إريـتـريـا.. التَّحليق بأجنحة مكسورة

بقلم الأستاذة: رانيا مأمون - صحفية وكاتِبة روائية سودانية المصدر: مجلة الدوحة

إريتريا، وطن الشغف والجمال، ذو الطبيعة الخلَّابة، ديارٌ مُبهِجة ودودة إلا أن هذا الوطن صار يكاد يضيق بأبنائه، يحلم معظم

إريـتـريـا التَّحليق بأجنحة مكسورةمَنْ فيه خاصّة الشباب، بالهروب منه.

حملنا حقائبنا، صديقتي وأنا، مع الكثير من الوصايا والمحاذير، أهمّها وأوّلها: احذروا الحديث في السِّياسة ! أثار حفيظتي هذا التحذير، شعرتُ بأنه نابع من حسٍّ أمني متضخّم، إن لم يكن متوهَّماً.

عبرنا الحدود مشياً، من مدينة كَسَلا في شرق السودان إلى أول نقطة عبور في الأراضي الإريترية، توجَّهنا إلى مكتب لاستخراج إذن دخول. في أثناء انتظارنا للانتهاء من الإجراءات تأمّلتُ المكان: معبر متواضع كرصيفه في كسلا، صالة عليها بعض الطاولات والكثير من تصاريح العبور، موظّفون نافذو الصبر، وفي الخارج باحة كبيرة مسوَّرة بالقشّ والحصير، وعريشة من القشّ كذلك، وعدّة حافلات لنقل الركّاب إلى مدينة تسنَّيَّ. لم أشعر بأني في بلدٍ آخر، سحنات الوجوه لم تختلف، وكذلك الأزياء، وحتى اللغة كانت العربية، عدا بعض الكلمات بالتجرينية التي تلتقطها أذني من وقتٍ إلى آخر.

في الطريق إلى مدينة تسنَّيّ رأيتُ حياة البداوة والفقر في القرى التي مررنا بها: بيوت بسيطة وصغيرة، الكثير منها مسوَّرة بالزنك أو القشّ، أطفال، وماعز، ودواب، لقد أنهكت الحروب هذا البلد، وأنهكت إنسانه.

نزلنا في استراحة تفتح على موقف المواصلات، عبارة عن حوش واسع تناثرت فيه بعض الأشجار، وحوى عشرات الأسرَّة، تستلقي فيها عشرات النساء، يتسامرن، وينتظرن حلول اليوم التالي للسفر، كلٌّ إلى وجهتها، ومنذ دخولي، برفقة ميَّاس، صرنا فرجتهن، فقد بدأنْ في متابعة كل تحرّكاتنا، وحديثنا، وكثرة أسئلتنا لعمال المكان، بفضول من يرغب في تمضية الوقت. لم نشأ المبيت في تسنَّيّ، وتأخّر الوقت للعثور على باصٍ يوصلنا إلى مدينة كَرَن التي تبعد مسافة أربع ساعات، فآثرنا أن نستأجر سيارةً خاصّة، كان صاحبها ذا روح مرحة وتعليقات فكاهية، يجيد العربية بطلاقة، ويحفظ الكثير من الأغاني السودانية، ومعجباً كبيراً باللاعب زين الدين زيدان، لدرجة أنه أطلق اسمه كاملاً على ابنه، قال إن المرأة من اللّدونة بحيث يمكنك ثنيها دون أن تنكسر، لذلك لم يتردّد في حشرنا أربعة: (امرأتين، ورجلين)، في مكان مخصّص لثلاثة، واستطاع أن يمتصّ، بجمال روحه، غضبنا منه.

من ضمن حديثه الذي انهال علينا به أنه سعيد جداً لإصابة قدمه إصابةً بليغة في أثناء أدائه الخدمة الإجبارية، مما استلزم أن يعالجها، لعدّة شهور، أطبّاء إيطاليون، إلا أنه يحمد لها أن أصيبت؛ بسببها صار حرَّاً. هذه الكلمات علقت بذهني، وستكون جزءاً من مساءلات رحلتي لإريتريا. كان أوّل شواغلي ودوافع رحلتي الإنسان الإريتري. جمال المكان ميزة إلا أن الإنسان هو من يعطي أيّ مكان روحه، وإحساسه الخاصّ.

الطريق إلى كَرَن عبر بارنتو، وأغُردات، وغيرهما، جبليّ، كمعظم الطرق الثعبانية شاهقة العلو التي تربط بين المدن الإريترية، طريقٌ خطر جدّاً: وادٍ عميق من جهة، ومن الجهة الأخرى جبل عتيد، إلا أنه، رغم خطورته، قد صَفّ به الجَمال، وزانه: الخضرة كسته وطعَّمته، الجِمال ورُعاتها، والماعز الجبلية والقرود التي ما فتئت تنبثق من لا مكان، وتنتشر على مدى مئات الأمتار على حافة الطريق والجبل، تقتل الملل بالفرجة على السيارات العابرة وركّابها.

تتوزّع مقابر الشهداء على أطراف المدن، حيث يتيسّر للعابر رؤيتها، وكأنها يدٌ مصافِحة مرحّبة لدخوله المدينة، أو يدٌ ملوِّحة عند خروجه منها، مقابر لم تهتمّ بديانة الشهيد، احتضنت المسلمين والمسيحيين معاً؛ الجميع في التضحية سواء. لمستُ التقدير الكبير الذي يوليه الإريتريون لشهداء الثورة التي انطلقت في سبمتبر 1961، لتحقيق الاستقلال.

كَرَن، المدينة الجميلة، الهادئة والمرتّبة، القابعة في حضن الهضاب، والتي تشكِّل قومية «البلين» معظم قاطنيها، ذات المباني المنزلية المنخفضة نسبياً، المُعتنى بها، والشوارع المسفلتة النظيفة، وافرة الخضرة، اختصَّتها الشمسُ بأشعةٍ من نوعٍ خاصّ، تناغم مع طلاء المدينة الأبيض في معظمه، بَدت كَرَن كأنها قطعة من غيمة شفيفة وناعمة.

كان علينا، كي نحجز غرفاً في الفندق، أن نذهب إلى قسم الشرطة ونسجِّل أنفسنا هناك أولاً! استغربنا جدّاً هذا الإجراء، لكن، لا بُدّ مما ليس منه بُدّ، وفكرّنا: هذه من تمظهرات الدولة البوليسية.

توجَّهنا في الصباح إلى (المونْفَار) موقف المواصلات، حيث الباصَّات المتوجِّهة إلى أسمرا، وغيرها من المدن. في باحةٍ واسعة تتراصّ على جانبيها الدكاكين لبيع المأكولات الخفيفة، والماء، والمياه الغازية، وجدنا (الرِّيَقا)، أو الصَّف، لنحجز دوراً لكل منا، من أجل الصعود إلى الباص الحكومي منخفض التكلفة، كان الصَّف، عبارة عن حجارة، وقناني مياه فارغة، وقناني مياه غازية، وأحذية قديمة، وحقائب، وعلب سجائر، وأكياس بلاسيتكية عليها حجارة، أيّ شيء متيِّسر تجده تحتك يمكنك وضعه بدلاً عنك. يطول الصَّف، يستقيم حيناً، وحيناً يتعرّج، لكن، رغم هذه الفوضى فكل واحد يحفظ دوره، ولا أعرف كيف يتذكّر أحدهم ما وضعه ضمن جملة هذه الأشياء المتشابهة؛ قد تجد ثلاث قناني مياه غازيّة باللون نفسه، بعضها وراء بعض: مَنْ الأوّل، ومَنْ التالي ؟!

لكن المشكلة لم تكن في الصَّف إنما في ذاك الرجل الغريب أو حاكم (المونفار) كما أطلقنا عليه؛ يصفّ الناس بمشيئته ويسفِّرهم كذلك؛ فهو يصرخ في الكلّ، ينادي على من يريد، ويختار منهم، ثم يجعلهم يصعدون إلى الباص، ويملأ بهم الباص أو الحافلة، ثم يغيِّر رأيه فينزلهم جميعاً، ويصفَّهم من جديد، لكنه- فجأةً- يعلن أنه لن يصعد أحد، مكرِّراً هذا الفعل أكثر من مرّة. كان يتحكَّم، فعلياً، في الجميع، ينقلهم من مكانٍ إلى آخر، والمسافرون يتبعونه، ويحدثِّهم، بل يصرخ فيهم، ويحدِّثونه، ونحن لا نفهم ما الذي يقولونه، أو ما الذي يجري !

كان يحمل قلماً يُعلِّم به على أيديهم، ويأمرهم أن يبقوا في مكانٍ معيَّن. هذا الرجل قصير القامة، أشعث الشعر، حادّ الملامح، قلق الحركة، ذو الخطوات السريعة والمبعثرة، ظلَّ يتصرَّف بتسلُّط مبالغ فيه، وكأنه يعكس قهره عليهم.

كنا بين ذهاب ومجيء، مجيء وذهاب داخل الموقف، تحت شمس حارّة، وظلٍّ شحيح، ووقت يضيع منا، بقينا قرابة الساعتين نستدعي أملاً منعدماً، لكن، دون جدوى. في النهاية، لعنَّا الباصات الحكومية والموظَّف المجنون، وقرّرنا أن نستأجر عربة خاصّة تقلّنا إلى أسمرا.

أسمرا مدينة ساحرة، جميلة جمالاً أخّاذاً، تنهض على ارتفاع 2300 قدم فوق سطح البحر، تتفرَّد بطرازها المعماري الأوروبي، ببصماته الإيطالية، ومزاجها الإفريقي وملامحها الإريترية السَّمحة، ترفل في زيٍّ أوروبي وآخر شعبي تقليدي، ينتصر للأبيض.

ليس من اليسير ألا يقع المرءُ في حبّ أسمرا، هذه المدينة ذات الصَّباحات النديَّة المشبَّعة برائحة البُّن وحنان الأمَّهات الطَّيّبات، مدينة الأذان والأجراس، المساجد والكنائس، الصَّمود والتَّحديات، الصَّبر والقهر، الفقر والغنى. أسمرا الشاهدة الكتوم على قصص الحبّ المبارِكة، للعشاق، والغامزة بدلال.

وسط الوجوه السُّمر، لم نشعر بغربة، اختلف المكان ومعالمه إلا أن الودُّ الطافح من العيون أشعرنا بالترحاب؛ الشعب الإريتري شعبٌ ودود، كريم، راقٍ ومضياف. أصرَّ سامسُنج، أو سمير، الذي التقانا في أحد المطاعم، أن نشاركه طعامه، ولم يبخل علينا بالكثير من تفاصيل حياته، إنه، تماماً، كهذه المدينة، جامع للاختلاف، جاء أجداده من مكة قبل 700 عام، جاؤوا مسلمين، وجزء من الأحفاد ظلَّ كذلك، أما سامسُنج، أو سمير الإريتري العربي، جامع الاسمين، فهو مسلم ومسيحي في الوقت ذاته، مما حفَّز الأسئلة داخل كلّ منا.

من فرائض زيارة أسمرا التجوّل، ولو مرَّة واحدة، في شارع كمشتاتو أو شارع الحريَّة، إنه قلب المدينة النَّابض، تحفّ به أشجار النَّخيل، وتنتشر على جانبيه المحال التجارية، المباني الحكومية، المطاعم والمقاهي، تطلّ عليه العديد من الفنادق، وتحيط به، تسهيلاً للسيّاح، بما أن الشارع منطقة جذب قوية.

في هذا الشارع كاتدرائية أسمرا أو القدّيس جوزيف (1922): أثر معماري خالد وبديع، متمهِّلة في الشارع بمبانيها الملحقة، في مدخلها منصَّة واسعة ذات درجات أرتقيها لدخول الكاتدرائية، أو أنزل عبرها للرَّصيف، لكنها لا تستخدم للارتقاء أو الهبوط فقط. الجلوس على إحدى درجاتها متعةٌ وأمل، حينها ألاحق، بصرياً، السيارات، وأتفرَّج على المباني المحيطة واللافتات المكتوبة بالتجرينية، أو العربية، أو الإنجليزية، قد يكون بيدي قرطاس فول محمّص طازج، أو قارورة ماء، أحتسي بمهل، وأنا أتابع المارَّة الذين يغصّ بهم الشارع، في غدوّهم وفي رواحهم، متبايني الملابس، من تقليدي وعصري، ومختلفي الأعمار، وإن كان أغلبهم من الشباب.

تلك المنصَّة مكان انتظار لصديق أو صديقة أو حبيب، هي مكانٌ لإنعاش الرئة والوجدان، مكانٌ للـتأمُّل والسَّرَحان، أراقب الإريتريّين في انتظارهم الصبور لمجيء المواصلات، حيث يمتلئ الباص حتى يفيض. أتابع خطوات امرأة متقدِّمة في السنّ، ترتدي زيَّا تقليدياً، من فستان أبيض واسع، و(تنزلا) طرحة بيضاء على حوافّها أشرطة ملوّنة، يغلب فيها الأحمر، تحمل حاجياتها لتفرشها أمامها، وما هي إلا دقائق حتى تكون قد جلستْ على حجرٍ صغير، وفرشتْ بضاعتها أمامها، من سجائر ولبان ومناديل ورقية ومكسّرات. وهناك، بالقرب منها، صبيةٌ يافعة، مُدَّ بيننا حبلٌ من الودِّ الصّامت، صرنا نتبادل الابتسامات كلّما لمحتها في مكانها، قرب مقهى ديانا، فارشةً، على الأرض، نظارات شمسية مختلفة الألوان والأشكال.

ليس ببعيد من شارع كمشتاتو والكاتدارئية، ينتصب مسجد الخلفاء الراشدين الذي يسع عشرة آلاف مصلٍّ، شُيِّد عام 1900، وجُدِّد في 1936، ويُعد من أبرز معالم أسمرا؛ لحُسن بنائه وروعة تصميمه ومكانته الدينية.

في شارع كمشتاتو تغصُّ المقاهي بالروّاد، خاصّة أيام العطلات، ويكون من العسير العثور على طاولة، أو حتى على مقعد من المقاعد والطاولات المتراصَّة في الهواء الطلق أو داخل المقهى، وإن وجدتَ فتلك مزيةٌ حسنة، وأنت محاط بالأصوات والضحكات والروائح، وتشعر بالغبطة إن طرقت أذنكَ كلمةٌ بالتجرينية تعرف معناها، وتزداد الألفة.

على امتداد الشارع، في الجهة المقابلة، من الأشياء التي أثارت استغرابي، ألواح إعلانات على الحائط، ليس للترويج عن الحفلات العامّة وعروض السينما والمعارض الفنية فحسب، بل تلصق عليها- أيضاً- إعلانات المناسبات الاجتماعية، من زواج ووفاة، وقد يصاحب الإعلان عن الوفاة صورة المتوفّى أو المتوفّاه، وربّما يعود السبب لصعوبة الاتّصال بين الناس؛ تعمل هناك شركة اتّصال واحدة فقط، وهي حكومية، كما توجد ضوابط لامتلاك بطاقة هاتف متحرِّك، غير مسموح بهذا إلا لفئات معيَّنة من الشعب !.

في أثناء جلوسي أمام الكاتدرائية في أحد الأيام، رأيتُ حسن، ينزل من دراجته الهوائية ويتجِّه نحوي، خطر لي أن الإريتريّين يحبّون كثيراً قيادة الدرّاجات الهوائية. حسن ذو الأربعين سنة، الصَّديق الإريتري الذي جمع كلَّ أحلامه وعلَّقها على مشجب أملٍ واحد: أن يقود شاحنة في طريق الخرطوم- بورتسودان، بعد خروجه من إريتريا. حسن يحبُّ القيادة، ومعظم حديثه عنها وعن السيارات، وذكرياته هي عندما كان سائق شاحنة في السودان وبين إثيوبيا وإريتريا، يحفظ طول المسافات بين المدن الإريترية كلها، بعدد الكليومترات. ينتظر اليوم الذي يتمَّكن فيه من مغادرة البلاد والوصول إلى الخرطوم، دون أن يقع تحت أيدي عصابات تجارة البشر.

يعاني الشاب الإريتري من وضع قاسٍ ومستحيل، يتسبّب في المآسي الإنسانية، في البحار والصحارى والحدود التي يعيشها اللاجئون والمهاجرون الإريتريّون. لا يستطيع الشابّ أو الشابّة الخروج، قانوناً، من البلاد ما لم يُسرَّح أو يكمل الخدمة الإجبارية مفتوحة الأجل؛ قد يقضي الشابّ أو الشابّة، أكثر من نصف عمره في تأدية الخدمة (عسكرياً أو مدنياً)، تمتدّ لسنوات، تطول ولا تقصر، مع العلم أن الفترة للخدمة الإجبارية، في معظم الدول، تتراوح بين 12–36 شهراً كحدٍّ أقصى.

سألتُ فيفن (الفتاة اللطيفة) والتي ستدعونا إلى منزلها، لاحقاً، عن الفترة التي قضتها في الخدمة حتى الآن. قالت، بعد أن تلفَّتتْ يمنةً ويسرى: 3 سنوات. ومتى تُسرَّحين منها؟ ردَّتْ بأسى: لا أدري.. لا أحد يدري.

بعدها تلفَّتُ أنا أيضاً، وتلفَّتتْ ميَّاس، وكان حسن دائم التلفُّت؛ الجميع هنا يتلَّفتون عند التَّطرق لأيِّ شأنٍ حكومي، مهما صَغُر، هل يغيب الأمان داخل أوطاننا إلى هذه الدرجة؟!

في بيتها البسيط الحميم، التقينا بوالدتها أخبريت، التي كانت إحدى المناضلات في ثورة التحرير هي وزوجها، تجمعهما صورة وهما جالسان أعلى هضبة، مبتسمان ببريق وأمل، يافعان وجميلان، بقربهما السلاح. حدَّثتنا عن سنوات النضال في أثناء صُنع القهوة، داخل الغرفة، بتأنٍّ وبطقوسٍ خاصة ومحبّة، واحتسيناها، كذلك، بالمحبة نفسها، ونحن نقول بعد كل فنجان: (طُعُم بُنَّه). تناولنا بعدها، في الغرفة الوحيدة ذاتها، طعاماً شهيّاً للغاية، يسمَّى (حِلْبَتْ)، مكوَّناً من الإنجيرا وخليط من الزبادي وبعض المكوّنات المتبّلة، ويخنة بكثير من التوابل الحارَّة.

في معرض دائم في أسمرا التقينا بفنّانَيْن شابَّيْن: (سماندري يوسف، وآبيل غبْرايّ)، كانا يعرضان لوحاتهما، لوحات اتّخذت من حياة الإنسان الإريتري موضوعاً لها. لوحات سماندري اشتغلت على القوميات الإريترية التِّسع، بورتريهات، أو اقتناص لحظات حياتية، من زارعة أو رعي، في حين أن لوحات آبيل ركّزت على الأحاسيس والانفعالات، كبورتريه لرجلٍ يتطّلع بعيداً، مزموم الشفتين وواضح العزم، أو فتاة تلمّ ثوبها على جسدها، وعلى وجهها ألمٌ جليّ، وكأنها تحتمي بالثوب لوطأة الألم الشديدة عليها.

رغم جماليَّة اللوحات، إلا أن أكثر ما أثَّر في نفسي تلك اللوحة التي تُظهر جسدَيْن متعانقَيْن، جسدَيْن حبيبين، صديقَيْن، أخوَيْن، أختَيْن، أو أمّ وهي تحضن ابنها إثر عودته ونجاته من الغرق أو الخطف أو الموت. أعطى آبـيـل تلك اللوحـــة اسـم: «REUNION».

قال: إننا نعاني من التَّشتُت والفراق بفعل الهروب المستمرّ؛ لذا رسمتُ هذه اللوحة.

صاغ آبيل أشواق الإريتريين وأحلامهم بلقاء الغائبين، هؤلاء الذين يذهبون بعيداً، وفرص نجاتهم لا تُذَكر أمام حتمية هلاكهم، إلا أنهم رغم ذلك يذهبون! يهرب الشباب الإريتري إلى الموت من شيءٍ أقسى منه: حياة بائسة.

دخلتْ ثلاث نساء: اثنتان تجاوزتا الخمسين من العمر، ترتديان زيَّا تقليدياً، من فستان أبيض وطرحة كبيرة بيضاء كذلك، والثالثة صبيّة في العشرين، ترتدي بنطالاً أسود وبلوزة زرقاء. دخلْنَ ذاك النادي اللَّيلي باستحياء وبخطوات متردِّدة، إحدى المرأتين تغطّي جزءاً من وجهها بطرحتها، والثانية تحمل صورة شاب في بداية العشرينيات، تحت الصورة عبارات بالتجرينية، والصّبية تحمل كيساً مفتوحاً، ترقد في داخله بعض النَّكْفَات.

بعد دخولهن ببرهة، توقَّفتْ الموسيقى، وقيل كلام عبر مكبِّر الصوت، ثم جاءت النادلة لتساعدهن في الحديث مع الناس حول الطاولات، رغم أن الحدث لا يحتاج إلى حديث.

كانت وجوه النساء فائضة بالحزن والمسكنة والحياء، ونظراتهن حيرى. كنْ يتحرَّكن، ثلاثتهن، ببطء وصمت، من طاولة إلى أخرى، لجمع التبرُّعات. يحملْنَ صورة ابن إحداهن وشقيق الفتاة المختطَف، طلب خاطفوه فديةً تعجز الأسرة والأهل والقرية أجمعها عن دفعها: آلاف الدولارات.

لم أجرؤ على النَّظر في عين الأمّ عندما وصلنَ طاولاتنا، من يجرؤ على النَّظر في عين أمٍّ مكلومة؟! شعرتُ بالخجل، وبالعجز التَّام، داهمني الحزن، وارتعشتُ من الألم، وأنا أشعر بشفرةٍ متحمّسة تجرِّح قلبي، ويد حاقدة تحشو (شطّةً) في تلك الجروح، ثم تبتسم.

من حرقتي رغبتُ في البكاء، وهذا ما فعله حسن في «مصوَّع»، بعد مشاهدتنا لفيلم وثائقي عن مأساة اللاجئين الإريتريّين؛ فهم إن نجحوا في عبور الحدود الإريترية تنتظرهم العصابات للخطف، أو يتمّ ترحيلهم، ومن ثمَّ تُطلَب الفدية، أو البيع أو سرقة الأعضاء، ويتركون لينزفوا حتى الموت في صحراء، أو تُطلَق عليهم النار، أو تبتلعهم الحيتان في البحار.

قال حسن في أثناء بكائه: إنه لا يريد أن تُسرَق كليته، أو أن يموت بهذه الطريقة، لكنه، رغم ذلك، يرغب في الهروب.

في أثناء تجوالنا في «مصوّع»، شعرتُ بأنني أتجوّل في كتاب تاريخ، بين تلك الصفحات الصفراء. ترك الزمن آثار مشيه هناك: في المباني، وفي البيوت، خاصّةً في «مصوَّع» القديمة، وفي الطرقات، وكذا فعلتِ الحرب. تبدّت آثار ذلك في مشاهداتي وإحساسي بالمدينة ومعرفتي الضئيلة بها، رغم أنها ظلَّت في ذاكرتي، منذ الدراسة، بأنها المدينة التي فتحت ذراعيها للإسلام والمهاجرين بدينهم طالبين أمنها.

في مصوَّع القديمة مسجد الصحابة، مسجد صغير، مطليّ بالأبيض، ذو نوافذ وبوّابة خشبية صغيرة، جزء من فنائه مسوَّر بالزنك، ويتكوّن من مبنيَيْن، تعلو أحدهما المئذنة، وبينهما باحة، ظننته، في بادئ الأمر، المسجد الذي شُيِّد إثر هجرة بعض الصحابة إلى «مصوَّع»، لكنني لستُ متيقنة الآن.

فيها كذلك بيوت من الحجر متداعية، بأبوابٍ خشبية متهالكة أو زنك صدئ، خِلتُ عند رؤيتها أنها بيوت مهجورة، لكنني رأيتُ طفلاً، عمره حوالي 3 سنوات، يقف على أحد أبوابها.

أما من الجانب الآخر للمدينة مع مدخلها، حديث الطراز، فتقف بشموخ، على قاعدة رخامية داكنة، ثلاثُ دبّابات انتزعها الثوار، منها أوَّل دبابة تَمّ الاستيلاء عليها في أغسطس/آب 1978، في منطقة عدي مزمات، جنوب أسمرا.

في الطريق إلى «مصوَّع» تتمظهر قدرة الإرادة البشرية في تطويع الطبيعة، طريقٌ يشقُّ الجبال، ويتموّج خلالها كزخرفٍ على حوافّ ثوب عروس متمهِّلة الخطو، طريقٌ يجعلك تقترب من السماء، وتحوم داخل السحب، خالعاً عنك همَّك، غائصاً في متعة المشاهدة. مشاهدة الجبال والأشجار والقرى المتناثرة من ذاك العلّو إلى سقوفها، حياةٌ بكر، متماهية مع الطبيعة، منسجمة ومتعايشة. رأينا الرعاة وراء قطعانهم، النِّساء وهنَّ يحملن الحطب على رؤوسهن، ويفكرَنْ بما يطبخنه اليوم لأطفالهن، والأطفال يقفون، بفضول، لمشاهدة السيارات، يبتسمون ملوِّحين، ويرتدون ذاك الحذاء البلاستيكي المسمَّى (الشِّدَّة) الذي شاهدنا مجسمّاً له في ساحة ميدان الشِّدَّة في أسمرا، تخليداً له؛ كون الثوار كانوا يرتدونه سنوات الثورة (1961–1991).

جمال الطريق وخضرته فتَّحا شهيَّة الحلم في داخلنا، تبع كلٌّ منا أحلامه، دون خشية المطر الهطل، أو الضباب الذي غلَّف الرؤية، وضاعف خطورة الطريق بانحناءاته الكثيرة الضيِّقة، وبمجال رؤية أقلّ من متر، إلا أن السيارة استمرّت في سيرها ومخاطرتها، ودون أن نعبأ باحتمالية الموتِ الوشيك استمرَّ كلٌّ منا في أحلامه، وأمانيه، وذكرياته، وانسياب أحاسيسه، وتفكيره فيمن يحبّ، وفي القلبِ قبع حزنٌ دفين على إنسانِ بلادٍ اسمها إريتريا، بدأ رحلته إليها بفضول واهتمام، وأنهاها بحبّ. إن القلب الذي ذهب ليس هو ذاته الذي عاد.

Top
X

Right Click

No Right Click