البعثة الإنجليزية إلى ملك الحبشة يوحنا ستة 1887م الحلقة الثالثة

ترجمة الأستاذ: عبدالحميد الحسن تأليف الأستاذ: جيرالد هـ بورتال - مبعوث دبلوماسي

من القاهرة إلى موصوع: في السابع عشر من تشرين الأول أكتوبر سنة 1887م قررت حكومة دلالة الملكة

أن تعهد إلي شرف قيادة البعثة إلى الحبشة. في محاولة لإخماد نار العداء بين الملك يوحنا وبين الطليان، وقيل لي في الوقت ذاته أنه يجب عدم إضاعة لحظة واحدة، لان الموسم الملائم للعمليات الحربية قد قارب الحلول، أن الحكومة الإيطالية لا يمكنها الامتناع من العمليات العدايئة لأكثر من خمسة أسابيع أي حتى نهاية تشرين الثاني - أكتوبر حتى وان لم تكن قد عدت حتى ذلك الحين.

أول خطوة اتخذتها كانت طلب السماح لي بأن اخذ معي في عداد الوفد المستر بيتش (الجراح البيطري العسكري) والذي كان يخدم في الجيش المصري وكان من بين كل من اعرفهم في مصر أكثرهم أهلية لذلك الضرب من المهمات التي كانت تنتظرنا، وطول كل تلك الرحلة لم أكف عن تهنئة نفسي على حظي السعيد في أنني كسبت مساعدته القيمة، وبعدئذ استأجرت مترجما أسمه أحمد فهمي وهو مصري محترم على قدر من الثقافة، عاش سنتين على حدود الحبشة وقال انه متمكن من اللغة الامهرية قراءة وكتابة، وكان مرافق الأمير حسن مترجما، في حملته المصرية الفاشلة ضد الحبشة سنة 1876م كما اتخذت معي خادمي الإنكليزي المدعو هتشيمن، الذي تطوع لل1هاب معي رغم الصورة الكئيبة لمخاطر والشاق التي كانت بانتظارنا والتي أوضحتها له تماما وآنا أرى لزاما علي أضيف حالا أنه كان طوال الرحلة شجاعا متمالكا لنفسه ومرحا تجاه كل الصعوبات.

كما أمرت بالتزام أقصى حدود السرية والتكتم بخصوص مهمتي بحيث أنه يجب ألا يعرف أي مخلوق شيئا عنها. عدا أعضاء بعثة جلالة الملكة، ولهذا قمنا باستعداداتنا في كثير من السرية والحرص وجرى ابتياع الشموع والشاي وغيرها من المؤن على دفعات صغيرة ومن متاجر مختلفة، وقليل من الذخائر والخيام أنها بغرض رحلة صيد، أما بطاقات سفرنا على الباخرة من السويس إلى مصوع فقد حجزت باسم خادمي هتشيون (وثلاثة من أصحابه) وكان كل شي جاهز بظرف ثلاثة أيام، فغادرت القاهرة في الساعة السادسة من مساء التاسع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) إلى الإسكندرية لملاقاة الباخرة الإنكليزية القادمة من برنديزي والتي كانت تحمل الرسائل الموجهة من الملكة ومن اللورد سالزبيري - والتي تعتمدن عند الملك يوحنا كما تحمل بعض الهدايا للملك وللرأس الو لا، أبرقت طالبا إياها من انجلترا قبل أسبوع.

أما هدايا النجاشي فكانت سيف شرف وبندقية ونشستر إليه مع 500 طلقة ذخيرة ومنظارا فاخرا مع قائمة مناسبا لإغراض الرصد الفلكي والأراضي معا، أما الرأس الو لا فكانت له بندقية نشستر إلية مع ذخيرة في صندوق أنيق وسيف شرف أخر وعند استلام الصناديق الخشبية المصفحة بالمعدن والتي احتوت هذه الهدايا من قبضان الباخرة التابعة لشركة P&O صدمتني فكرة أنها سوف تكون حقا عبئا وحملا ثقيلا على البغال من الصعب نقلها في قطر جبلي لكني مع ذلك لم أستثف ألا قليلا من المصاعب والأعباء والقلق الذي سوف تكون سببا فيه خصوصا المنظار منها.

وبمغادرتي الإسكندرية في قطار بريد الهند وصلت السويس مساء العشرين من الشهر ذاته وهناك وجدت بيتش وهتشيون واحمد فهمي الذين وصلوا قبل قليل من القاهرة مع كل المؤن والطرود اللازمة للرحلة.

وفي اليوم التالي استقبلنا الباخرة المصرية (نرجيلة) وهي سفينة صغيرة قذرة ذات مظهر قمئ، متجه إلى جدة فسواكن فمصرع وجدنا سريعا أن رفاق الرحلة يتآلفون من الصراصير وحيوانات أخرى منها لا تحصى، وقطيع من الغنم وبضع بقرات وكثير من الديكة والدجاج الغادي والهادي والإوز مع رزينة من المغامرين اليونانيين شريري المظهر من أولئك الذين يظهرون كالرخم حول جثة ميتة أينما كانت إشاعة قلاقل في شمال أفريقيا، كما كان هناك محكوم أمضى مدته، هذا عدا مئة حاج عربي متجهين إلى مكة قد يبدوا مظهرهم مقبولا من مسافة بعيدة أما عن قرب منهم لاشك مصيبة للعين والأنف معا.

لم يكن من المتوقع أن أتمكن من ركوب البحر من السويس دون أن يلاحظني أحد ولهذا تعرضت لكثير من الأسئلة غير المحرجة التي كان علي أن أتفاداها تتعلق بغاية رحلتي والهدف منها، حتى أصبح واضحا أنني وبنتش يصدق علينا تعريف الدبلوماسيين القائل أنهم (أولئك الذين يرسلون إلى الخارج لكي يكذبوا في سبيل وطنهم).

لم تكن (النرجيلة) تستحق الانتساب إلى مصر لو أقلعت في موعدها المحدد، لهذا لم اتفاجا حينما وجدنا أننا لم ننزل إلى السويس عند الغروب بدلا من أن يكون أقلعنا منذ الظهر. وأخيرا وبعد كثير من الصرير والتخبط والشتائم والصياح. قطعنا حاجز البناء، وجرى (الصهريج) القديم الأحمق بكل وقار نزولا في خليج السويس بسرعته القصوى التي لا تزيد عن خمس عقد في الساعة.

وفي اليوم التالي رسبنا قرب المحجر الصحي في الطور حيث بدا انه لم يكن ثمة شئ لإنزاله وشئ يتم تحميله ورغم عن هذا ضاعت ساعتان أو ثلاث ساعات لا لشيء إلا لان القبطان أراد فترة مسامرة وتدخين سيجارة مع احد أصدقائه ومن الطور تابعنا بذات الطريقة الوقورة قاصدين ايمبو وهي قرية صغيرة على ساحل جزيرة العرب كان يجب إنزال احد الركاب فيها وهنا جابهتنا صعوبة هي إن ايمبو فقدت ولم نتمكن من العثور عليها ! كان طاقم بحارة (النرجيلة) يتكون من ثلاثة بحارة يطلقون جميعا على أنفسهم لقب قبطان أو ريس أي ضرب من البحار الريفي، يساعدهم اثنان أو ثلاثة من الطاعنين في السن ولسوء الحظ ظهر أن احد لم يكن من جميع هؤلاء يعرف الطريق إلى ايمبو وكان من الواضح أن استعمال الخرائط والجداول أمر مستهجن أم غير وارد أصلا أما التقاليع الجديدة من مثل تسجيل الملاحظات والمواقع فربما لم يسمع بها هؤلاء المحترمين، لهذا أمضينا معظم صبحية الرابع والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) في التجوال على غير هدى صعودا ونزولا باحثين عن فتحة معينه في جدار الصخور المرجانية يفترض أنها هي الطريق إلى ايمبو وأخيرا وصلنا وأنزلنا المسافر الواحد، وضاعت ثلاث أو أربع ساعات أخرى في التدخين والتفكير بالانطلاق من جديد ثم اقلعنا في النهاية قاصدين جدة هذه المرة.

وقريبا من جدة في الصباح التالي تكررت نفس عملية التجوال صعودا وهبوطا في البحث عن الطريق، وفي النهاية القينا المرساة في 1لك الميناء البهي المنظر، إلى جانب زوارق طريفة غريبة الشكل معدة للصيد اللؤلؤة وعند سؤالنا قيل لنا أن السفينة لن تتمكن من الإبحار قبل صباح اليوم التالي على أقرب تقدير، رغم أن التأخير كان مزعجا فأنني لم أكن أسفا على انتهاء فرصة مشاهدة مثل تلك المدينة الإسلامية الأصلية، آذ هي لم يشبها حتى ألان خليط الرعاع اليونان والمالطيين وبعض اوربين الهجين صحيح أنها لا تفخر ألا قليل من جمال العمارة، لكنها تتمتع بكثير من الأسطح المائلة والنوافذ لبارزة من الخشب المحفور، ولكن أطرف المشاهد وأكثرها مدعاة للاهتمام كان الخليط العجيب من البشر الذي كان يندفع في شوارعها الضيقة أتراك استانبول المتبجحون إلى جانب الحجاج الصفر من سنغافورا حجاج من السنجاب الهنود المترفعون بعمائمهم الضخمة مع الأفغان الشرسين جيدي التسليح، بينما كان يمر المتدينون السود من دار فور وكرد فان إلى جانب العلماء المراكشين البدنين الأنيقين ورغم أن واحد من كل اثنين مررنا يهما مسلحا تسليحا فتاكة أو مريعة، فأنني لم أشاهد ألا قليل من الفوضى أو الشغب.

نعم كان الصياح والضجة سائدين لكل الجمهور كان بمجمله هادئا مهذب السلوك بل أنني اضطررت إلى أن أقارن في ذهني هذا الخليط من المسلمين القادمين من كافة أرجاء العالم جمعتهم العاطفة الدينية فقط وبين الجماهير الضخمة من الحجاج المسبحين مجتمعين من أرجاء العالم الذين اذكر أنني شاهدتهم منذ عدة سنوات في القدس الشريف أو أورشليم فإذا أخذنا باعتبارنا احترام ألذات ووحدنا الهدف والسلوك اللائق فأن المقارنة لن تكن في مصلحة المسيحيين.

وبعد عودتنا في المساء إلى السفينة بقليل أشتكى بيتش من توعك فقلقت نوعا ما حين وجدت أنه محموم قليل وسريعا ما أعطيته بضعة أشياء من منتجات المستر ككل، أتبعتها بعد ساعتين جرعة قوية من الكنين كما أنه رضي أن ينام تلك الليلة في قمرته بدلا من أن ينام على ظهر السفينة وفي اليوم التالي كانت الحمى لم تزل تتلبسه فتتبعت إعطاءه الكنين وبالرغم من عنايتي الطبية له فانه لم ينفض الحمى عنه حاو يشفي ألا عند وصولنا ميناء مصوع.

وصلنا دون أي حادث بذكر إلى سواكن في الساعة الثالثة بعد الظهر من يوم 27 تشرين الأول (أكتوبر) حيث غمرنا لطف كبير ضباط البحرية هناك فجرى تدبير نقلنا من (النرجيلة) إلى الباخرة الإنجليزية (ستارلنج) وشعرنا بيتش وأنا إن عشاءنا في تلك الليلة مع الكولونيل كيتشنير والليلة التي قضيناها في الراحة على شرفة الحكومة، عوضنا تماما عن كل المضايقات التي تحملناها في رحلتنا من السويس وقبل أن أودع كيتشنر أخذت عنه رسالة توصية إلى الرأس الولاة يمكنني إبرازها إلى أي من ضباطه الذين يحتمل أن يعتقلوني حالما أخطو داخل حدودهم. وفي الساعة السابعة من صباح البوم التالي استقلنا (ستار انج) إلى ميناء مصوع بعد رحلة بهجة استمرت حتى الساعة 9.30من مساء اليوم الثاني 29تشرين الثاني (أكتوبر).

وقد بكرت في صباح الثلاثين في الذهاب لمقابلة الجنرال ساليتا قائد الحامية الإيطالية، فاخبرني حالا بأنه تلقى تعليمات بأن يبذل كل ما في طاقته لتسهيل استعداداتي، وانه بالرغم من عدم أخباره بالهدف من رحلتي فان من الاسرأر الشائعة أنني ذاهب لقيام بمحاولة لأعداد بعض الترتيبان التي تحفظ شرف ايطاليا وربما وفرت عليها حمله شاقة تتضمن إنفاق ملاين كثيرة من الليرات وخسارة مئات أرواح وبعدها دخلنا في حديث طويل عن الوضع بكاملة أصبحت في نهاية أرجو أن تبدي الحكومة الإيطالية عند تحديدها لشروطها نفس التبصر والاعتدال وأن تنظر غلى المسالة بكاملها نفس النظرة الشاملة والآراءه الثاقب التي عبر عنها الجنرال الموهوب اللبق الذي ياسر الألباب.

ثم ذهبت لمقابلة الكولونيل فيجانو رئيس الأركان، ودبرت أن أتسلم في الصباح التالي اثني عشر بغلا جيدا ولربعة خيول وستة موظفين محليين موثوق بهم لسوق البغال على لن يكون بمقدور أثنين منهما أن يقودنا إلى مركز قيادة الرأس الو لا يتوقع أن يصل خلال يوم أو يومين إلى قرع عن طريق يا نجوس وباريسيا فذلك الطريق كان معروفا أكثر وكان أسهل للسفر من الطريق إلى أسمره.

وطوال تلك الفترة كان قلقي يزداد شيئا فشيئا لعدم وصول تعليماتي النهائية مع السماح الصريح لي بالبدء بالمهمة وكانت البرقيات مستمرة بين حكومة جلالة المملكة وبين السيد أي وبيني ولكن لم يحدث إلا في وقت متأخر من بعد ظهر اليوم الأول من تشرين الثاني (نوفبر) أن وصلت إلي برقيًأ، الشروط النهائية التي تؤلف أقل ما يقبل به الطليان وجاءتني التعليمات بأنه يمكنني أن أنطلق لمقابلة الملك يوحنا لذا اعتقدت أنه يمكنني عمل هذا بسلام فأجبت فورا بأنني سوف أنطلق فجر الصباح التالي أما الشروط التي يمكن للحكومة الإيطالية أن تصل فيها ألي حل سلمي مع الملك يوحنا فقد نشرت مؤخرا في روما في (كتاب أخضر) وكانت كما يلي:-

1. أن يعلن ملك الحبشة أسفه وشديد اعتذاره لما حدث من عدوان ظالم على الطليان في كانون الثاني (يناير) الماضي.

2. ساحاتي وويا تبقيان إيطاليتين مع حزام حوليهما لا يقل اتساعه عن مسيرة يوما واحد قندع تصبح مدينة حدود حبشية أما وادي عايلتنا فسيمر داخل أملاك ايطاليا أو على الأقل يكون تحت الحماية الإيطالية أما الحدود فيجب أن تحدد باتفاق شامل بمعرفة انجلتره وتؤشر بأعمدة منصوبة في كل نقطة.

3. يعترف ملك الحبشة بالحماية الإيطالية لعرب ا لاساورتا والحباب.

4. تحتل ايطاليا بموافقة انجلترا منطقة سنحيت.

5. توقع معاهدة سلام وصداقة وتجارة بين ايطاليا والحبشة.

وتعهدت الحكومة الإيطالية في الوقت ذاته بعدم البدء بأية أعمال عدائية قبل بداية كانون الأول (ديسمبر) ولكن نظرا لان الموسم المناسب كان بهذا القصر فأن الطليان لم يكن باستطاعتهم تأجيل تلك ألأعمال لأبعد من ذلك التاريخ وهكذا منحت أربعة ة أسابيع لإتمام الرحلة إلى الملك ذهابا وإيابا ونظرا لوجود جلا لته في دبرا طابور فأن الرحلة إليه لا يمكن أن تتم في ظل أنسب الظروف بأقل من سبع اسايبع إلى شهرين وهذا دون حساب احتمال التأخير الطارئ وعامل بطء سرعة بغال البضائع المحملة مهما يكن من حقنا الاحتجاج أو الشكوى فأكملنا استعداداتنا بمنتهى السرعة الممكنة.

وصلت البغال والخيل الموعودة في الوقت المحدد، وقد سررت وأرضاني مظهرها العام وقوتها البادية ولكن الأمر كان مختلفا مع ستة سواق للبغال الذين سيقوا إلي تحت حراسة جنديين ايطالين. كان أثنين من هؤلاء المحترمين من أسرى الحبشيين وآخران كانا من بلاد الساهو وهي بلاد مشهورة بإنجابها اللصوص وقطاع الطرق المحترفين أما الباقين فكانا عربيين بادي الشر من أحدى القبائل الصغيرة في مصوع لم يرتح بيتش ولم ارتاح أنا أبدا لمظهر هؤلاء الرجال ولكن نظرا لأنه قيل لنا انه لا يمكن الحصول على غيرهم، فقد كان علينا الاكتفاء بما توفر والأمل بالأحسن وعملنا حتى وقت متأخر في نقل مؤننا وبضائعنا إلى الساحل من السفينة (ستار لنج) وبعدها قسمناها على عدد الأحمال اللازمة موزعين الوزن بالتساوي قدر الامكان في تلك الظروف وجرى التفتيش على السروج والأعنة وأربطة الرأس والحبال فوجدت تامة وباختصار اجري كل ما يلزم لانطلاقة مبكرة.

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click