تايتنكات أفريقية.. معادلة الموت و الحياة

بقلم الأستاذ: محمود أبو بكر المصدر: adn عربي

لم يكن يدر في ذهن الروائي الإريتري ابوبكر كهال، أن روايته، تايتنكات أفريقية ستتحول الى أيقونة تصيغ مخيال القاريء الغربي

معادلة الموت و الحياة

لفهم ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي انفجرت على غفلة من إدراك المجتمع الغربي واضحت ظاهرة يومية تتقاسم يومياته، وتتصدر عناوين صحفه الكبرى.

حيث أن تايتنيكات لم تكن هي الرواية الأولى لكهال الذي نشر قبلها روايتيي ”رائحة السلاح، وبركنتيا، قبل أن تأتي الثالثة لتصنع الحدث، لجهة ارتباطها بقضايا الساعة، وقدرتها على تلمس الوجع الإنساني الذي يقود للحد الذي يصبح فيه احتمال الموت غرقاً يعادل احتمالات العبور نحو الضفة الأخرى من المتوسط، والظفر بحياة جديدة.

هي رواية تتجاوز مفارقات الرحلة، على قوارباً للموت والهلاك الجماعي، لتتلمس الصراعات الداخلية للمسافرين على متنها، حيوات مفعمة بالهواجس، و بحب الحياة - الذي قد يقود احيانا الى تجريب الموت، حتى تستوي المعادلة، ويصبح للوجود قيمة إضافية - صراعات الوطن والمنفي، الهوية والآخر، الحب والكراهية، التشبث بالأرض والتوق للحرية والعيش الكريم، هي صراعات متناسلة، تسكن حيوات تبحر نحو تيمة الحياة والموت بتعادل تام.

ليس هناك ثمة لُعبة مضمونة العواقب، هي محض امتحان يتعادل فيها احتمالي الموت والحياة في مفارقة تفضي كل واحدة الى الآخرى.. أو هو محض تبديل للموت البطيء بموتةٍ باسلة، أو حياة مستحقة.. ثمة مفارقات جمة تجري في عوالم واقعية، يسردها كهال بخيال يمارس تفكيك الذات من الدواخل.. فلكل مبحر قصة مختلفة، ذكريات مثقلة بآلآم الوطن، وتحديات المنفي الرابض على مرمى ضفة من العين.. بين الأزرقين تحمل القوارب ضحاياها.. هم ضحايا في كل الأحوال.. ضحايا الاستقلالات المجهضة المعاني، ضحايا استغلال سماسرة البشر، وضحايا أحلامهم البكر، هل ثمة سرد يحتمل كل هذا الألم ؟

حتما هذا ما فعله كهال حين بدأ في كتابة روايته وهو الشاهد الملك في هكذا سرد مكانا وزماناً.. فهو الآخر في معنى من المعاني ضحية حية تجابه الهلاك بالكتابة، فبعد ربع قرن ونيف من النضال في جبهة التحرير الإريترية، لا يزال يجد نفسه منفياً.. شاهدا على اطلال حلم أُجهض مبكراً، بعد أن استولت جماعة بعينها على حلم الاستقلال وحولته الى ملكٍ خاص، وهو “شاهد ملك” حيث للمكان / المنفى حضوره القوي، (ليبيا) حيث موقع كل الهجرات المتتالية صحراءً ثم بحراً.. وهكذا يكتمل معنى المعايشة الحسية والواقعية للسرد.. السرد الذي يراوح بين قصّ الحكاية وحبك التفاصيل، وبين كشف اختلالات الشعور لكل فرد من الشخوص، كما لو كنا امام مختص نفسي يحاول تفكيك المركب السيكولوجي للضحايا.

ليست الرواية مأساة كاملة، فهناك ثمة احتفاء بالحياة، التوق لضفة الأحلام، الغناء، واستحضار المشاهد، ذكريات الحب الأول، وعود الغد المنذور، مكابدات الظفر بحياة أكثر بهاءً.. وتفاصيل اخرى تزاوج بين اليأس والرجاء.. هكذا يتدفق السرد في رواية ليست كبيرة الحجم لكنها عميقة الأثر.

لذلك استحقت اهتمام الدوائر الأدبية والأكاديمية في الغرب الغارق في دوامة محاولة فهم ما يحدث في هذا الجنوب الذي يلفظ يومياً أبناءه نحو البحر، هكذا تم برمجة الرواية ضمن مقررات الدراسة الأدبية في عدد من الجامعات الأمريكية والأوربية، وترجمتها من العربية الى الإنجليزية / التركية / ومؤخرا للألمانية، كما حققت عددا كبيرا من القراءات النقدية الجادة في عدد من كبريات الصحف العالمية المختصة.

أما كهال فلا يزال يعتقد أن الكتابة هي محاولة جادة لمواجهة الخراب والموت والظلم الذي تتسع رقعته كل يوم.. فلا يلتفت كثيرا لفلاشات الإعلام، ولا تثير الجوائز الأدبية لعابه، فيهرول نحوها كما يفعل بعض الروائيين المولعين بتركيب الجمل الشعرية والخروج بروايات لا تضيف للمكتبة سوى عنوانا جديدا في غياب المعنى.

بالكاد تلحظه يشير الى كتابة نقدية، أو ترجمة جديدة، أو كتاب نقدي جديد حول روايته، دون أن يولي إهتماما كبيراً للحدث، فالذي يشغل باله هو القبض على جمر الكتابة، تشغله الرواية التي لم يكتبها بعد، أو تلك التي يسعى الى تسليمها لناشر جديد، أو مشروع مشاركته في معرض ما للكتاب.. هكذا بتواضع يشير ويمضي في طريق الأذى طريق الكتابة المضنية، المحقونة بعذابات الإنسان على هذه الأرض.

Top
X

Right Click

No Right Click