قراءة في كتاب ارتريا رحلة في الذاكرة للإستاذ أحمد طاهر بادوري - الجزء الثاني

بقلم الأستاذ: إبراهيم محمدنور حاج - ملبورن، استراليا

الكاتب والكتاب والقيمة الأدبية.. اعترف وانني اقترب من نهاية الكتاب تملكني احساس غريب

(جايز طمع!) فقد تمنيت لو ان فترة الكفاح المسلح امتدت لفترة اطول حتى تزداد عدد سطور وصفحات رحلة في الذاكرة لكي نظل في مجلس ود بادوري نستمع لحديثه الذي لم يكن شيقا وممتعا فحسب بل انه موسوعة اعلامية وضع فيها النقط فوق الحروف في احيان كثيرة.

هناك عدة طرق يمكن الخوض منها عند تقييمنا للكتاب والكاتب… فهناك بادوري الذي حطم الأستعمار الأثيوبي احلامه و تاه في دهاليز الغربة كما تحدثنا عنه في الجزء الأول، ثم بادوري الثائر الذي حطم احلام اثيوبيا ودخل اسمرا عام 1991 حاملا راية النصر المظفر.. ثم اخيرا وليس آخرا هناك بادوري الكاتب والرابط بين البادوريين المتناقضين… اذن للقارئ مطلق الحرية في ان ينتقي ما يريد الأستماع اليه اما نصيحتي الشخصية هي: ان لم يعجبك بادوري السياسي فتلك ليست نهاية الدنيا.. فلديك بادوري الأديب الذي لن يخيب ظنك.

في هذا الجزء (الثاني) سيكون حديثنا عن بادوري الكاتب والأديب… فقد وجدت نفسي مشدوها ومنغمسا بشكل كبير في احداث الكتاب وكأني داخل ارتريا.. لدرجة انه عندما كان الحديث عن عملية فنقل الجريئة وتحرير مدينة مصوع.. كدت ارتدي حذاء الشدة تحسبا! رغم انني في ملبورن.. وقد حزنت لنهاية الكتاب.. لأن النهاية كانت تعني العودة الى المربع الأول.. وتاني غربة !

الواضح ان الكاتب قد سخر جُل امكاناته الروائية والأدبية المميزة في ايصال الرسالة ونقل المعلومة بأسلوب السهل الممتنع وقد تمكن من التوصل مع القارئ الى نقطة تفاهم مشتركة رغم الأختلاف في قراءة بعض احداث الساحة الأرترية فضلا عن بعض التناقضات في الكتاب ذاته التي نلاحظها هنا وهناك (سنذكر بعض هذه التناقضات في حلقات قادمة).

ويمكن القول بان الكاتب - بشكل عام - تمكن من الوصول بـ “رحلة في الذاكرة” الى بر الأمان في سرده لأحداث امتدت لأكثر من حقبتين من الزمن باسلوب ادبي اختار فيه من الكلمات اجملها ومن الأوصاف ارقاها ومن الأفكار اعمقها ومن الأحداث مبكياتها ومضحكاتها فكان ان وضع بين يدي القارئ الأرتري (بل ايضا العربي) عمل ادبي بهذه الروعة والأبداع والآُبهة.

وهنا ورغم علمي المسبق بالمخاطر التي تحيط بأصدر الأحكام المطلقة في مثل هذه الحالات لن اتردد عن الزعم بانه وفي رايي المتواضع يعتبر هذا الكتاب من اجمل واروع ماكُتب - بلغة الضاد - بيد احد رموز ابطال الثورة الأرترية.. خاصة وان الكاتب واحد من صناع هذا التاريخ.. وهذه البطولات... بطولات الشعب الأرتري.

ونلاحظ بان الأستاذ بادوري شخص عاطفي الى حد كبير ولايخفي حزنه (وكم من مرة اغرورقت عيناه كلما فارقه احد رفاق الدرب وكم من مرة عبر عن آهاته بـ وا اسفاه) وذو احساس رهيف سريع التأثر والتفاعل بما حوله وهذه من سمات الكتاب والشعراء الكبار وكما يقال ان الكاتب ابن البيئة.. وحال بادوري يذكرني بالشاعر البدوي علي بن الجهم الذي اراد ان يمتدح المتوكل عندما قال:
”انت كالكلب في حفظك للود… وكالتيس في قراع الخطوب.

عرف المتوكل بان الشاعر خامة جيدة ويحتاج الى البيئة المناسبة ليأتي بأوصاف افضل من التيس والكلب فأسكنه في مدينة حيث البساتين والشواطئ وبعد سنة من تلك الحادثة نظم الشاعر ابيات شعر رائعة عندما قال:

عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري
خليلي مااحلى الهوى وامره
اعرفني بالحلو منه وبالمرُ
حال الشاعر العراقي ينطبق الى حد ما على الأستاذ بادوري..

فعندما وصل احمد بادوري الى الخرطوم في النصف الثاني من الستينيات لأول مرة وتم استضافته في منزل شخص سوداني شهم يدعى تيجاني احس بادوري بضعف لهجتة السودانية واللغة العربية عامة فأعتذر لمضيفه قائلا ”اعذرني عن لهجتي القريبة من اللكنة اليمنية وركاكة لغتي العربية.

ولكن وبعد احتكاكه ومعاشرته للشعب السوداني (الذي يصفه بادوري بأحسن شعب المنطقة من حيث الشهامة والكرم وانا اتفق معه!) نجد ان بادوري قد اصبح ليس ممن يجيدون وعشقون اللهجة السودانية فحسب بل كتب بها شعرا في قصيدة يخاطب فيها معشوقته اسمرا بسويعات قبيل دخول الجيش الشعبي المظفر العاصمة في لحظات تاريخية عظيمة.

يايمة.. يا ام المدائن
إفتحي صدرك وضمي
الداقين على الأبوب ولادك
ديل كانوا صغار شبوا
في دروب هواك

نلاحظ بان الكاتب احمد بادوري يمتلك اسلوب راقي ومتميز في طريقة السرد وانسياب الأفكار والربط بين الأحداث بكل سهولة مسخرا ذاكرته القوية جدا (مثلا استذكاره - بعد مرور حوالي اربعون عام - لنوع وجبة الأفطار التي تناولها في تسني في منزل صالح قبل عبوره حدود السودان) كما استخدم في الكتاب اسلوب علمي وممنهج خاصة في الفصل الثامن (التحالفات الدولية) والفصل التاسع الخاص بنضالات المرأة الأرترية.

شدني في الكتاب دقة وبلاغة التعبير عند وصفه لبعض المشاهد والأحداث وكأنها لوحة ماثلة امامك.. ”كلمات بألف صورة فمثلا وهو يصف رحلته مع الشهيد القائد ابراهيم عافة وهما يبحثان عن رفاق لهما في سهول شمال الساحل في خضم ايام معارك الحروب الأهلية.

كانت الأرض منبسطة كأجنحة الفراشة الممدود، لا جبال، ولا وديان عميقة ولا صخور سوى قليل من اشجار الأكاشة.

وفي موقف أخر وفي مقارنة بين رحلتي قطار مصوع - اسمرا و قطار الخرطوم.

الفرق بينهما كفرق تضاريس الارض والطبيعة والطقس بين ارتريا والسودان ..فهذا يتسلق المرتفعات العاليا وهو يئن ويستغيث ويعبر الموانع الجبلية المستعصية عبر الأنفاق اما الاخر فيسير متمخترا على بساط سهل مديد ويتلهى مختالا غير مبال بالزمن بين البراري والسهول الشاسعة والمزارع الخضراء الممتدة حتى الافق… مارا بعشرات القرى والمدن الحالمة على ضفاف النيل الخالد.

وفي وصفه للبحار الأرتري المناضل محمد احمد ناخوذة الملقب (باسكو).. يقول عنه الكاتب “صاحب عيون الصقر في وضح النهار وبأجنحة النورس يطير فوق امواج البحر في ظلمات اليل والقمر الساطع واشعته الفضية تنعكس في مقلتيه… رائحة الشعاب المرجانية ملء انفه ورئتيه والنسيم العليل مرشده بين صخور البحر الخطرة والنجوم في قبة السماء بوصلته.. حيث تلتصق مياه البحر عند الأفق بالسماء.

واسلوب التشويق ايضا نجده في بعض فقرات الكتاب نذكر منها مثلا يظل القارئ ينتظر بفضولية - وهو يتنقل بين سطور الصفحات - لمعرفة اسم ذلك الشخص الذي حاول تجنيد بادوري في العمل السياسي السري ايام الدراسة في اسمرا ولم يظهر اسم ذلك الشخص الا في النهاية - بعد ان ادخلنا الكاتب في نفق الحيرة والتخمينات - لنكتشف فيما بعد بان ذلك الشخص قد اشتشهد على ايدي جنود العدو بعد ان قتل منهم ثلاثة بيديه دفاعا عن اهله في قرية امبيرمي القريبة من من مصوع.. الا وهو الشهيد البطل احمد صالح كيكيا.

واي بلد عربي وطأته قدم الكاتب نجد ان ذلك البلد قد ترك بسمات واضحة على فكر وثقافة الأستاذ بادوري.. فقد تأثر بشعرائها ومفكريها وفلاسفتها وفنانيها.. يشرح اعجابه بالحان فيروز وناظم الغزالي… ويقول ان سوريا كانت شعلة وهاجة زاخرة بالنشاط الفكري والعمل الثوري.. ويقول ان عبد الناصر رغم عظمة انجازاته كانسان قد اخفق في بناء تنظيم سياسي ثوري… يتحدث عن الفلسوف ابي العلاء المعري الذي طلب من سائق التاكسي التوقوف لكي يزور قبر الفلسوف العربي… يتحدث عن حلب وقلعة صلاح الدين والفلاسفة الغزالي والأفغاني.. وعن الشاعر الأرتري سكاب… وغيرهم.

ومن هنا يتضح لنا الثقافة العالية التي يتمتع بها الكاتب بادوري والتي انعكست بشكل جلي على الكتاب الذي بين ايدينا.

وايضا في الكتاب تعريف بالجغرافية الأرترية وقد تعرفنا على كثير من اسماء المدن والقرى المغمورة التي لم نسمع عنها واحيانا سمعنا عنها ولكن لا نعرف اين تقع وكمثال لذلك سمعت اسم غفرالله من خلال لحن جميل في مصوع ايام الطفولة.

حنتي قبي إلا تا… وحنتي قبي غفرالله
وحتى لايزعل عنا ناس الغربية نقول:
حتي قبي إلا تا… وحتي قبي غفر الله

اما الأن فقد انزاح عنا الجهل الجغرافي وان غفر الله هي منطقة في السمهر بالقرب من شْعْبْ.

ختاما لهذا الجزء:
من المعروف ان الكثير من المشاهير والشخصيات العامة في شتى المجالات يختمون مسيرتهم في الحياة بكتابة سيرتهم الذاتية التي يكتبونها لأسباب عدة ولكن في كثير من الأحيان يكتبها لهم اناس مختصون… اما ان تكون تلك الشخصية ممن خاضوا ملاحم وصنعوا البطولات وسطروا تاريخ شعوبهم بأحرف من الذهب.. ثم وفي نفس الوقت ان تجتمع في ذلك الشخص النبوغ الأدبي.. فهذا شيء نادر… اما نحن معشر الأرتريين فلا نحتاج ان نبحث عن مثل هذه الشخصيات النادرة في فيتنام او الصين اوحتى امريكا اللاتينية ..ابدا والله.. لانحتاج ان نذهب بعيدا لأننا نجدهم بيننا وفي عقر دارنا.. والمناضل والكاتب احمد طاهر بادوري هو دون شك احدهم…
أمبأركس احوات.. كدا نكون قد انتهينا من شهر العسل بيننا وبين رحلة في الذاكرة… اما الجزء القادم حنقلبها سياسة !! سنتناول بادوري السياسي ورايه في دور الشهيد القائد عثمان سبي وجبهة التحرير الأرترية ودور المرأة والبحارة القدامى.

تـابـعـونـا... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click