حب في جدة: فيلم بالأبيض والأسود على الطريقة الإريترية

بقلم الأستاذة: سارة السالك المصدر: إضاءات

«فيور» و«ناصر» كُتب عليهما شقاء الحب والغربة في دهاليز مدينة تفصل بين الرجال والنساء في فترة الثمانينيات، فعاشا معًا

تفاصيل فيلم حالم بالأبيض والأسود.

رواية حب في جدةمدينةُ جدة بالنسبة لهما كانت مقبرةً مخيفةً للعشاق وجنةً للمطاوعة المتشددين. مهما اختلفت قصص الحب عبر التاريخ في فصولها الدرامية الشائكة ونهاياتها، سنجد أنها تلتقي بشكل أو آخر في نقطة مفصلية مهمة من أحداثها، حين يستشف القارئ تلك المسحة الأسطورية الجذابة من الجرأة والتضحية في شخص البطل دون اكتراث بالعواقب تمامًا كما في رائعة تولستوي «أنّا كارنينا» التي بدا لها العالم كله باهتًا بدون عشيقها، فرمت بعرض الحائط طفلها الجميل وزوجها الثري والعرف المجتمعي السائد.

ناصر وفيور أيضًا يقفان بصلابةٍ في وجه عادات وتقاليد مجتمع تختلف كثيرًا عن بيئتهما الإريترية من أجل لحظات حبٍ خالصةٍ تخصهما وحدهما.

جدة.. وجهٌ آخر:

كانت جدة وجهة مهمة وملاذًا للأفارقة الهاربين من الحروب وفقر بلدانهم، تتعايش فيها جنسيات عدة، يبدو أن «سليمان أدونيا» فُتن بالكتابة عن جدة بتفاصيلها وأسرارها الدفينة. ذكّرني اختياره لجدة برواية «سمروايت» للإرتيري جابر حجي، كتبا عن ذات المدينة ومعنى أن تعيش مغتربًا وبك حنين جارف إلى وطنك الأم بأسلوب مميز وسلس.

هذه التجربة الحية بوقائعها ومنعطفاتها الحادة تعتبر مادة دسمة للروائيين المغتربين، يشكّلون فيها تصوراتهم الخاصة وتحليلاتهم المنصفة أو المتحيزة أحيانًا عن أسباب فشلهم أو نجاحهم في التأقلم مع مجتمعات تختلف عنهم في الثقافة والعادات نسبيًا، لنستنتج أن أدونيا عانى صدامًا فكريًا شديدًا، فاستغل الفرصة كروائي ليتمرد على تلك الأفكار ويُضمّن في أحداث قصته رسائل احتجاجية خطيرة على وضع مجتمع كامل.

كتبَ أدونيا عن الوجه الآخر لجدة، وإن اعتبره البعض مغلوطًا ومشوهًا لأكثر مدن المملكة انفتاحًا، فيأخذ عليه بعض القرّاء أسلوب التقريع المباشر والمبالغة أحيانًا في تضخيم العلاقة المتوترة بين المجتمع السعودي والسلطة الدينية.

رواية أدونيا الأولى:

يعيش الكاتب الإريتري سليمان أدونيا حاليًا في مدينة الضباب التي خطّ فيها روايته الأولى «حب في جدة».[1] في بداية مراهقته عاش ودرس في السعودية، ثم في بداية التسعينيات حصل على اللجوء في بريطانيا.

هذه الرواية تُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة واحتفت بها الساحة الأدبية البريطانية. ترجمتها العربية صدرتْ عن دار منشورات الجمل، أبدع مترجمها خالد الجبيلي في نقل الأحداث وأحاسيس الكاتب كما لو أنه عاشها بنفسه.

لعب العنوان دورًا مهمًا في تسويق الرواية، فكان تحديد مدينة مثل جدة مشوقًا للقارئ ليشده الفضول إلى معرفة ما قد تكشفه الأحداث من أسرار وأجوبة مهمة عن أهل هذه المدينة. تشابهت ظروف حياة البطل والكاتب مما كان له أثر عظيم في صدق الأحداث وقدرتها على لمس وجدان القارئ.

لاجئ عنيد ورسالة تغير حياته:

تبدأ القصة عندما أرسلت الأم الجزعة من الحرب الأهلية في إريتريا ولديْها إلى مخيم اللاجئين في السودان، فانطلقا عبر البحر الأحمر إلى جدة، حيث الوجه الآخر من العالم.

نستطيع من خلال قراءة خط سير أحداث هذه الرحلة الطويلة أن نشعر بالمعاناة الحقيقية للمهاجرين من أمثاله. فيصف لنا أدونيا كيف قضى ناصر عشرة أعوام، قاسى فيها ألوان العذاب والحب، بلا أي ورقة ثبوتية تنقذه من بؤس حياته.

كان وجود الأب في حياة بطل الرواية أشبه بسراب عبثي، لم يعرف له اسمًا أو عنوانًا، فهو ثمرةُ حبٍ عابر إثيوبي إريتري. شعر ناصر بجوع عاطفي شديد بعد غياب تاء التأنيث من قاموسه في حياته الجديدة، فاستبد به حنين موجع إلى أمه وصديقاتها وبنات المخيم اللواتي تنافسن بشراسة على اللعب معه.

هكذا نقرأ في الرواية كيف أن ناصر استنكر الفصل بين الرجال والنساء من خلال حوار بينه وبين خاله لفهم ماهية الفصل وأسبابه.

تعهد خال ناصر باستقباله وأخيه الصغير في جدة والاعتناء بهما، مارس وصايته الفكرية بشدة عليهما، فقد اعتبر أخته فاجرة فاسقة، فأراد أن يطهر الولدين ويربيهما على طريقة المطاوعة المتزمتة.

استغل ابن أخته - ناصر- بفظاعة حتى يجدد الإقامة فقدمه إلى الكفيل السعودي فاغتصبه. يحاول أدونيا تسليط الضوء بشكل مكثف على مشاعر البطل والألم النفسي أثناء وبعد هذه الحادثة.

لجأ ناصر إلى صديقه جاسم ليجد له وظيفة في المقهى، عمل بجد ونشاط لكن وضع المقهى كان أسوأ حالًا، فالرجالُ فيه يشتهون الرجال. أصبح ناصر يشمئز من جسده، فقرر ترك المقهى نهائيًا. عمل بعدها في مغسلة للسيارات، استغل وقت فراغه في التهام الكتب التي أهداه إياها جاسم الثري، كانت تلك هي الطريقة الوحيدة التي يسلي بها نفسه.

ألقيت رسالة مجعدة عند قدمي ناصر واختفت صاحبتها كالشبح. طيف من الألوان تراءى إليه بعدما استلم رسالة فيور الأولى، كان فقط يسشعر أنوثتها وجمالها من رقة وعذوبة كلماتها وعباراتها. لم يكن ناصر راضيًا عن تشدد أهل الحي وحاصره حب الفتاة في طرقات محفوفة بالخطر والأعين تتربص بأي حركة غريبة.

الشيء الوحيد الذي ميزها به عن نساء حي النزلة حذاؤها الوردي، تبدأ المراسلة بينهما لتأخذ طابعًا رومانسيًا في بيئة دينية متزمتة على حد وصفه. لا يجدان متنفسًا سوى الرسائل وبعض اللقاءات المختلسة.

ضحّى ناصر بكل شيء من أجلها، هذه الفتاة سيطرت على حياته، اندفع بعنفٍ يطبق أفكارها الجنونية ليكونا معًا. قرر المجازفة بالهروب من جدة لكن صديقه المقرب جاسم وشى به. حُكم عليه بالإعدام ثم أنقذه صديق له ورُحِّل إلى السودان.

فيور تتخلص - في المشهد الأخير من الرواية - من حذائها الوردي في البحر. هذه الخاتمة المفتوحة تجعلك كقارئ أمام مشهد سينمائي نوعًا، وتساؤلات عن هذا الثنائي الذي حالت الظروف والبيئة المجتمعية بينهما وبين نهاية سعيدة يحلم بها الجميع.

Top
X

Right Click

No Right Click