سمراويت الانتماء الى الرحيل

بقلم الأستاذ: محمد مسوكر - كاتب و روائي

(ولكم في الأرض مستقر ومتاع الى حين) الاية 36 البقرة، ينبئنا القران الكريم عن ألأزل ومنه أطلعنا

على رحلتنا الأولى في قصة هبوط سيدنا آدم وزوجه حواء الى الارض لينتشر الناس ويمشوا في مناكبها مكونين جماعات بتعدد طبائع الارض ومناخها فتشكلت الامزجة والثقافات وعرف الانسان معها الانتماء الذي يٌنبِتُ الشوق والثأر والحنين.

لذلك ظلت الانسانية تجدل تجوالها وترحالها نصوصا وهي تخرج من طور إلى آخر. والأدب بكل أجناسه مثَل مرآة عاكسة لخفقان واقع، يزحف من التأريخ عابرا من خلالنا الى ألمستقبل أو نبوءة تتكئ على مخرجات لحظات انسانية في زمن ما. لذا أصبح الأدب السجل الاهم الحافظ لسير الأنفس البشرية في خلجات الزمان.

عن الرحيل كتب الكثيرون، أليكس هيلي في رواية الجذور يبحر من ذاكرة (كونتا) الجد الاول الذى أجبِر على الرحيل عندما أحاله الرجل الابيض الى سلعة وكيف ان ذاكرته الافريقية حفزته مرارا على الهرب وبٌتِرت ساقه نتيجة لتطلعه الزائد نحو جذوره.

يتزوج من (بيلا) لينجب (كيزى) امتدادا لذاكرته التى تتناسل عبر الاحفاد حتى يأتي زمانا يوقع الرئيس لنكولن على إعلان تحرير العبيد وينتمي الاحفاد الى الرؤيا الخاصة ”حضارة بيضاء بجذور سوداء“ وتتأسس ذاكرة من سعير التناقض الصارخ والالتقاء المستتر أو العكس.

يقول إدوارد سعيد في مذكراته ”خارج المكان“ أنه (عاش بين عالمين مختلفين كليا بل متعاديين... العالم الذي تنتمي اليه عائلتي وتاريخي وبيئتي وذاتي الاولية الحميمة - وهي كلها عربية وعالم تربيتي الكولونيالي وأذواقي وحساسيتي المكتسبه ومجمل حياتي المهنية معلما وكاتبا) لذلك يصف نفسه بأنه لم ينعم مرة بشعور من التناغم عن ماهيته لذلك جاءت الكتابة عنده ”فعل استذكار وفعل نسيان“ (وأنها إعادة بناء عالم في مصطلحات عالم آخر) وأنه عندما عاد لم يجد ذاكرته وأن عالم طفولته دمرته أحداث 1948 وعلى أنقاضه قام عالم عربي جديدا ثقافيا وسياسيا لذلك قرر أن يكون عربيا بالاختيار حسب وصفه ولكن ايضا بالانعتاق والتحرر من القوالب الجامدة للعائلة واللغة والقومية ويقول أنه يعلم ”أن التكيف بين ذاتين هو مسعى لتحقيق فكرة طوباوية“. وتتأسس ذاكرة من أجزاء متنافرة ترفض أن تستكين.

كل الذين تداعت جوارحهم وعقولهم وكتبوا عن الرحيل القسري أو الاختياري تجاوزهم في تقديري الروائي الطاهر بن جلون في منجزه المعنون ”أن ترحل“ ليس بمقارنة متنه مع غيره من المتون ولكن من الوعيد والتحذير واللذة، و كل ذلك الذي يعتمل ويمور فقط في العنوان التعجبي المثير للأسئلة المتعلقة بالمصير. الذي ليس بمقدور أحد أن يغلق النهايات برسم نتيجة حاسمة له بل اليقين يبقي أن الذاكرة الاولي تتبدى كالنفس اللوامة تقلق مضاجع صاحبها وتصبح مرضاتها مطلبا وهي تسوم المستقبل سوء الماضي وتساومه على ملامحه.

دلف الكاتب والصحفي الإرتري حجي جابر بروايته سمراويت الصادرة عن المركز الثقافي العربي في العام 2012 وعدد صفحاتها 192 من باب الرحيل وعسره في الازمنة والأمكنة حريصا أن لا يهمل شروط المعادلات التاريخية فغَلَب عدمٌ الرغبةِ في الانتصارِ لفكرةٍ جاهزةٍ غيرَ أنه يغرف من نهر اليومي في رؤيته لحاضره المشتبك مع ذاكرته التاريخية.

فهو هنا ليس كإدوارد سعيد يعيش وضوحا بين عالميين متضادين، بل يبحث عن الصورة الواحدة المفترضة في عالم يضمر صورا متعددة عن ذاته في الدين كما في الوطن.

في عمومه تعرض الكاتب للمقيم وابنه وحفيده في دول النفط وأنه مهما امتد به الزمان فهو مقيم عابر لا يمتلك ذاكرته. وعلى وجه التعيين تحدث عن حي النزلة بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية الكائنة شرق البحر الاحمر وحي ختمية في مدينة مصوع على البر الغربي للبحر الاحمر في إريتريا.

والإشارة الاولي تبدأ من إسم حي الذاكرة في مصوع (ختمية) فعلى الرغم من وقوعه غرب البحر الاحمر إلا أنه منتج حجازي فهو نسبة إلى طريقة آل الميرغني الذين اجلاهم محمد بن عبد الوهاب من الحجاز فرحلوا الى السودان واريتريا وعند الجماعات الناطقة باللغة العربية وغير لاهجة بلسان مختلف تنطق بإضافة أل التعريف أي الختمية أما في حالة مدينة مصوع فاللسان فيها بجاوي وحميري فهو لا يأبه بال التعريف.

إذن يختلف الامر هنا عن إدوارد سعيد الذي عاش رغم كل شيء بين عالميين متضادين بوضوح فهنا تعقد مقابلة بين افتراض قائل بوحدة الفضاء الحضاري والوطني وواقع ينطوي على تعبيرات متعددة نتيجة لتداخل الازمنة.

(إنما المؤمنون إخوة) آية قرآنية ينطق بها عمر بطل الرواية الذي يعمل بالصحافة إبن حي النزلة بمدينة جدة بعد أن فرغ من استطلاع احد مشايخ الدين ”حول القانون القائل بمنح الجنسية السعودية للمقيمين وفق شروط معينة، وهو قانون يقترب من المعمول به في كندا من جمع النقاط... نقاط للشخص من أم سعودية وسنوات الاقامة وإتقان العربية والديانة الاسلامية“ رأى الشيخ ”أن هذا القانون يزيد من نسبة البطالة بين السعوديين وأن الاجانب يسببون التلوث“ وهو يعلم أن صراحة الشيخ جاءت لأن لسان عمر موغل في المحلية الجداوية التي جعلت الشيخ يظن أن مستطلعه سعودي، هذا الموقف مقروء مع قول جدته بأن الاسلام في إريتريا أكثر رحمة من السعودية تجليه لحظة أدائه الصلاة في مسجد الخلفاء الراشدين بعاصمة إريتريا أسمرا وشعوره بأن السماء قريبة ورحيمة. فذكره للآية الكريمة أمام موقف الداعية السعودي هي مقابلة بين المأمول من الخطاب الإلهي والواقع ألمعاش ليس على مستوى العامة فحسب بل في صفوف الدعاة.

أما بحثه المضني عن صحيفة إريتريا الحديثة في طبعتها العربية في شوارع أسمرا واختفاء صوت الفنان إدريس محمد علي الذي تغنى للحرية في دياجير الواقع، جعلاه يمني النفس بأن مصوع ستبعث في نفسه السلوان إلا أنه وجدها تعيش في غربة وتكتظ بالغرباء. وفجأة يتناقض مشهد الرحمة داخل المسجد في أسمرا مع التاريخ الاسلامي المهمل في مدينة مصوع وآثار الهجرة الاولى الى الحبشة عبر مرفئها وذاكرة مسجد الصحابة التي تركت لنمل الايام الابيض بمنبره المتجه نحو القبلة الأولى المسجد الأقصى.

انحسرت ذاكرة الاهل في الواقع ولم تزداد شجرة التاريخ طولا ولم يقوى حي ختمية على تحمل أسئلة الغريب الذي أتى سيرا على الذاكرة من حي النزلة المنفتح على أكثر من انتماء. ولم يبقى لبطل الرواية عمر غير السير على مطبات القراءات المتناثرة للتاريخ والمستقبل فهذا سعيد مقاتل الثورة الارترية (الجبهة الشعبية) الذى فقد ذراعه يشعر بخيبة أمل إزاء إرتريا المستقلة ويعيش في اسمرا على تجارة العسل وهناك المعارض المقيم في جدة الأستاذ حسين أفندي يجزم بان المسيحيين في ارتريا هم المشكلة وهو الذي أثلج صدورهم في المنتدى السعودي عندما تحدث عن الرشايده آخر القبائل السعودية التي هاجرت إلى إريتريا وعرب وقيرو وقبائل غامد وزهران في الباحه وعرب الجنوب وأهالي جيزان وكل لؤلئك كانوا سكانا في غرب البحر الاحمر. أما احمد دليل عمر في جدة نحو الفضاء الارتري وعضو الحزب الحاكم يردد دوما ان ارتريا مستهدفة من دول الجوار وان المعارضة جماعات فاشلة وانتهازية.

وهناك الطالب الحقوقي العائد الى جدة من القاهرة ينشط في الاتحاد الوطني ويطالب بحقوق الثقافة العربية والإسلامية في ارتريا ويرفض ان تضمن التجرينية الى اصدارات السفارة الارترية في جدة، لأنه يعتقد اذا كان من الثوابت الوطنية الكتابة باللغتين فلابد من أن تعمم تلك الثوابت على مسيحي ارتريا في امريكا والغرب.

تظهر الدولة الإريترية المستقلة أيضا متعددة المضامين ما بين المأمول منها وما بين ما تقوم به في الواقع فالقنصلية في جده باتت مكانا لإستحلاب الناس أموالهم وقيمهم ومقر للجالية تحت إمرة الحكومة أشبه بالنوادي الليلية بتأمينه صالات للرقص وأخرى للعب الميسر.

أما سمراويت الفتاة العشرينية الباريسية النشأة بنت المعارض الاريتري المعروف و من أم لبنانية شاعرة يزين جدران بيتها المسيح. صبية غير قلقة مثله وتحمل في يدها رواية رحلة الشتاء للأديب والمؤرخ والسياسي الاريتري محمد سعيد ناود وترى أن مشكلة إريتريا في تعطيل الدستور.

ولأنها أي سمراويت تمثل نقطة الرواية الحاكمة فتجعلنا نفسر هيام عمر بها وفكرة زواجه منها ورفض والدتها اللبنانية لذلك باعتباره ذاكرة متخلية لم تجد سندها من الواقع لتبقى وتزدهر.

حشد من المتناقضات يبحث لها عن معنى في الواقع الذى لا ينبت غير ذاكرة متشظية تنجذب الى اكثر من وعى وانتماء ولا تجد ضالتها في تزاحم الاضداد.

مدينة جدة ايضا مكان تجتمع فيه اضداد بين حياة المطاوعة التي تركت ندوبا في فكره والصلاة الثانية عقب المفروضة التى يؤديها اهله اثناء عودتهم من مساجد حي النزلة وهم يسيرون نحو بيوتهم ويحلمون بعودة ما، وأغنيات الفنان السعودي عبادي الجوهر:

أول الناس أنت
وكلهم
وأخر اللي عيوني
تملهم

وصخب الشاليهات او الكباين وكثرة الراقصين فيها التي تعتبر مجازفة اذا لم تكن محصنة ضد قدرة رجال الشرطة الدينية، يتسلل اليها سعوديون ويمنيون وارتريون وغربيون وتتمايل فيها الاجساد وتقرع الكؤوس.

وانقسام الرياضة الجماهيرية الى فريق الاتحاد للأجانب والاهلى للأمراء وعلية القوم كم جدة يا ترى في جدة؟؟؟

اما البدوي الاخير كما يسميه وهو السعودي ابن حى النزلة كاد يشابه (آن) بنت الرجل الابيض حينما ظنت (كينزي) بنت كينتا انها صديقتها وظل والدها بساقه المبتورة يعيدها الى ذاكرته مذكرا انها لا تعدو اكثر من بنت زنجي يباع ويشترى وان (آن) الطفلة سيدتها ومالكها ألقانوني هنا ايضا ان البدوي الاخير كاد ان يكون (آن) إلا انهما معا ادركا فخ الذاكرة وحطما اغلالها بسخريتهم حيث يقول عمر عن البدوي الاخير انه مثقف مرهف ضل طريقه الى الصحافة ويعيد مع نفسه (مع الوقت قدرت اتخلص من معظم البدو القدامى وأنت البدوي الوحيد الذي عرفت وجعلني افكر في ارجاعهم) ويجيبه البدوي الاخير ”وأنت الاسود الوحيد الخلاني اكسر قاعدة الوالدة: ”لا تمشي مع الخيلان اى العبيد“ ويضحكون بصوت عالى.

ما بين الواقع والتاريخ والأمنيات وقلق النفس الراحلة لم يستكين الكاتب إلى إيقاع رتيب في في (أن يرحل) من فكرة إلى أخرى أو لحظة عبوره من خلال الأمكنة والأزمنة بل نالنا بقفزات متزنة وجال بنا على كل التفاصيل جيئة وذهابا.

يبدأ بالطائرة وهو هبوطا في مطار أسمرا ثم يعود بك إلى ما سبق من إعداد نفسي للرحلة في لحظة تشعر بحاجتك لتلك العوده دونما إسراف أو تقتير لتحمل زادك من بقايا نفسه وذاكرته ومجددا تغادر معه. فعلى الرغم من أن الرحلة واحدة في ظاهرها ولا تبلغ الساعتين بالطائرة إلا أنها مكتظة بالتحليق ذهابا وإيابا كازدحام الذات المروية.

كما أنها لا تحمل إشارة بدء مكاني ولا ترغب كفعل التاريخ بضفتي البحر الاحمر أو لأن معيار البدايات والنهايات اختلط بالوطن والنفط والدين وتركت مصوع لتحتضن قبلتها الأولي في مسجد الصحابة.

الكاتب حجي جابر لا يدعونا إلى رواية ترفيهية بل عن عمد يسعى إلى الزج بنا في أتون التناقض الذي نحياه في فكرنا ليضاعف لنا عمق رحلتنا الأزلية على الرغم من قول الآية الكريمة لنا فيها مستقر ومتاع إلى حين.

Top
X

Right Click

No Right Click