ﺭﻭﺍﻳﺔ ﺍﺭﺗﺮﻳﺔ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ ﺍﻻﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ: من أسمرة إلى يارا - الجزء الخامس
تأليف الأستاذ: إبراهيم حاج ترجمة الأستاذ السفير الكاتب: أحمد طاهر بادوري
مالبثن الأم وابنتها دهب في المخبز لحظات، حتى داهمت عربة الشرطة، مريم ونادية، وهن وسط ساحة السوق في انتظار عودة
والدتهن واختهن من المخبز.
أن يقال أنهن اصبن بالهلع هو في الواقع تبسيط وتهوين لحالهن في تلك اللحظة العصيبة. ذلك لأنهن لم يمررن في حياتهن بمواقف مماثلة من قبل، وعليه لم يكونا مهيئتان للحظة مفظعة كتلك.
"يا بنات.. هوي، ماذا تفعلن هناك ؟" صرخ الرجل الذي كان خلف المقود، مطلا برأسه من نافذة العربة وبنبرة كان يفوح منها التهديد. "هل لديكن بطاقة شخصية ؟"
المتعارف، انه في كسلا لايتم إيقاف الشخص ثم الطلب منه إبراز البطاقة من قبل رجال الأمن أو الشرطة إلا إذا كانت تحوم حوله الشبهة ربما أنه لاجئا جديدا أو أنه مقيم في المدينة بطريقة غير شرعية.
ورغم ضعف لغتهن العربية لم يكن لدى مريم وشقيقتها نادية أدنى شك حول ماطلبه منهن رجل الشرطة المرعب.
"نحن سودانيات" ردت مريم بتردد، وبنبرة تفتقد للثقة. في الواقع لم يساور مريم ادنى شك أن إجابتها تلك لن تقنع رجلي الشرطة إطلاقا، فقد ايقنت ذلك لحظة مغادرة تلك الكلمات شفاهها. ورغم ذلك رددتها على أية حال، لعل وعسى، وعملا بالنصائح التي لقنها إياهن رجل التهريب لحظة عبورهن إلى الحدود السودانية.
فجأة ودون مقدمات قد وجدن مريم واختها نادية أنفسهن في وضع لا يحسدن عليه. فوضعهن في تلك اللحظة كان كالكتاب المفتوح. فلهجتهن السودانية الركيكة كانت كفيلة بفضح امرهن لكل عابر سبيل فضولي ناهيك عن رجل الشرطة المتمرس والملم بخبايا وحيل ومغامرات اللاجئين الإرتريين الذين كانوا يتدفقون الى كسلا عبر الحدود.
اما في حالة هاتين الفتاتين فنبرة الخوف والتردد التي صاحبت إجابة مريم، وكذلك الحقيبة التي ليس لها مثيل في أسواق كسلا كانا يوحيان أنهن قد يكونان من أي جنسية في العالم إلا السودان.
رجلي الشرطة اللذان كانا يستقلان عربة الشرطة، متنكرين في زي مدني، وكلاهما على مايبدو في منتصف الثلاثينيات من العمر، لم يشكا بأن الفتاتين اللتين امامهما وبحوزتهن حقيبة مهترئة والواقفتان وحدهن في ساحة السوق الخالية من البشر عند الصباح الباكر لابد أنهن لاجئات جدد وصلن لتوهن من إرتريا.
وكان ذلك سببا كافيا للإقتراب منهن. كان اللاجئون المغلوبين على أمرهم يجدون أنفسهم لقمة صائقة لبعض أصحاب النفوس الضعيفة والفاسدين من رجال الشرطة.
"أحقا ما تقولينه؟ ايعقل أن بنات سودانيات وديعات مثلكن يخرجن لساحة السوق في هذا الوقت المبكر من الصباح ويحملن شنطة ملابس غريبة؟" قالها الرجل الذي كان جالسا في المقعد الأمامي بجوار السائق، قالها بنبرة تتراوح ما بين السخرية والتعالي.
ثم تدخل السائق فقال "نحن لسنا بهذه الدرجة من الغباء، نحن نعرف هذه الأشكال. نعرف المشردين من أمثالكن، أولئك اللاجئين الذين لا موطن لهم، يأتون إلينا ليدنسوا قيمنا بسلوكهم المشينة" كاشفا بذلك نواياه المعادية وغير الصحية نحو اللاجئين.
"الآن ليس لدينا خيار غير أن نأخذكن الى مركز التوقيف حتى موعد ترحيلكن إلى حيث اتيتن منه. أسرعن الآن! أحملن حقيبتكن وأركبن في الخلف! ولاتضيعن وقتنا !"
سرعان ما أدركن الفتاتان أنه لا طائل من محاججة رجلي الرشطة الذين بديا وكأن ليس لهم الإستعداد لسماع توسلاتهن أو محاولة فهم مشكلتهن.
فقد ترجين الرجلين أن يمنحهن إياهن بضع دقائق لحين عودة أمهن وأختهن الأصغر من المخبز أو كخيار آخر أن يمروا بهن للمخبز عبر الشارع، قبل أن يأخذونهن إلى مركز البوليس.
"رجاءا أعطونا دقائق قليلة، أو خذونا لذلك المخبز"، قالت مريم متوسلة ومخاطبة السائق الذي بدا وكأنه صاحب الكلمة الأخيرة، بإعتبار أنه كان خلف المقود.
ولكن توسلات مريم اليائسة وقعت على آذان صماء عندما ترجل من العربة الشخص الذي كان جالسا بجوار السائق وبسرعة فائقة تناول الشنطة وقام برميها فوق المقاعد الخلفية للعربة ثم دفع الفتاتين الواحدة تلو الأخرى داخل السيارة بجوار الشنطة، ثم انطلقت العربة بسرعة جنونية.
التصرفات المريبة ولغة العيون لدى الرجلين كانت تفتقد للثقة بالنفس ولا تمت بسلوكيات رجل الشرطة الحقيقي بصلة، فقد بدا عليهما الإرتباك المريب وكان حالهما يؤكد أنهما غير واثقين تماما مما كانا يعتزمان القيام به في ذلك الصباح. كانا يلتفتان حولهما بإستمرار وكأن في حوزتهما بضاعة مسروقة. هذه السلوك المريبة كانت كفيلة برفع درجة الشك والاستنفار لدى الفتاتين اللاجئتين المغلوب على امرهن.
لم يمض وقتا طويلا حتى توقفت العربة فجأة، ودخل الرجلان في جدل مبهم قبل أن تستأنف السيارة رحلتها إلى جهة مجهولة. وعلى ما يبدو أنه خلال لحظة التوقف والجدل الذي دار بينهما قد تم حسم ترتيبات تقاسم الغنيمتين. وقد بدى ذلك واضحا من النظرات الخبيثة للسائق الذي أدار وجهه للخلف نحو مريم ثم اومأ برأسه محدثا زميله بلغة العيون تثير الشكوك، كما بدرت حركة مماثلة من الرجل الثاني نحو نادية.
وبعد برهة من الزمن من السير في الطريق الرئيسي عرجت العربة الى طريق فرعي غير معبد،مفروش بالرمال، ومليئ بالحجارة والصخور المتناثرة، الأمر الذي أثر سلبا على حركة سير العربة وفي أكثر من مرة كاد السائق أن يفقد السيطرة على المقود بعد أن اصطدمت إطارات العربة بصخر حاد نجم عنه دفع العربة إلى الجو وكادت أن تنقلب رأسا على عقب.
في هذه الاثناء ونتيجة الخوف والهلع الذي أصابهن قامن الشقيقتين وهن جالسن في المقاعد الخلفية للعربة، بحضن بعضهن البعض في ترقب مخيف لماسيؤل إليه مصيرهن الذي لم يعد خافيا أنه أصبح رهينة هذين الرجلين مجهولي الهوية والمخطط.
ومع مرور الوقت ايقن الفتاتان بأن الرجلين ليسوا رجال شرطة حقيقيين، ولهذا توجسن أن تكون وجهتهما الحقيقية مركز الشرطة وأن العربة ذاتها قد تكون عربة شرطة مسروقة، وأنهما ربما يقودانهن إلى مكان لا يعرفه أحد سواهما.
نادية، التي لزمت الصامت حتى هذه اللحظة وهي تراقب الموقف برعب ودهشة، فجأة إستجمعت جسارتها لتكسر جدار صمتها حيث قالت:
"إسمعا يا أنتما، نحن ليس لدينا مانخفيه أو ما نخجل به. نحن لسنا نكرة وإنما بشر مثلكما. نعم نحن لاجئآت، ولكن لسنا بلا وطن، ولسنا أيضا بلا سكن كما تعتقدان، نحن فخورات أن نكون إرتريات. جئنا إلى هذا البلد كضحايا ظروف قاهرة، ليست من صنع ايدينا".
تحجرت وخشيت مريم من إنفجار أختها المفاجئ فقرصتها في فخذها، منبهة أختها أن تخرس وتغفل فمها. ولكن نادية كانت قد عقدت العزم على أن تموت بجسارة، غير عابئة بالعواقب المترتبة، فاليكن ما يكن.
واصلت نادية قائلة "أن تكون لاجئاً ليست جريمة، ونحن لسنا أول اللاجئين ولن نكون الآخر بالطبع. لو قرأت التاريخ بشكل صحيح ستجد أن تاريخ البشرية حافل بمواقف واحداث لا حصر لها تتحدث عن أناس يهربون من الإضطهاد والقهر. نعم حتي الحيوانات تهاجر بحثا عن مأمن وعن وأماكن مخضرة". ثم أضافت نادية "التاريخ البشري حافل بحالات أناس يتحركون من مكان إلى مكان لأسباب شتى، الجبال فقط هي التي تظل راسخة دون أن تتزعزع".
ثم أخذ حديث نادية طابع تحد صارخ "إن كنتما فعلا جادان في البحث عن أصول أجدادكما، فليس هناك أدنى شك أنه ستجدان أن والديكما أو أجدادكما أو اجداد أجدادكما، قد قدموا إلى هنا من مكان آخر، في زمن ما".
"ولعلمكم، فإن كسلا أو السودان بشكل عام بالنسبة لنا نحن الإرتريين ليست سوى محطات عابرة ومؤقتة".
إندهش الرجلين وهم يستمعون إلى جرأة ومنطق هذه اللاجئة الإرترية. إلا أن نادية لم تتوقف بل واصلت.
"الآن هل تخفضان السرعة قبل أن تقتلاننا وتقتلا نفسيكما أيضا أم لأ؟ ثم نريد أن نعرف إلى أين متجهين بنا؟"
وواصلت تحديها لهما حيث أضافت "إن كنتم حقا تنتسبان للشرطة، الأمر الذي نشك فيه، أدعوكم أن تحترموا قانون المرور وان تسوقوا بمسؤولية".
كاد الرجلين أن يحترقا غضبا وغيظا والإحساس بالمهانة فيما قالته نادية. فأدار السائق وجهه للخلف نحو نادية وبنبرة تهديد صرخ في وجهها:
"أخرسي يا أيتها اللاجئة الرخيصة! وكيف طاوعتك نفسك أن تتحدثي إلينا بهذه الوقاحة.. وأن تشرحي لنا فيما يجب وما لايجب أن نفعله في بلدنا، فأمثالكن من اللاجئين الحفاة العراة ليسوا في وضع من يقدم لنا النصح والتوجيه نحن اسياد البلد، الآن اخرسي يا حقيرة.. !!!
ثم ألحق ذلك فجأة بخلفية ذراعه اليمنى حيث لطم نادية في غفلة منها في فمها، فنجم عنه شق في شفتها السفلى وكنتيجة لذلك سالت منها قطرات الدم.
لكن نادية لم تكن ممن يعرفون للإنكسار أو للهزيمة سبيلا، ولم يرعبها تهديدات وعنف ذلك الرجل. فعندما أدار ظهره مرة ثانية والتفت للوراء نحوها لتقييم مدى تأثير الخبطة على وجهها، فاجأته نادية بإطلاق صاروخ من البصاق الممزوج بحباة الدم الذي أستقر بين حاجبيه ثم تدحرج رويدا الى الأسفل نحو أنفه ثم نحو شفتيه. كان ذلك شيئ مقزز ومهين للرجل. كان ذلك تعبيرا عن احتقارها للرجلين..
في الواقع، كان رد فعل لم يتوقعه السائق ولا زميله ولا حتى الشقيقة الكبرى مريم.
ثار الرجل وجن جنونه، ولم يفقد أعصابه فحسب بل كاد أن يفقد السيطرة على السيارة أيضا. ولكن خياراته حول كيفية الرد على نادية الثائرة كان محدودا نظرا لأنه كان مقيدا بالسواقة.
فما بدا وكأنه حرب كلمات قد تحول فجأة إلى حرب مكشوفة، حرب إستنزاف ومعركة إرادات.
ومع ذلك، كانت مواجهة غير متكافئة، كانت أشبه بوضع حمل وديع في منازلة ذئاب مفترسة.
أما الشجاعة نادية كانت قد عقدت العزم على أنه إذا كان هناك بد من الموت، فالأفضل أن يمتن وهن يقاومن حتى النهاية. لأنه في كل الأحوال كانت حياتهن في تلك اللحظة في خطر داهم. فليس هناك شيئ أهم يمكن أن يفقدنه أكثر من حياتهن. فالموت وقوفا كان أشرف لهن من الموت ركوعا، ولم يكن يرضيهن أن ينقدن كخراف الضحية إلى المصير المحتوم، دون مقاومة.
فلجاء الرجل إلى سلاح الشتائم والعير "من غيركم أفسد قيمنا؟. ومن غيركم خلق لنا أزمة السكن والموصلات هنا في كسلا؟ ومن غيركم تسبب لنا في أزمة الخبز؟ حتى فيضانات القاش إنتم سببها!!
ماذا تريدون أن تفعلوا بنا أكثر من ذلك ؟ لماذا لاتردن يا.. ياسودانيات !!!...قالها بسخرية.
وهنا أيضا كانت له نادية ندا عنيدا "الظاهر أنكما لستما مجرمان فحسب بل نسبة الجهل عندكما عالية جدا. ولعلمكم، فنحن شعب صاحب أخلاق عالية وسلوكيات وقيم نعتز بها" قالتها وهي تنظر اليهما بإحتقار شديد. ثم أضافت قائلة "نحن نستأجر البيوت ونركب المواصلان بقروشنا. أتحداكما الآن أن تُرياني لاجئا إرتريا واحدا يشحت في شوارعكم".
"رجال الشرطة هنا يمتطون أكتاف اللاجئين الفقراء بلا رأفة، يستغلون بلاحياء بؤسنا وضعفنا. فمواد الإغاثة المخصصة للاجئين يتم الإستيلاء عليها في وضح النهار ويتم تحويلها إلى غير وجهتها ثم تباع في الأسواق المحلية".
هنا كاد السائق ومن شدة الغضب أن يوقف السيارة ليتصرف معها بيديه. ولكن زميله وشريكه في الجريمة نبهه الى خطورة الموقف وحذره من مغبة التوقف ولو للحظة واحدة وأكد له أنه سوف يتم التعامل مع لؤم هذه اللاجئة عند نقطة الوصول، ولذا واصل السائق الطريق وهو يهز رأسه من شدة الغيظ.
ولكن ودون مقدمات تحول موقف الرجل الثاني من النقيض إلى النقيض. تحول 180 درجة. ولشيء في نفس يعقوب حاول ذلك الرجل أن يتودد الى الفتاتين وان يصطنع اللطف وكائنه حريص علي مصلحتهن حيث قال:
"شوفوا يا بناتنا!، لقد غيرنا رأينا ولهذا سوف لن نسلمكن لسلطات الهجرة .لا يرضينا أن ينتهي بكن الأمر في أيدي أعدائكن الإثيوبيين".
ولكن لم يكن خافيا على مريم واختها نادية أنها كانت حيلة من الرجلين لضمان صمت الفتاتين وتجنب أي مواجهة داخل العربة والتي من شائنها أن تلفت انتباه المارة وتفضح أمرهما.
ثم أضاف قائلا "وعليه وبدلا من ذلك، سنأخذكن إلى مكان آمن حيث ستجدن كل الرعاية والإهتمام، وسوف نجمعكن بوالدتكن وأختكن هذا اليوم".
"ولحسن حظكن تجمعنا علاقات جيدة مع مسؤولي المفوضية العليا للاجئين الذين سيساعدونكم في إجراءات الهجرة إلى الولايات المتحدة أو كندا أو حتى أستراليا خلال مدة قصيرة, ولهذا الرجاء التزام الهدوء لكي لا نجذب أنظار المارة إلى أن نصل للمكان الآمن".
لاحظت نادية، أن الرجلين مرتبكان جدا ومتوترا الأعصاب ويفتقدان إلى الثقة بالنفس، فلذا قررت أن تستنزف صبرهما لحد اليأس والإحباط.
فقالت لهما "في هذه اللحظة أنتما أسواء أعدائنا، وليسوا الإثيوبيين".
"ثم أننا لم نطلب منكم مساعدتنا في الهجرة سواء للولايات المتحدة أو أي مكان آخر. بل نفضل أن يتم ترحيلنا إلى بلادنا بدلا أن نكون تحت رحمة مجرمين من أمثالكما. والآن هيا أوقف السيارة وإلا سوف اضطر إلى وضع يدي حول عنقك لخنقك حتى تتسبب في حادث مروري" قالتها نادية بنبرة تهديد. في تلك الأثناء كانت نادية جالسة خلف السائق مباشرة.
وقد استشعر السائق بالخطرعند سماعه عبارات التهديد التي تلفظت بها نادية، فأخذ تهديدها محمل الجد.
وفي لحظة غضب، وكرد فعل، ودون أن يفكر جيدا، نقل السائق أنظاره نحو نادية للرد عليها...
"إنتبه!!.. إنتبه!!.. إدعس على المكابح. إدعس على المكابح، هناك حمار! أمامك حمار!!" كان ذلك صراخ الرجل الثاني مؤشرا إلى حمارين كانا قد ظهرا فجأة في منتصف الطريق.
دعس السائق على المكابح فورا، ولكن التوقف المفاجئ جعل السيارة تسرع وتدور حول نفسها مرات ومرات، قبل أن تنحرف عن الطريق ثم أعقب ذلك اصطدام عنيف بشجرة كبيرة ثم انتهى بها الأمر إلى أن استقرت رأسا على عقب.
كان نتيجة الحادث المروع أن تعرض السائق لكسر خطير في الرقبة فتم نقله إلى المستشفى على وجه السرعة. أما شريكه في الجريمة فقد أصيب بكسر في الساق وظل يتلوى ويئن من شدة الألم وهو جالس في مقعده.
في الجانب الآخر تعرضت مريم لخدوش طفيفة، أما نادية فقد كان نصيبها كسر ذراعها الأيسر.
وعلى قول أهل مصوع...قدر ولطف...
لاشك بأن جرأة وتهديدات نادية هي التي تسببت في الحادث، لأنها أجبرت السائق أن ينقل أنظاره عن المقود والطريق أمامه.
نعم لم يكن ذلك الحادث السيناريو الأفضل للبنات، ولكنه بالتأكيد لم يكن الأسواء.
وسرعان ما هرعت عربات الإسعاف والشرطة إلى مكان الحادث.
ففد تحولت ساحة مستشفى كسلا إلى مشهد عاطفي ومؤثر للغاية حيث تجمهر نزلاء ذلك المستشفى فضلا عن الزوار وهم يراقبون بكل شفق وعطف حال أفراد تلك الأسرة المنكوبة التي فرقت بينها ظروف قاهرة، وهي الآن في عناق حميم مصحوب بالدموع والنحيب.
إنتحبت دهب وهي تحتضن أخواتها وتمسك بهن حتى لا يفترقن عنها مرة ثانية، أما مريم ونادية فقد فرحن وهن يحتضن خالتهن حياة وإبنها كمال والدموع تنهمر من عيونهن.
فقد سمح لنادية مغادرة المستشفى بعد أن وضع الجبس على ذراعها الأيسر.
عم الشعور بالصدمة والسخط وعدم التصديق كافة أنحاء مدينة كسلا، بعد أن كشف النقاب عن تفاصيل ونوايا الإختطاف. وقد كشفت تحقيقات الشرطة انه كل من نادية ومريم، دون علمهن طبعا، كان في حوزتهن عشرون ألف دولار.
الغريب والمؤسف كان ذلك المبلغ هو إجمالي قيمة الكليتين في جسمهن والذي كانت تخطط له العصابة المجرمة التي تتاجر بأعضاء البشر من اللاجئين. إتضح أن الرجلين هما أعضاء في تلك العصابة والتي تعمل بالتنسيق مع المهربين.
كما تبين فيما بعد، أن المهرب أيضا كان عضوا في تلك العصابة وكانت مهمته تبليغ الخاطفين في كل مرة يأتي بلاجئين جدد إلى كسلا.
كانت خطة المختطفين تتضمن إستخدام الفتاتين كرقيق جنس لعدة أسابيع قبل أن تستأصل منهن كليتهن في معمل سري يديره طبيب محترف.
كما أكدت تحقيقات الشرطة ايضا بأن السائق قد سبق وأن عمل ضابطا قبل أن يتم طرده من الخدمة لسلوكيات غير مهنية وقد قضى نحبه في المستشفي متأثرا بإصابته.
اما الشخص الثاني فإتضح أنه عاطل عن العمل وليس له عنوان ثابت. ومن المفارقات العجيبة تبين أنه إرتري الأصل، وقد حكم عليه بالسجن لخمسة أعوام على أن يتم إبعاده عبر الحدود وتسليمه للسلطات هناك...
في نفس اللحظة التي غادرت فيها نادية المستشفى وهي محاطة بأفراد أسرتها وأقربائها وذراعه مجبس، في تلك اللحظة إتخذت نادية قرارا خطير من شائنه أن يغير مجرى حياتها إلى الأبد.