قراءة في كتاب ارتريا رحلة في الذاكرة للإستاذ أحمد طاهر بادوري - الجزء الأول
بقلم الأستاذ: إبراهيم محمدنور حاج - ملبورن، استراليا
لااذكر ان اعدت قراءة كتاب (غير مدرسي) سوى مرتين كان اولهما للفلسوف الأغريقي سقراط...
اما المرة الثانية فهو كتاب ”رحلة في الذاكرة“ الـ”فلسوف“ الأرتري المناضل الأستاذ احمد طاهر بادوري... ولم يكن لقب الـ”فلسوف“ شيء من عندي وانما ناداه به الشهيد البطل ابراهيم عافة ولهذه التسمية خلفية طريفة سنتطرق اليها فيما بعد.
وقبلما ادخل في استعراض “رحلة في الذاكرة“ استميح القارئ الكريم العذر لكي ادلو برايي فيما يتعلق بموضوع تدوين التجربة النضالية من قبل ابطال مسيرة الكفاح المسلح الأرتري.
ذات يوم دخلت مكتبة - كالعادة - بغرض الأطلاع على الجديد وبينما كنت اتنقل بنظراتي بفضولية من رف لرف لفت انتباهي كتابا فتوقفت عنده… كان في الواقع سيرة ذاتية لشخص تايلندي يتحدث فيه عن وظيفته التي عمل بها ثلاثون عاما. اما التجربة التي راى انه من واجبه نقلها للقاريء بكل فخر واعتزاز كانت عبارة عن لف حبل المشنقة حول اعناق المحكوم عليهم بالأعدام في سجون ذلك البلد.
وفي تلك اللحظة صرحت بخاطري وبدأت اقارن بين المناضل الآرتري وذلك التايلندي. فوجدت بـان الأول قد ضحى بزهرة شبابه وبروحه حتى يصنع الحياة الكريمة لمن بعده.. وفي المقابل نجد ان التايلندي قد ازهق ارواحا لا حصر لها لكي يعيش هو في رفاهية ثم لم يتردد عن توثيقها في كتاب دون ادنى حياء او خجل…في وقت ان المناضل الأرتري لا زال يتردد عن كتابة تجربته حتى لايفسر ذلك كنوع من تمجيد الذات.
ومن هنا التحية والأجلال لأستاذنا احمد طاهر بادوري والأستاذ الم سقد تسفاي… والأستاذ علي محمد صالح وغيرهم ممن اثروا المكتبة الأرترية في هذا المجال الهام جدا حتى تستفيد منه الأجيال القادمة… خاصة واننا في السباق مع الزمن !!
وكما ذكرت اعدت قراأة ”رحلة في ذاكرة التاريخ“ - يتكون من 474 صفحة - ليس لأنني لم استوعبه في المرة الأولى، بل كانت اعادة اشبه بأعادة مشاهدة فيلم جذاب غاية في جمال السيناريو وروعة الحوار والمشهد.. ثم وانا اقترب من النهاية تكون لدي انطباع بان مابين يدي كتابان وليس واحدا. انهما كتابان تتوازى فيهما خطوط الأحداث حينا وتتقاطع احيانا اخرى ويابخت القارئ !!
Two for the price of one فبالرغم من ان الكتاب هو في المقام الأول توثيق لتجربة سياسية… الا ان القارئ وبقليل من التفحص والتمعن يكتشف بان الكتاب يحمل بين سطوره رواية رائعة - محشورة بين احشاء الكتاب - حافلة بمواقف حزينة تبكيك واخرى طريفة تفرض عليك الأبتسامة… فهناك اعمال غير انسانية ارتكبها الأنسان - فظائع العدو الأثيوبي وتجربة الحروب الأهلية المريرة - تدفعك على ان تلعن الدنيا ومن فيها ثم تفاجاء بمواقف انسانية نبيلة غاية في الروعة والجمال تجبرك على ان تعيد صياغة مواقفك 180 درجة لتقول - الدنيا دي والله لسه فيها الخير - مثل الموقف الأخوي الشهم الذي قام به محمد جمع الـ (كرني) نحو بادوري (المصوعي).. وموقف ”جبر طادق“ الكمندوزي تجاه بادوري (الأسمرينو) والموقف الأنساني الرائع لـ”ام احمد” السودانية التي انقذت بادوري (الأنسان) من كلبشات الشرطي ”الطائع“ على متن قطار حلفة - الخرطوم.
يمكن لأي لاجيء ارتري - بل اي لاجيئ - ارغم على ترك وطنه هربا من البطش وألأضطهاد ليجد نفسه متيما غريبا من غيراهل تعصف به امواج الغربة كيفما شائت ان يجد في هذا الكتاب مرآة وكانها تجربته الشخصية… فمثلا نقراء قي بداية الكتاب ان توقف احمد عند الحدود لحظة حزن زرف فيها دموع الفراق قبل ان يعبر الى السودان لأول مرة وكان سنه لايتجاوز السادسة عشر… موقف احمد ذلك اثار لدي ذكريات وشجون.. فقد ذكرني بحالى الذي لا اُحسد عليه في اول عيد الفطر بعيدا عن الأهل والوطن..كان ذلك عام 1975.
اذن هذه هي قصة كل فرد منا اكتوى بنار الغربة والتشرد… يبكي احمد رحيل رفاقه فبكينا معه… حكى لنا مواقف طريفة (صفعة ود عافة له !) فضحكنا معه… ثم طربنا لقصة حبه العابر للحسناء ”ويني الأسمرينا“ في شواطئ عدن لأننا اعتبرناه حبا بأسمنا جميعا... فباعيناه.
تنتهي فصول ”رحلة في الذاكرة“ بعودة الثائر بادوري - مع من تبقى من رفاق الدرب - الى اسمرا عام 1991… وهي لا شك نهاية رائعة وجميلة fairytale end ولكن كما اسلفنا القول هناك قصة اخرى - قصة بادوري الأسمرينو… ذلك الشبل البريء الذي كان يتطلع الى المستقبل المشرق بطموح واسعة سعة البحر الأحمر واحلام وردية… شاب كان يحمل خيال رومانسي صقلته الحان احمد المصطفى وعثمان حسين وسيد خليفة.. كان يسير واثق الخطوة متكاء على جبل شامخ الا وهو والده المناضل طاهر الذي يقول عنه احمد.. ”كان يمنيني ان اختار بين الجامعة الأمريكية في بيروت واوكسفورد في لندن“… ولم يكن التحاقه بمدرسة كومبوني الخاصة سوى تمهيدا لأكسفورد وجامعة بيروت… ولكن وأ اسفاه.. سرعان ما تبددت وتبخرت تلك الأحلام في مهدها.. لتحل مكانها رحلة البوئس والرحيل القسري الى المجهول... تكالبت عليه من الأقدار اصعبها ومن الحظوظ اسوائها… جارت عليه الأيام فوجد نفسه متيما بعيدا عن والده العطوف وامه الحنون دون ذنب جناه... ففي اول محطة غربته.. كسلا.. يفاجاء بان احد اقربائه الذي وضع عليه احمد آمال عراض لعله يخفف عنه آلام الغربة قد رحل عن كسلا وكانه يهرب من احمد الغلبان… وتسير الأمور من سيء الى اسواء عندما لم يجد في كسلا شنطة ملابسه التي كانت كل مايملك في الكون... فيواصل ويتعمق اكثر في دروب الغربة والمجهول… والرحلة الى الخرطوم… وفي القطار فجاءة يتذكر امه فيزرف دموعه ساخنة حرقت مقلتيه.. فقد فاض به الشوق والحنين للأهل والأحباب… يلاحقه سوء الحظ في العاصمة المثلثة… فيجد عمه الثري جدا قد اصابه فجاة - بقدرة قادر - الأفلاس رغم ثروته الطائلة واعماله التجارية التي طالت الخرطوم وجينوا الأيطالية… وكل ما مربه احمد حتى هذه اللحظة من صعاب كوم وما حصل له في حدود مصر كوم.
فقد وصل سوء الحظ ذروته عندما تم ايقاف احمد وهو يحاول التسلل عبر الحدود الى مصر طلبا للعلم.. فتم ترحيله الى الخرطوم مكبل اليدين.. زول حبشي لازم يُسلم للسلطات الأثيوبية التي كانت اصلا سبب البهدلة التي هو فيها… الى آخر القصة.
نعم عاد بادوري الثائر عام 1991 ولكن هل هو بادوري ”الاسمرينو“؟!.
يقول الفنان الطيب عبدالله ”الغريب مهما طال غيابو مصيرو يرجع تاني لأهلو“.. ولكن الحقيقة المرة هي ان اللاجيء لم ولن يعود… نعم قد تجد نفسك عدت... ولكن هل انت ذاك الشخص الذي غادرها بدموع الفراق ؟ وهل من تركتهم خلفك قدوجدتهم في انتظارك لدى ”العودة“… ثم اليست العودة كما يقول عنها الفنان هي اصلا للأهل وللحلة والأحباب… الغربة هي ضياع احلام وابتلاع مساحة من ماضي جميل ذهب دون رجعة… اما الوصف الأقرب لواقع الغريب “العائد” فنجده في كلمات الفنان خليل اسماعيل ”اغالط نفسي بأصرار واقول يمكن انا الماجيت“.
تـابـعـونـا... في الجزء القادم