رواية جرح الذاكرة للأديب الأرترى عبدالوهاب حامد
المصدر: صحيفة الرأي
عبدالوهاب حامد - وحين أرخى الليل سدولَهُ وتغلغل الظلام في أرجاء المدينة المنكفئه على ذاتها، اعتكفتْ في غُرفتها الكئيبة بالفندق،
تُقلِّب دفتر أحزانها وخيباتها المُتكررة.
أيقظ الفقدُ أشواقها، فأخذت تبكي على قريتها الحبيبة، التي ظلت تجترّ تفاصيلها الجميلة وتخبئها بين طيَّات الذاكرة.
تناهى إلى أُذنيها حوارٌ هامس بين شخصين يتحدثان في الغُرفة المجاورة، ويبدو أن أحدهما كان حزيناً وقلِقاً يتحدّث بمرارةٍ وحسره عن أمرٍ جلل، بينما بقي الآخر صامتاً لا يتحدث إلا لماماً:
• أشعُر أننا قد بتنا كضيوف غير مرغوب فيهم، أو هكذا يُحاول هؤلاء أن يسرِّبوا إلى قلوبنا هذا الشعور !
• لستُ متشائماً، لكنني فقط أنظر بعينٍ مفتوحة لما يدور حولنا، فحين يُساق العشرات من الرجال الذين صاغوا بالبطولات الفريدة أبجديات الانتماء لهذا الوطن إلى مصير مجهول، أليس في هذا مدعاة إلى التشاؤم ؟
ساد الصمتُ طويلاً، فظنّت «زهرة» أن باب الحوار قد أُغلق بينهما، لكن صوتَ رجل خمّنت أنه رصين ومُثقَل بالتجارب والحِكم تسلل إلى أُذنيها فجأة:
«قد يكون التشاؤم مفيداً أحياناً، لكن في حالة واحدة»، قال الرجل ثُم صمت قليلاً قبل أن يواصل:-
• التشاؤم يا «صالح» يُمكن أن يفيدنا إذا أفضى بنا إلى التشخيص السليم للظرف أو الحالة التي يمُر بها الوطن كى يتسنّى لنا بعد ذلك معالجة الأمر بحكمة من دون أن نسمح للأحاسيس المنفلتة من عقال الذاكره الملوثة بآثام الماضي، أن تلوِّن فضاءنا الغائم أصلاً بأخطاءٍ أُخرى لا تقِلّ خطورةً عن تلك التي مُورست إبّان سنوات النضال، من هؤلاء وأولئك على حد سواء!
اقتربت «زهرة» بفضول والتصقت بالجدار الفاصل بين الغرفتين وجعلت تُصغي.
• لا تنسَ يا صالح أننا مُقبلون على عهدٍ جديد، هو عهد الدولة التي يجب علينا جميعاً أن نُحرِّك دولابها في الاتجاه الصحيح و...،.
«يبدو أن الماضي الذي تتحدث عنه قد مضى من دون أن يُلملم أطرافه السوداء من قلوبنا»، قاطعهُ صالح الذى بدا كأنهُ يبكي وهو يتساءل:-
• قُل لي يا أُستاذ «عامر»، أين هُم أولئك الرجال الذين صنعوا لنا هذه اللحظة التاريخية التي نُفاخر بها بين الأُمم؟ أين «ديناي»، أين «محمد خير»، أين «داير»، أين...؟
• هذا صحيح؛ فتراكُمات الأمس السالبة لم ترحل بعد، وهذه هي العقبة التي تُعيق طريقنا الآن، فمن المؤسف أن يتجرأ الظلاميون ويُطفئوا الشموع التي أنارت لنا جميعاً عتمة الدروب الحالكة، لكن حتمية التاريخ تقول إن دولة الظُّلم لا تدوم، وإن الدكتاتوريات تحفر قبورها بأيديها، فلننتظر اليوم الذي ندفن فيه هذا النظام الفاسد، ولكن.
صمت «عامر» قليلاً، ثُم دنا برأسه قريباً من أُذنه قبل أن يواصل:
«لكن حتى أن يحين ذلك اليوم، يجب أن نتوخى الحيطة والحذر، فربما يسقط مزيد من الضحايا، لأن الكلب المسعور يظل يعُضّ غيره حتى آخر نبض في عروقه!».
• لا يا «عامر».. لا. فأنا لم آتِ إلى هُنا لأدفن أحداً أو لأُقاتل في حروبٍ عبثية.. لقد جئتُ هُنا بنيّةٍ صادقة لأُشارك في بناء الوطن الوليد، وقد تركت خلفي مُغريات يسيل لها اللُّعاب، فشهادتي التي أحرزتها بامتياز في الهندسة المدنية تؤهلني للعمل في أي بُقعة بالعالم، ولا تنسَ أن أبواب الخليج مُشرعة لمثلي من الأكاديميين المؤهلين.
وضع حقيبته على الأرض، وجعل يرمى فيها ملابسه وأغراضه الخاصة، ثُم وقف أمامه وقد التمع شعاعٌ من الدمع على مُقلتيه:-
• نحن شعبٌ قُدّر له أن يعيش على هامش الحياة.. شعب يتصور أن الحياة لا تستقيم إلا بالشقاق والاحتراب، وفوق ذلك فقد رُزئنا بقيادة لا تعرف كيف تكبح مشاعرها العدوانية تجاه من يخالفها الرأي. لقد حطمت الثورة الفرنسية أغلال «الباستيل»، ثُم أرست دعائم الحرية والديمقراطية، فماذا فعلت ثورتنا المنتصرة ؟
«بل قُل، ماذا فعل الذين سرقوا الثورة؟»، قاطعه «عامر» بتساؤله هذا، فصمت «صالح» قليلاً ثُم عاد إلى حديثه:
• هذا صحيح، فقد شيَّد هؤلاء مزيداً من السجون، بل أضحى الوطن كله سجناً يرزح الشعب خلف قضبانه.
«لكن لا جدوى الآن من التمادي في جلد الذات، فليس الأمر بخارجٍ عن قدرتنا على التجاوز، وهو لم يصل بعد إلى حد الانهيار»، قال «عامر» كأنه يحاذر أن يرُشّ الملح على الجرح.
ساد صمتٌ مشوب بالرهبة، فحبست «زهرة» أنفاسها وزمّت شفتيها متألمة وقد أثار ذلك الحديث الشجي في نفسها أعنفَ المشاعر.
«بل انهارَ كل شيء، لكنك تنظر إلى الأمور بمنظارٍ حالم ومتفائل، عكس هذا الذي تراهُ أمامك، يبتسم ابتسامة غامضة مثل ابتسامة أفعى جائعة، ولا يدري أحدٌ ماذا يُخبئ خلف هذه الابتسامة الماكرة»، قال «صالح» وهو يشير إلى صورة للرئيس كانت معلّقة على الجدار، ثُم أضاف: «لقد انتفخت أوداج نرجسيته، حتى صار هو المُحقق، وهو الحكَم، وهو الذي ينفِّذ الحكم!».
وضعت «زهرة» يدها على الشِّق الأيسر من وجهها المتواري خلف حجابٍ من الاصفرار والذبول، ثم واصلت الإصغاء بحرصٍ واهتمام:-
• الرحيل هو الحل الأمثل يا «عامر»، فمن العبط أن نموت هنا بسبب «عطسة» تخرج من أنوفنا عفواً، فيصنع منها هؤلاء المتربصون خلف متاريس أحقادهم جريرةً تستوجب القصاص !
صمت قليلاً ثُم تسلل صوتُه بُغتةً حين قرأ الدهشة على وجه «عامر»:-
• ما الغرابة في ذلك؟ ألسنا نحن الأرتريون الأكثر خبرةً من غيرنا في ارتياد المنافي وعبور المحيطات ؟
ألسنا الأكثر خبرةً في السفر والهجرة والاغتراب ؟ بل أرجو ألاّ تستغرب يا «عامر» إذا اكتشف العلماء يوماً في خلايانا «جين الرحيل» !
قال ذلك وهو يودعه بنظراتٍ لاذت به إلى مجاهيل مظلمة، حرَّكت فيه مواجع لجروحٍ مليئة بالقيح.
ارتمى «عامر» على سريره وأخذ ينظر إلى أعلى كأنه ينادم السقف المرْتَجّ بالوحشة، ثُم لعنَ الأوطان التي تتناسل الحروب فيها ويتوارثها الناس جيلاً بعد جيل.
لقد فتح الغيابُ والفقد، فراغاً واسعاً في صدره، فها هو ذا يودع آخر الأصدقاء الذين غادروا جميعاً، إما إلى المنافي أو إلى السجون أو إلى المشانق.
وحين بدأ المساء ينثر العتمة في كل الجهات، حاولت «زهرة» التي انغرس الحزن في قلبها، أن تنفض عن نفسها رذاذ الصدمة، فجعلت تتملّى طيف الغمام الذى كان يصعد ببطءٍ فوق سماء المدينة، ثُم وقفت في بهو الفندق تتنشّق الهواء الطلق ملءَ رئتيها، ثُم أطلقت زفيراً حاراً من صدرها الملتاع وعادت إلى غرفتها ونامت ليلتها تلك، مُسهَدة ومُنهكَة، تجتر تفاصيل أيامها القاسية وأقدارها التي ظلّت تقتلعها من وحلٍ لترمي بها في وحلٍ آخر أشد قسوة.
وخزَتها النبرة اليائسة المُتشائمة، التي صاغ بها «صالح» حديثه الموجع، وإن كانتْ قد أيقنت قبل ذلك أنّ صمتَ أصوات الرصاص وسكونها لم يكُن يعني أن نار الحرب قد خمدت.
نهضت فجرَ اليوم التالي من فراشها مُنكسرة شاحبة، وأخذت تتأمّل ما حاق بها وبأُمنياتها التي صارت تتلاشى كما يذوب الجليد تحت وهج الشمس.
ما أبغض الرحيل وما أقساهُ حين يأتي في غير مواسمه؛ هكذا، فجأة، بلا ميعاد.
استرجعت ما قاله «صالح»، فانتفض قلبها وارتعشت فرائصها.
«كيف يكون الرحيل هو الحل الأمثل وقد جئنا لنوقد الشموع إبتهاجاً بطيّ سيرته إلى الأبد؟»، تساءلت بحزن واستنكار، لكنها عادت لتُقلِّب الفكرة من كل الزوايا، فلم تجد حلاًّ آخر يلبي طموحها وأمنياتها.
هكذا وجدت نفسها مرةً أُخرى تلملم أشلاءها وتيمّم شطر الرحيل.
وقبل أن تُغادر باكيةً، ملأت صدرها المرهق بنسائم الصباح «الكرنيه» المنعشة، ثُم غمست يراعَ الحسرة والأسى في حبرٍ من الدموع لتسجّل في دفتر أحزانها مرثية الوداع الأخير:
«أيها الغافي في حدق العيون وفي مسام الروح نبضاً وارتعاشاً..
ها أنذا أنثر همومك في سماواتي المثخنة بجراح النفي وغصّات الرحيل.
وها هو ذا قلبي النازف حُبّاً يبحث عن أُسطورةٍ تحرره من نار عشقك كما حاول سيزيف أن يتحرر من صخرته العنيدة !
فكيف تُرى ستسوقني الخُطى بعيداً عن ضفافك وأنا التي أستنشقك هواءً نقياً وأقتاتك خبزاً طرياً ؟
كم سألْتُكَ أيها الوطن الحبيب أن تكون ملاذي حين أحتاجك، وكم دعوتك أن تكون قريباً مني كنبضي... كم هرولتْ في دواخلي الأمنيات ؟
فوداعاً أيها الكامن في خلايا الروح، وداعاً أيُها المتغلغل في ثنايا القلب، وليهنأ الذين تملاؤا لدفنك في حاويات قذاراتهم وشيّدوا بيني وبينك جسراً من الألغام.
ليهنأوا بما سرقوا من أحلام».
في طريقها إلى «أسمرة»، غرزت عينيها المتعبتين في المدى الناصع ونظرت بحزنٍ وأسى صوب الأُفق المتكئ على الفضاء الشاحب.
تساقطت الأحداث المؤلمة، كالندف في صحن الذاكرة، فأخذت تندب حظها وترثي أيامها المضرجة بالفزع والحسرة التي كبرت في دواخلها يوماً بعد يوم، وتسلّقت معها جدار العمر الموبوء بالحسرات.
بعثر الحزن في داخلها خيوطه الداكنة كما يُبعثر البحرُ زُرقته وأمواجه النافرة.
نبتت في أعماقها مداميكُ الأسى وذبُلت في عينيها المدينة الساحرة، فغدتْ وردةً بلا أريج.
بهت البريق الذي كان يلتهم العتمة ويجعل ليالي «أسمرة» شفيفاً كصباحات «عونا» الحبيبة.
اكتسى وجه «كمشتات» قناعاً من الحزن الماحق، وكفّ النورسُ الغرّيدُ عن الشَّدْو الجميل !
«هل بُحَّ صوته أم...؟»، تساءلت بأسى وسائق «التاكسي» الأرعن يصرّ على اختصار المسافة بين مطار «أسمرة» ووسط المدينة بسرعةٍ جنونية، كأنه يُلاحق قدَراً مشؤوماً.
لقد جفّت كل الينابيع، وانسحقت تحت أقدام الطُّغاة كلُّ أحلامها النديّة.
• إلى أين يتجه هذا الوطن الملطّخ بالخيبة ؟
رجّت الحيرةُ فيها ثدياً مُتْرَعاً بالدهشة والتساؤلات الحارقة، فبكت حين حلّقت بها الطائرة عالياً في رحلة الوداع الأخير.
وهناك، في الأرض البعيدة، لاذت ب»المحيط لهادئ» نديماً يؤنِس وحشتها، فأخذت تتأمل المَراكب التي تطفو على شواطئه، تشُدّها المراسي الثقيلة، وجعلت تنظر في الأُفق البعيد إلى السُّفُن الراحلة، فتمنّت أن تأخذَها إلى حيث سارَ الموجُ والطوفان بمن رحلوا.
على صفحة ماء المحيط، المُشبّع بالهمس الشفيف، انعكست وجوههم المضيئة، فتراءى لها إخوتها الصغار وهُم يلعبون في بيتهم الفسيح ب»عونا»، بينما لاحت أُمها أمام ناظريها وعلى شفتيها اتسامةٌ ملؤها الحُب والحنان.
حاولت «زهرة» أن تُمسك بخيط الطيف الجميل، لكنه انزلق من بين يديها وتلاشى بين أمواج الخضم الهائل.
عادت إلى واقعها المُزري الكئيب، تقاوم تيارَ حزنٍ كاسحاً وأنصالَ غُربة تسرق كل يوم قطرةً من دمها.
أدمنت الجلوس خلف شاشات الفضائيات وصفحات الإنترنت التي فتحت أمامها منفذاً في جدار الأمل، فصارت تنظر بتفاؤلٍ إلى إمكانية التغيير وإسقاط النظام المستبِدّ، غير عابئة بخربشات «لؤلؤة» التي كانت تصر على أن الدكتاتوريات في إفريقيا هي صمّام الأمان لحرية شعوبها، وأن المُعارضة التي تنتمي «زهرة» إليها والتي تُنادي بالديمقراطية والحرية، ليست البديل الأفضل، مستشهدةً بما حدث لوطنها الذي كان موحداً وقوياً في عهد العسكر، فتلاشى برحيلهم وصار أثراً بعد عين !
انضمّت «زهرة» إلى صفوف المُعارضة، لكنها اصطدمت بمتاريس من الحواجز الثقيلة، فعملت على رأب الصدع بين هؤلاء وأولئك من الذين فشلوا في تخطّي حواجز الماضي ومراراته، لكنها كانت كمن يحرث في البحر !
أحزنها أن تتلاشى ملامحُ الوطن بين مطرقة نظامٍ جائر وسندانِ مُعارضة أكثر هشاشةً من جناحَي ذُبابة، فعادت تُغازل زُرقة المحيط وتتأمل أمواجه النافرة، ثُم نعَتْ حُلمَها الذي عصفتْ به الأقدار:-
«يا وطن الجراح المُرّة
ويا حُزننا الأبدي،
كما غرستَ حُبك فينا
علِّمنا كيف ننسى حُبَّك».
• روائي من ارتيريا - وهذا النص من رواية تصدر قريبا