليست سجلات اليونسيف أو الأوكسفام أو منظمة أطفال الغد من يفعل ذلك. الأدب هو فقط الذي يقيس عمق هوة الفقدان، ووزن الخسران، وتوهان بوصلة الروح بعد غارة كهذه. وأضفت بأن ساكن استطاع تسجيل ما فات على المنظمات وعلى العلوم وعلى التأريخ.

العلم بروح الموضوعية التي يعتد بها والمنطق الذي يسربله لم ينشغل يوما "بتكميم" العذاب؛ ولكن جملة واحدة في رواية عظيمة يمكن أن تقوم مقام كل العلوم في وصف يأس وحيرة شخصية مثل شخصية غريغور سامسا في رواية المسخ لكافكا، أو الفراغ الكوني الذي يسبق قرار الانتحار عند آنا كارنينا. هذا هو الأدب الذي يقدم لنا "معرفة" لا تقدمها العلوم التي وضعتنا على سطح القمر ولكن لم تصنع لنا قاربا لعبور مجاهل الذات.

أسوق هذه المقدمة الطويلة قبل الاحتفاء بحكاية من حكايات كولونيالي وهي الرواية الأولى لكاتب القصة القصيرة القصيرة الارتري مصطفى محمد محمود طه. استطاع الاستاذ حامد ضرار بحسه العالي في القراءة، وخبرته في كتابة القصة القصيرة – والتي انشغل عنها للأسف- بأسياس وساس ويسوس، فحرمنا من قلم واعد، استطاع ضرار تقديم قراءة حاوية للرواية الجديدة؛ لا استطيع هنا أن اتجاوزها، ولكن حيلتي هي أن أزد فيها قدر المستطاع.

في الحكاية التي أخذت اسم "جنون ملك" من ضمن حكايات الرواية، يضاهي مصطفى طه تسجيل بركة ساكن لعذاب تلك الوالدة المكلومة. هنا يسجل مصطفى ببراعة المصور وبيان الشاعر "ألم" وعذاب مسلمي المرتفعات الارترية (كبسا) في أثناء حكم ملك اثيوبيا يوهانس الرابع والذي حكم في الفترة ¬(1872-1889). اتسمت فترة حكمه بمحاولة تنصير مسلمي الحبشة والجزء المقابل لها في المرتفعات الارترية، حيث عرف عنه التطرف الديني وذلك بعد نكبة شخصية ألمت به: (يقال أن رأس منقشا إبن أخيه ووريث عرشه، هو أبنه الحقيقي بعد علاقة غير شرعية بينه وبين زوجة أخيه حرم بعدها الاقتراب من أي أمرأة، ونذر روحه وجسده للمسيح). تطرفه الديني دفعه إلى اصدار أمر ملكي بأعدام من يعملون في أيام الأحاد. قضى حياته وهو يحارب باسم الدين تارة ضد المبشرين الكاثوليك القادمين من الشمال، وتارة أخرى ضد جيوش المهدية الإسلامية القادمة من السودان في الغرب. قضى يوهانس نحبه على يد جيش المهدي وحمل رأسه على أسنة الرماح إلى امدرمان. قد تكون كتب التاريخ قد وثقت لحملات هذا الملك وربما كان كتاب السلطان قد أرخوا (لإنجازه) التاريخي في خدمة الصليب، وأي كان الأمر يظل هناك عذاب الضحية وهو الجزء الذي لم يعتاد أي تاريخ يكتبه المنتصرون على تسجيله وهنا يجئ دور الأدب والحكاية.

فسكان قرى المسلمين من الكبار "كانوا لا يخرجون مؤخرا إلا في جماعات على خلاف الفترات السابقة، بل إن مجالسهم المسائية التي كانت في الغالب مسارح لحكاياتهم الضاحكة وذكرياتهم الطيبة صارت أصواتهم فيها تعلو كثيرا ويختلط فيها الغضب والحدة بالرزانة والخوف".

ثم يمضي الراوي ليشرح سبب التحول فيقول: "الملك يوهنس كان قد شرع في تنصير مسلمي الجبال قهرا وبدأ يرسل أنصاره إلى قرى المسلمين ليشرفوا على ذلك الأمر".

ثم تبدأ ريشة الأدب ترسم ما يعجز عنه العلم فيصور حكاية أم هاربة من التنصير "لقد تابعت هروبك يا شاذلي منذ أن ربطت أمك على عنقك صليبا خشبيا وخرجت هاربة من القرية لتقطع معه وديان وسفوح جبال الحماسين. أمك المسكينة حديثة العهد بالترمل كانت حاسرة الرأس وقد ارتسم في وجهها الرعب الحزن" أن تكون المرأة حاسرة الرأس وهي مسلمة في تلك الأيام كان سببا كافيا للرعب والحزن، وأن يكون كشف غطاء رأسها ضمن حملة التنصير فلقد كان ذلك مدعاة لكسر روح تلك المرأة الهاربة.

ثم تنساب الدموع: فهل قاس لنا العلم كم قطرة منه تنساب حين يجبر صاحب العقيدة على التنصر أو ترك معتقده كما في قصة اسحق بابل عن اليهودي العجوز؟ وهل قاس لنا العلم كم "ديسبل" يبلغ مدى الأنين. ولنا المشهد ثم لنا حرية القياس: "لقد بكيت وأنا أنظر إلى زهر الدين.. والدك يا شاذلي وهو يعارض أن يعمده القسيس مسيحيا خالصا، بعد أن منحوه مهلة للتفكير في الأمر". وهذه المهلة حتما لم تكن بغرض الموافقة أو الرفض بقدر ما كانت تتعلق بكيفية إنفاذ أمر الملك يوهنس، ظل الرب في الأرض.

ثم تمضي الحكاية لتحكي لنا كيف تمت معاقبة الشيخ زهر الدين بعد خروجه من المسجد: "لم أكن غائبا حين أمسكوا بالحاج زهر الدين حال خروجه من المسجد وجروه إلى ساحة المسجد بعد أن جمعوا الناس وشاهدت مع شاذلي والده يزحف على الأرض كدودة بعد أن بتروا يده وساقه بأسياف أماتت حدتها كثرة القتل والبتر. لم يتركه جنود الملك بعد أن بتروا أطرافه بل نهبوا مواشي أهل القرية وغادروا... رأيت مع شاذلي المرعوب كل محاولات أمه اليائسة لوقف نزيف الدماء من أطراف والده الدامية وشممت مثله تماما رائحة شواء آدمي عندما صبت عليها الزيت الحامي... وعايشت معه.. بعد محاولاتها تلك كل معاناة والده زهر الدين وآلامه إلى أن مات متأثرا بجراحه البشعة".

اكتفي بهذا القدر من النظر إلى هذا العمل الفني الذي يتكئ على تراث شفهي غني وحكايات حبلى بما جرى في تلك الهضاب والسفوح على مدى قرون وصولا إلى زمن الثورة والدولة والأحلام المتكسرة على صخور شاطئ الوصول.

حكايات كولونيالي إضافة نوعية لرف الرواية الارترية... عمل جدير بالقراءة وتأريخ جدير بالتأمل.

Top
X

Right Click

No Right Click