رغوة سوداء للروائي الإريتري حجي جابر: تعرية الزيف الإسرائيلي وفضح أسطورة يهود الفلاشا

بقلم الأستاذ: سليمان حاج إبراهيم - كاتب وإعلامي جزائري المصدر: القدس العربي

يواصل الروائي الإرتيري حجي جابر الغوص في ثيمته المفضلة، عوالم المهمشين في القرن الإفريقي، وينقل قارئه هذه المرة من

أسمرة، نحو أديس أبابا، عابرا به كهوفا وأودية حبلى بالقصص، ليطير به نحو فلسطين المحتلة ويتوه معه في أزقة وحارات مدينة القدس.

رواية رغوة سوداءالرواية الصادرة عن دار تنوير في 256 صفحة من القطع المتوسط تمزج بين الأدب، والسرد الممتع، والعمل التوثيقي السلس، تضمنتها فصول عدة ثرية بحقائق وأسانيد، تدحض أسطورة تباهت بها دولة الاحتلال، عن استعادتها المزعومة ليهود الفلاشا، ليقف القارئ المحصن بعقله، أمام عري الحكاية المهلهلة، ويكتشف زيف حقيقة الكيان الذي يدعي قيما ليست أصيلة فيه. يشرّح مؤلف «سمراويت» بدقة، الخلفية التي دفعت مواطنين إثيوبيين وإريتريين، وحتى سودانيين، وعرب، للهجرة إلى إسرائيل، عبر حكاية البؤس الذي يدفع الشباب في البلدان الفقيرة، إلى بذل كل شيء في سبيل الوصول إلى مكان يعتقدون أنه يؤمن لهم فرصة أفضل في الحياة.

داوود، ديفيد، داويت، ثلاثة أسماء، وثلاث شخصيات، تنتقل بين ثلاث دول، وعدد من الأزمنة المتقاربة والمتباعدة في آن، يخترق بها عوالم كيان الاحتلال الإسرائيلي، ويلامس حقائق عن صراع سكان الأرض الفلسطينيين مع الوافدين الغزاة.
يتنبه القارئ، عبر فصول الرواية التي تنتقل بين الماضي والحاضر، إلى ثغرات الادعاءات الإسرائيلية، ليجد نفسه يفكك تلقائيا، عددا من المعطيات، تقوده إلى اكتشاف الأوهام التي تحوم حول رواية لا تزال عصية على التصديق، على الرغم من آلة الدعاية التي تحاول فرضها بالقفز على الحقائق الثابتة.

يمسك حجي جابر بإتقان شديد بحبكة قصته، مستعرضا مسارات الشباب المستعدين بسبب ظروفهم الصعبة، وبسبب الفاقة، للقيام بأي شيء، إلى حد ركوب قطار المخاطر، بأمل الخروج من نفق حياتهم. شباب يمضون في مسارات ومتاهات الكذب والتدليس، واختراع حياة غير تلك التي عاشوها، من أجل هدف واحد يسكنهم وهو الهروب من ماضيهم وحاضرهم، بأمل في حياة أفضل.

صاحب «لعبة المغزل» يبرع في روايته الأخيرة في غزل خيوط حكاية بطله داوود الذي لم يكن يهوديا، فيخترع لنفسه شخصية جديدة، مغترا باسمه وتاريخه، ويبرر في وعيه خططه، في سبيل حلم يراوده، لكنه بدون أن يقر تتملكه حالة انفصام تجعله يحول المستحيل للممكن. يجد داويت قبل أن يصبح ديفيد، نفسه محشورا في جوف طائرة تقله مع يهود الفلاشا، عدد معتبر منهم لا يمتون للديانة بارتباط، يجمعهم حلم الوصول إلى أرض احتلت، وشُغرت بأناس من كل حدب وصوب. حجي جابر يمسك خيوط اللعبة ويمضي في رسم مسار شخصياته بثقة وروية، ويستعرض مع حكايات بطله تفاصيل الحياة في دولة إفريقية لا تزال حتى الآن مجهولة للقارئ العربي، باستثناءات، لنخبة بدأت تصلها إصدارات تنقلها إلى أحياء وقرى تتشابه تفاصيلها مع عدة دول في المنطقة، تعاني شعوبها التهميش والحرمان نتيجة تراكمات سياسات نخب عاثت فسادا في بلدانها. داويت يخبر من يلتقيه بحكاياته، ويستمتع باختلاق تفاصيل من وحي خياله يسعى من خلالها لعيش حياة ليست له، وتتلاشى الحدود والتفاصيل بين الحقيقي والوهمي لدرجة أنه هو نفسه لم يعد يعرف من يكون ولا من كان.

في أحد الفصول نقتبس: «خطر له ان يحكي لصاحبه قصة عائشة، غير انه احجم، هنا ادرك انها تختبئ في أعمق نقطة لديه، فلو تم تقشيره طبقة طبقة، يتّم الوصول اليها، ومع هذا لم يكن على يقين ما اذا كان يخفيها عن آخرين، او عن نفسه». القارئ يقف في رغوة سوداء، كيف أن داويت يشعر بالورطة وهو يرى حكايته ترتد عليه باعباء لا يقوى عليها، ويحاول التمّلص من ثقله، غير أنه يقع في حصارها، فلم يجد مهرًبا منها. فصول الرواية كانت متوازنة في استعراض مسارات أبطالها، والانتقال بين الراوي العليم، والحوار المباشر بين شخوص تتشابه ظروفها وتتماثل مآلاتها، وتتشابك تفاصيل أيامها، وتتحد في غوصها في عوالم البؤس والتشرد بين مناطق عدة. الأيام الأولى للشاب الإرتيري في فلسطين المحتلة، لم تكن ذلك الحلم الذي سيطر عليه قبل زمن الوصول، وتراوده في لاوعيه صراعات عن الثمن الذي دفعه من أجل لحظة لم تحقق له مراده. يروي كيف أنه سبب الألم لسيدة ساعدته بإخلاص بدون أن تدرك أنه يضحك عليها بكذبة، وسلبها مالها، واستأثر باهتمامها بغشه لأجل الحصول على مقابل تسجيله مع أعداد اليهود المغادرين من إثيوبيا نحو الأرض المحتلة.

يافا التي تحولت إلى تل أبيب، كانت المحطة الأولى في رحلة الشاب إلى فلسطين المحتلة، وشكّلت أولى الصدمات، وهناك تبدأ معاناة جديدة يكتشفها في المهاجرين سمر البشرة الذين سبقوه إلى هناك. يدخلنا حجي في تفاصيل حياتهم وبؤسهم ومعاناتهم، ثم في حياة وبؤس الذين هاجروا إلى أرض الميعاد مع حلم أنها ستوفر لهم حياة كريمة، لكن هذا الوهم يتبدد، ولم ينقذه من حالة الخوف التي يعيشها على حياته، ولا من التمزقات التي يعانيها سواء بسبب لون بشرته أو بسبب كونه مهاجرا.

مرافقته للسوداني الهارب من دارفور وحلم الهجرة إلى دولة أوروبية، مرورا بالقاهرة، قبل أن يجد نفسه في تل أبيب يطارد حلما، يفتح عيني داويت على الواقع الصعب والمدمر للحالمين بتلك الأرض. يكتشف أن إسرائيل لا تختلف في تفاصيلها عن أي دولة من المنطقة، بما تتضمنه من طبقية وعنصرية يحملها سكانها الوافدون في لاشعورهم بمشاهدته للجندي الإثيوبي وهو محط استهجان زملائه البيض القادمين من دول أوروبا.

الرواية ثرية بوصف مستفيض عن معالم القدس المحتلة، ونشم مع رحلة داويت رائحة المكان العتيق، ويقودنا حجي جابر في زيارة افتراضية للمسجد الأقصى، ويستعرض لنا تفاصيل عن كنيسة القيامة.

تتضمن «رغوة سوداء» تفاصيل عن يوميات الأفارقة الفلسطينيين، المرابطين، الرابضين على حصون المسجد الحرام، ونكتشف حقيقة الظلم الذي يتعرضون له، وعيشهم على الهامش، ولهفتهم عن الذود عن المقدسات، على الرغم من الخذلان الذي يواجهونه. «رغوة سوداء» تغوص في تجليات النفس البشرية بلقاء بطلها باحثة نفسانية تعد دراسة عن اللاجئين الأفارقة وظروف عيشهم في إسرائيل. يباغت داويت بسؤال سارة عن أي أسمائه يفضل أن تناديه بعدما فضل أن يكون نفسه نموذجا لبحثها ويمنحها فرصة الغوص في عالمهم. أعاده سؤالها، لواقعه، وحار، هل يقول لها أنه داوود مع كل ما يحمله الاسم الهرم من هزائم وخسارات، أم يختار ديفيد وهو أصغر سنا، بدون أن تقل تجاربه المريرة، أم تراه يستقر على داويت الرضيع، وهو لا يعرف على وجه الدقة إن كان يحمل فرقا عن سابقيه؟ توصل إلى قناعة أنه لا يمكن أن يخلع عن الإسم حمولاته، كل واحد منه كان ثقيلا يجره خلفه كخزانة من الذكريات لم يفتها كرب إلا واحتفظت به.

يعرفنا جابر الذي حصلت روايته «سمراويت» على جائزة الشارقة للإبداع العربي 2012، عبر إصداره الأخير، على عالم نجهله، يغوص في تفاصيله، إلى عمق أحلام وآمال «داوود» ونظرته إلى الحياة والحب، والرغبة الشديدة في التخلص من حياة بائسة، إنها رواية الأحلام المجهضة، على الرغم من كل التضحيات التي يبذلها داويت، حين راح يحلم بعالم أفضل.

أرض الأحلام المزعومة تغتال كل الأحلام، بسبب زيف ما تدعيه سلطاتها من إرساء لدعائم حكم ديقمراطي هو مجرد أكذوبة تروج للخارج، والواقع يكشف غير ذلك.

مصير داويت الذي انتهى برصاصة غادرت من جندي لم يتورع في تصويبها نحو جسده المنهك في رحلة مطاردة لمقاوم فلسطيني يتحد مع سكان الأرض الأصليين ويطفو جسده الأسود مثل الرغوة نحو الأعلى وهو يسلم روحه في الأخير.

Top
X

Right Click

No Right Click