قراءة في كتاب الحركة الإسلامية الإرترية ١٩٧٣-٢٠١٢

بقلم الأستاذ: عبدالقادر نائب

في دراسة أعدت كأطروحة لنيل الدرجة العلمية - الدكتوراه - في منتصف عام 2015، تم في أمسية الجمعة الموافق 19 من يناير

الحركة الإسلامية الارترية2018 تدشين كتاب الدكتور إدريس أبوبكر جميل "الحركة الإسلامية الإرترية - الإخوان المسلمون: دراسة الحالة" في قاعة الأبرار بوسط لندن وبحضور عدد مقدر من المهتمين الإرتريين وكان لي شرف تقديم قراءة موجزة للكتاب مع الأخ الصديق عبد الرحمن السيد (بو هاشم) والأخ إبراهيم الحاج الذي أدار أمسية التدشين بكل سلاسة واقتدار، تناولت في قراءتي جميع فصول الكتاب.

وفي الكلمة التي افتتح بها الباحث التدشين تحدث عن الخطوات والسبل والآليات التي اتبعها في أنجاز هذا المشروع والفترة الزمنية التي استغرقه البحث، وأضاف قائلا مع أن حجم الكتاب قد اختلف قليلا عن الدراسة التي قدمت كأطروحة لجامعة ملايا إلاّ أن ذلك لم يخل بالدراسة نفسها.

جاء الكتاب في 361 صفحة من الحجم الكبير، في طباعة فاخرة، وبين دفتيه مقدمة وخمسة فصول، كُتب بلغة رصينة وسلسة، تجنب الباحث فيها اللغة المعقدة مثل المصطلحات والمفردات التخصصية البحتة حتى تسهل المادة على للقارئ العام ويقرأها من غير مشقة، ولذا كانت ممتعة مع عدم الإخلال أو البعد عن الموضوعية التي صاحبت الكتاب في جميع فصوله.

مقدمة الكتاب: أحسب أن مقدمة الكتاب كانت بدرجة الامتياز في أعطاء خلفية واضحة عن الموضوع بناء على التسلسل التاريخي والموضوعي والمنهج الذي ستسير عليه الدراسة ابتداء تناول إرتريا جغرافيا وديمغرافيا وتنوعات الشعب الإرتري دينيا وثقافيا ولغويا، وأهمية إرتريا الاستراتيجية، والدراسات السابقة وأسئلة البحث و في أهمية البحث يقول الباحث إنّ مكانة البحث في هذا الموضوع تنبع من أهمية موضوع الدراسة وذلك إن المراكز البحثية في العالم أصبحت اليوم تولي اهتماما كبيراً لدراسة ظاهرة الحركات الإسلامية التي دخلت لاعباً جديداً في العلاقات الدولية. وتبرز الأهمية الأخرى كون هذه الدراسة هي أول دراسة علمية تجرى في هذا المجال في إرتريا. والأهمية الثالثة تكمن في أنّه لم يبق إلا عدد قليل من الرعيل الأوّل ولذا رأى الباحث أنّها فرصة لتوثيق الأحداث منهم. وطبيعة هذه الدراسة أنها توثيقية في المقام الأوّل وتحليلية بدرجة أقل منها متى ما اقتضى الحال، ذلك لكوّنها أول دراسة في هذا المجال مستخدما المنهج التاريخي التحليلي.

معتمدا على أكثر من مائة مرجع باللغتيي العربية والإنجليزية من كتب ووثائق وبيانات ومقابلات، ويفرق الباحث بين دراسته والدراسات السابقة بقوله إن أغلب الذين كتبوا الدراسات السابقة كانوا جزءا من الصراع القائم بين الحركة الإسلامية والنظام القائم في إرتريا أو من المتعاطفين مع طرف من الأطراف، ويزعم أن هذه الدراسة، دراسة أكاديمية موسعة تدرس واقع الحركة الإسلامية دراسة معمقة، وصفا وتحليلا للوصول إلى نتائج علمية معتمدة...

الفصلان الأول والثاني أصّل فيهما الباحث للدراسة الرئيسية بحيث يكون الأساس والمرجع لما ذهب إليه في أطروحته -أي حركة الإسلام التي تسعى لأن يكون لها دورا ووجودا في المجتمع الإرتري: هل لها جذور في هذا المجتمع ؟ أم هي دخيلة مع التغيّرات التي راجت بها الساحة الإرترية والإقليمية في فترة التحرر الوطني وما بعد التحرير.

في الفصل الأول:

تناول الباحث انتشار الإسلام في الحبشة - والمقصود بالحبشة هنا، كما وضح المؤلف: إرتريا وإثيوبيا- جاء هذا الفصل في 84 صفحة وركز على دخول الإسلام وانتشاره في المنطقة من خلال موجات الهجرة العربية إلى السواحل الإرترية بعد أن فتح المسلمون الشام ومصر وشمال إفريقيا بين القرن الثامن والعاشر الميلادي. ومن الغرب والشمال عبر بوابة البجة، ويشير أيضا إلى ظهور ولاية مزدهرة في جزر دهلك والشواطئ الإرترية، وكذلك عبر المصاهرة والتجارة.

شمل أيضا هذا الفصل التعليم ومستواه في عصري الاستعمارين الإيطالي البريطاني، وتراجُع الإسلام في حقبة الاستعمار الاثيوبي وما أصاب أهله من تنكيل واضطهاد، لاسيما في فترة حكم هيلي سيلاّسي.

أما في الفصل الثاني والذي أفرد له الباحث 86 صفحة تحدث فيه عن دور المسلمين في الحركة الوطنية الإرترية من لدن الرابطة الإسلامية وجميع مراحل النضال الإرتري بدءً بالنضالات السياسية في مرحلة تقرير المصير ومواقف دول التحالف من استقلال إرترية وعرض القضية الإرترية في أروقة مجلس الأمن والأمم المتحدة، ثم مواصلة النضال السلمي، ثم الكفاح المسلح حتى توج ذلك الجهد بتحرير كامل للتراب الإرتري في عام 1991.

هذا الفصل يعتبر مختصرا مفيدا عن نضالات الإرتريين في جميع الحقب وخاصة فترة تقرير المصير، ومن أراد زيارة سريعة لتاريخ تلك الفترة، فإن هذا الفصل خير معين - لأنه مركز وشامل. يبدأ بلمحة سريعة عن صراع القطبين الأساسيين في اللعبة السياسية أي القطب الاستقلالي من خلال الكتلة الاستقلالية بقيادة الرابطة الإسلامية وكتلة الوحدويين أو الانضمام إلى إثيوبية الملكية بقيادة حزب الوحدة (آندنّتْ) المدعوم من قبل التاج الإثيوبي.

إضاءات في الفصل الثاني:

• النظام الفيدرالي بالنسبة للإرتريين كان مثل الميتة التي اضطروا في أكلها بعد أن خذلتهم دول التحالف وتقاعست عن نصرة الشعب المقهور... أما بالنسبة للتاج الاثيوبي كانت فرصة سانحة للانقضاض على استقلال إرتريا، وفرض الأمر الواقع باغتصاب أراضيها وضمها على اثيوبيا ... وقد حصل؛

• دور حركة تحرير إرتريا في صهر المسلمين والمسيحيين في بوتقة واحدة إبان النضال السياسي عكس إلى أي مدى كانت يتميز الشعب الإرتري بوعي مقدر عن القضية الوطنية؛

• تأسيس جبهة التحرير في يوليو 1960 وأهم ما جاء في وثيقة أهداف جبهة التحرير ثم بداية الشرارة الأولى للكفاح المسلح في سبتمبر 1961؛

• التطورات التي تواترت داخل الجبهة منذ تأسيسها، بدءً بنظام المناطق وما صاحبها من سلبيات وإيجابيات مرورا بالمؤتمرات العسكرية التنظيمية العديدة، وما نتج عنها من انشقاقات داخل الثورة ثم الصراعات الفكرية التي تفشت في الساحة وبالأخص داخل جبهة التحرير ـ لاسيما بعد المؤتمر التنظيمي الثاني عام 1975 وظهور تيارات أيديولوجية بقوة: يسارية منها وإسلامية وعروبية، والغلبة التي آلت لحزب العمل اليساري داخل الجبهة، هنا بدأت تفكر المجموعات الأخرى في تأطير نفسها ولكن كانت المحاولة متأخرة قليلا، إذ كانت قيادات حزب العمل قد تمكنت من المجلس الثوري واللجنة التنفيذية، وكانت فطنة لتحركاتهم فاستطاعت من إقصاء معظم خصومها السياسيين إما سجنا أو تصفية جسدية؛

• ولكن نسبة للصراعات التي استفحلت والحروب الأهلية التي كانت تدور رحاها في عقد السبعينات لم تصمد الجبهة وودعت الساحة مع بداية عقد الثمانينات بعد عشرين عام من وجود عسكري ونضالات مقدرة معتبرة في ساحة القتال ضد المستعمر الاثيوبي.

• ولقد حاول المؤلف أن يجتهد في أسباب هزيمة الجبهة وخروجهم من المولد بلا حمص كما يقول المثل، وفي غياب معلومات دقيقة من الذين كانوا أطرافا في الصراع أو دراسات علمية سبقت، ذكر المؤلف تسعة عوامل أدّت إلى هزيمة الجبهة، ومن ضمنها:-

1. طبيعة المجتمع المتراخي الذي كان المكون الأساسي للجبهة قيادة وقاعدة؛
2. التطورات العسكرية لم يصاحبها تطورا تنظيميا وإداريا؛
3. سياسة العلاقات الخارجية للجبهة؛
4. تحالف الجبهتين الشعبيتين (إرترية وتغراي) ضد الجبهة في الحروب الأهلية الأخيرة؛
5. تمرد قيادة الجبهة على الواقع الاجتماعي السائد؛ الخ (ص: 147-163)؛

• بعد هزيمة الجبهة ودخولها السودان عام 1981 وخروج قيادات التيارات الأخرى من السجون بفعل الهزيمة، بدأ أفراد التيار الإسلامي يتحسس وجوده ويجمع أنفاسه ليكوّن منظمة الرواد المسلمين الإرتريين في نفس عام دخول الجبهة إلى السودان. وكان قد سبقهم شباب إسلاميون يدرس معظمهم في جامعات السودان ومصر والسعودية في إنشاء عمل إسلامي تحت مسمى "الحركة الإسلامية الإرترية".

الفصلان الثالث والرابع يتناول فيهما المؤلف جذور الحركة الإسلامية الإرترية وكذلك نشأة حركة الجهاد.

في الفصل الثالث:

والذي جاء في 66 صفحة، يوثق الباحث للحركة الإسلامية الإرترية بظهور العمل الحركي للإخوان المسلمين في عام 1973 وعقد مؤتمرها الأول في عامي 1979-1980 واختيار أول رئيس للحركة... تحدث عن أسماء ربما كانت من الإخوان أو تأثرت بمدرسة الإخوان في فترة دراستها وتأثير فكر الإخوان بصفة عامة على الجو العام في إرتريا في فترة الاربعينات وحتى نهاية الستينات ولكن من غير أن يكون لهم تنظيما يعمل في الساحة.

وتناول الباحث الأسباب التي أخّرت ظهور العمل المنظم للإخوان حتى حقبة السبعينات من القرن الماض، ولقد فسر أحد القيادات الأساسية في الحركة ذلك بـ:-

1. النزعة السياسية الإرترية التي تميل إلى النضال الوطني المشترك بدلا من الصبغة الأيدولوجية في مواجهة الاستعمار؛
2. تأثر الثورة الإرترية بمبادئ داعميها التي كان يغلب عليها التوجه الاشتراكي؛
3. طبيعة النظام الاستعماري الأثيوبي الدموي الذي كان يحارب كل شيء يمت بصلة إلى الإسلام، الخ؛

في هذه الفترة التي شهدت ولادة الحركة الإسلامية ظهرت صراعات موازية تحولت إلى صدام علني بعد أن كانت تتم في الخفاء بين ثلاثة توجهات رئيسية، وذلك عندما بدأت العناصر اليسارية محاربة التوجه العربي والإسلامي داخل جبهة التحرير بعد سيطرتها على مفاصل التنظيم.

يقول الباحث: بعد المؤتمر الثاني ظهرت ثلاثة تيارات: حزب العمل؛ والجماعة الماركسية اللينينية (فالول) والتيار ذو التوجه العروبي والإسلامي (تحالف البعثيين والإسلاميين، وكذلك المستقلين وتم تكوين كيان سري تحت مسمى: التجمع الوطني الديمقراطي). فما كان أمام التيار الآخر إلا أن يحسم المعركة لصالحه بعامل القوة.

العناصر الإسلامية داخل الجبهة كانت قد ظهرت في مسارات أربعة في تلك الفترة وتمثلت في:-

• اتجاه تبنى تصحيح المسار من الداخل (والذي كوّن فيما بعد منظمة الرواد المسلمين الإرتريين؛
• اتجاه تبنى المواجهة المسلحة (مجموعة سعيد حسين وصحبه)؛
• اتجاه نشط في النواحي الثقافية مثل إدخال المصاحف للمقاتلين والشعب؛
• اتجاه نشط في أوساط المنظمات الجماهيرية واستقطابهم (جزء من هؤلاء كانوا النواة في تكوين الحركة الإسلامية الإرترية)؛

وبعد تكوين منظمة الرواد في عام 1981 لم يكن عسيرا أن تلتحق المنظمة الوليدة بالعمل الإخواني القائم والذي سبقها بسنوات قليلة في تكوينه وأصبحت شبه الناطقة باسم الحركة الإسلامية الغير معلنة والتي بدأت تنشط تحت مظلة الرواد.

الحركة الإسلامية/منظمة الرواد المسلمين مع أنها تتبنى منهج الإخوان إلا أنها لم تكن تابعة تنظيميا للتنظيم العالمي، ومنطلقات منظمة الرواد في فهم طبيعة الصراع الإرتري - الإثيوبي وتركيبة المجتمع الإرتري وأهدافها المعلنة حينئذ كان ترسيخ مبدأ المساواة بين المواطنين. وفي فترة ما بين 1981 -1987 عقدت الحركة الإسلامية 5 مؤتمرات كان يتم فيه مناقشة البرامج وتوجهات الحركة واختيار قيادة العمل.

حوارات القوى الإسلامية من أجل التوحد:

وبعد تكوّن منظمة الرواد في عام 1981 بسنة بدأت الحوارات بين الجبهة الإسلامية لتحرير إرتريا ومنظمة الرواد - كانت الجبهة الإسلامية بقيادة عمر حاج إدريس، ذات توجه سلفي-، وعقدت مؤتمرها الأول عام 1985 بحضور مؤسسها من السعودية. تواصلت الحوارات بين التنظيمين - منظمة الرواد والجبهة الإسلامية -في فترة ما بين 1982 إلى 1988 إلا أنه لم تحققا تقدم يذكر ولم تتم الوحدة بينهما ويرجع ذلك لسبب واضح وهو اختلاف المدرستين اللتين ينتمي اليهما التنظيمان.

في مؤتمرها الأخير وقبل الوحدة وتكوُّن حركة الجهاد اختارت الحركة الإسلامية الشيخ محمد إسماعيل عبده على رأس قيادتها للعمل التنظيمي، وفي هذا المؤتمر أقرّت الحركة مواصلة الحوارات مع الجبهة الإسلامية لتحرير إرتريا للتوحد معها... (المتابع لهذه الأحداث يصعب عليه إدراك إن كانت هناك تباينات واضحة أو تجاذبات بين أفراد قيادات الحركة بخصوص الوحدة مع السلفيين... وإن كانت، كيف حُسمت... في غياب الشفافية وطبيعة الحركة السرية وشح المادة التاريخية والإعلامية وغياب تنوع المصادر التي تُنقل منها المعلومات لم تساعد الباحث للغوص عميقا... أي مثلها مثل التنظيمات اليسارية التي كانت تتبوأ القيادة داخل الثورة الإرترية، يتعسّر على الباحث معرفة الحقيقة كاملة... ربما الأسئلة الجريئة والنبش في المتخفي - كما يقال - والبحث عن التفاصيل لكان أجدى في أمور ومواقف مثل هذه. لاسيما أن هذه المسألة بالتحديد كانت مصيرية للحركة الإسلامية ولجميع الإرتريين وما يزال يخيم ظلالها في كثير من المواقف والتحليلات.

يستنتج الكاتب بالنظر إلى تاريخ الحركة الإسلامية الإرترية في مرحلتها الأولى، منذ مؤتمرها الأول وحتى تكوّن حركة الجهاد (1980-1988) حوالي 16 نقطة، وجميعها جديرة التمعن إلّا أنني أكتفي في هذا المقال بذكر البعض:-

• بداية العد التنازلي لتنامي تيار اليسار في أوساط الإرتريين المسلمين مع ضعف جبهة التحرير كان جليا؛

• بروز الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا كقوة عسكرية ضاربة في الساحة الإرترية ثم حسمها المعركة ضد العدو لصالح الثورة الإرترية، وكذلك ما صاحبها من مواقف سلبية في بعض قضايا المسلمين (التجنيد الإجباري للبنات)؛

• إنشاء مؤسسات تعليمية جديدة وتطوير ما كان قائما في الداخل ومناطق اللاجئين، وكان لهذا فوائد ملحوظة للحركة وأفرادها بصفة خاصة ثم عامة الإرتريين في المهجر؛

• وضع الحركة الإسلامية السودانية الفاعل والمؤثر في الساحة السودانية ووجود بعض القيادات من أصول إرترية في مستوى متقدم على هرمها القيادي أفاد الحركة الإسلامية ماديا ومعنويا؛

• تداول السلطة داخل الحركة الإسلامية وتجديد الدماء في قياداتها بالاستمرار حيث عقدت 5 مؤتمرات خلال 9 سنوات؛

• عدم تعرض الحركة إلى انشقاقات داخلها، وسمة التجانس الفكري والسياسي الذي كان بارزا وحافظ على نسيجها، حتى عرّضت نفسها لوحدة مستعجلة وغير مدروسة (فتأخرت لعقود)؛

• ومما يؤخذ على الحركة - في الجانب الآخر - تركيزها على فئة محدودة من الصفوة المتعلمة، إذ لم تكن تيارا جماهيريا... كما أنها كانت ومازالت حركة مغتربة، نشأت وكبرت خارج الوطن ولذلك نتائجه السلبية لفهم الواقع كما يجب وتحليله تحليلا صحيحا، كما تعاني من صعف إعلامي؛ (راجع ص: 220-224)

الفصل الرابع - نشأة حركة الجهاد الإسلامي:

في هذا الفصل، في 87 صفحة تناول الباحث نشأة حركة الجهاد، والدور الفاعل الذي لعبته الانتفاضة الشعبية التي عمت بعض مناطق شرق السودان في عام 1988 إثر قيام الجبهة الشعبية بتجنيد إجباري للفتيات في مناطق عدة داخل إرتريا، حيث كانت عنصرا حاسما وسرّع بقيام الوحدة بين فصيلي منظمة الرواد والجبهة الإسلامية، ظهرت مجموعة في كسلا تحت مسمى لجنة الدفاع عن المستضعفين وأخرى في مناطق اللاجئين باسم لجنة الإصلاح والوفاق الإسلامي للإرتريين.

الفصيلان الرئيسيان في هذه الوحدة عندما شعرا بهذه الهبّة الشعبية وتسارع وتيرة الحشد الشعبي تناسوا اختلافاتهم المدرسية والمرجعية والتحقوا بالانتفاضة، وإلا كان سيسحب البساط من تحت قيادات التنظيمين، وربما لفظتهم الجماهير. وبالحسابات السياسية الآنية في تلك المرحلة يعتبر ذلك القرار قرارا صائبا، ولكن كان له تبعات سالبة من منظور استراتيجي وبالتالي لم تكن الحسابات موفّقة.

فكان تأسيس حركة الجهاد الإسلامي الإرتري في نوفمبر 1988 على أمل، أنّ هذا التوحد - في آخر المطاف، وكما ذكر الباحث - ومن خلال تمازج الأفهام والآراء بين قاعدة الفصيلين ينتج عنه أسلفة الإخوان وكذلك أخونة السلفيين، فينشأ توجه جديد خليط من التنظيمين، إلا أن هذا التفاؤل كان مبالغا فيه. والأيام اثبتت ما كان ذلك إلا اجتهاد حالم فيه كثير من السذاجة وعدم النضج السياسي.

هنا تساؤل يطرح نفسه، هل قيادات كلا الطرفان كانت تطمع أن تستأثر بالكيكة كلها من هذه الوحدة؟؟ وذلك من خلال التحكم على موارد وقواعد الطرف الآخر، فتكون الغلبة لأكثر محنك أم ماذا؟ ربما كان كذلك، وعندما شعر أحد الطرفين أنه خاسر من هذه الوحدة تمرّد عليها وأعلن انشقاقه.

في المؤتمر التأسيسي لحركة الجهاد قُدّمت ثلاث أوراق: السياسية والتنظيمية والجهادية، ومما جاء في البيان الختامي:

إن الحركة تقوم على عقيدة أهل السنة والجماعة وعلى فهم السلف الصالح ووصفت الجبهة الشعبية بالقوة الصليبية في إرتريا.

ذكر الباحث آراء عدة كتاّب وباحثين ومن توجهات مختلفة الذين تناولوا أسباب ظهور حركة الجهاد وكذلك رؤية قيادات وكوادر الجبهة الشعبية - بالإمكان الرجوع إليها في ص: (252-257)

رؤية الجبهة الشعبية:

تعامل قيادة الجبهة الشعبية مع الظاهرة كان من منطلق الإقصاء ونفي كل شيء، وكان فيها شيء من اضطراب واختلاف في التوصيف... كما أنها لم تناقش قط المنطلقات الأيدولوجية التي تتبناها حركة الجهاد... فكان ينقص خطاب الجبهة الشعبية منطق الحجة، بل تصويرها بأنها فتنة قادمة من الخارج... فغيّبت العقل النقدي. هل هذا كان متعمدا حتى لا تعطي للحركة قيمة أو زخم إعلامي او لفت النظر إليها أكثر مما يجب ؟ أم كان ذلك مبلغ علمهم بها وعنها في تلك المرحلة؟ - أقول تلك المرحلة - لأن فيما بعد ظهرت دراسة لكادر من كوادرها.

ويستخلص الباحث من مناقشته لنشأة حركة الجهاد إلى:-

• إن الوحدة تمت تحت ضغط الأحداث الكبيرة، والهبة الشعبية، فلذلك سيطرت على سطح وسقف العمل الصورة الحماسية والعفوية بدلا من النزعة التفكيرية والتخطيطية؛

• تراجع في قراءة الواقع الإرتري المعقد وتشابكاته، والأمور التفصيلية الأخرى فيه - خاصة للحركة الإسلامية؛

• إن تحليلات الواقع الإرتري في أوراق المؤتمر وأدبيات الحركة بعد المؤتمر التأسيسي صاحبها كثير من الإشكاليات: تغييب الطرف المسيحي الشريك في الوطن؛ تجاهل المعركة الأساسية مع أثيوبيا إلا من الإشارة إليها عرضا؛ وبالمقابل التأكيد والتركيز لإثبات المعركة مع الجبهة الشعبية والتي وصفت في البيان الختامي "بالصليبية"...

هذا التحليل وهذا التوجه يعتبر مصادرة للرأي العام الإرتري من ناحية، وترك لدي المسيحيين الإرتريين صورة سلبية عن الحركة من ناحية أخرى (ص: 259-261)

ثم يضيف الباحث: كان حريّ على قيادة حركة الجهاد توضيح المسائل الآتية:-

• التفريق بين المسيحيين وتنظيم الجبهة الشعبية، وأن ترسل رسائل واضحة للمسيحيين وتتبناه في خطابها، بأنها ليست ضد المسيحيين بل تناضل من أجل إرجاع حقوق شريحة كبيرة من المجتمع تعتقد أنهم قد ظلموا، وتحقيق العدل لجميع المواطنين، لكانت قد قلّلت من الفرز الصارخ بين المسلمين والمسيحيين أو على الأقل حيدتهم لو اختلف نهجها بهذا الشأن؛

• كان من الضروري توضيح نقاط الاختلاف والاتفاق مع الجبهة الشعبية حيث لم تكن كلها شرا محضا كما كانت تعكس أدبيات الحركة، بل كانت الجبهة الشعبية فصيلا وطنيا يكافح من أجل تحقيق طموحات الشعب الإرتري في الاستقلال... وأدار المعركة بكفاءة واقتدار. بعبارة أخرى، أن عموم الشعب الإرتري بما فيه حركة الجهاد لم يختلف مع الجبهة الشعبية حول أهداف الاستقلال ولم يختلف حول وسائل الكفاح المسلح المحققة لتلك الأهداف، بل الاختلاف كان منشأه حول المنطلقات الفكرية وأسلوب تعامل تنظيم الجبهة الشعبية مع القضايا الداخلية الحساسة، كتغليب الثقافة التغرنية ورجالاتها على حساب الثقافة العربية... لو كانت هذه الأمور واضحة في خطاب الحركة ربما لكان لها صدى إيجابيا؛

• أما على صعيد العمل العسكري كانت رؤية الحركة تعتريها الضبابية وانحراف عن الهدف الرئيسي الذي من أجله ناضلت أجيال من الإرتريين.

حركة الجهاد والتصدعات الداخلية:

التباين الواضح في الرؤى والتصورات بين المكونين الرئيسيين ومع غياب دليل عملي واضح ومنضبط للتعامل مع أي اختلافات محتملة... أحدثت التصدع داخل الحركة. وفي الأول من أغسطس 1993 قامت مجموعة أبو سهيل بإصدار بيان واصفةً خطوتها بالتصحيحية، عزل القيادة لانحرافها عن جادة طريق الجهاد، ثم تبع ذلك بيان آخر من مجموعة عرفة تدين فيه الانشقاق، فتمايزت الصفوف. ومن ذلك التاريخ أصبحت الحركة بجناحين رئيسيين إذ رجع كل من الطرفين إلى قواعدهم سالمين، ولربما غير غانمين - سالمين، لأن التاريخ لم يدوّن حدوث أي مواجهات دامية بين الفصيلين بعد الانقسام، وهذه تعتبر محْمدة للطرفين.)

بعد الانشقاق وجد العنصر الإخواني الأريحية أن ينطلق بالمبادئ الأساسية والرؤى التي يتبناها لمعالجة الحالة الإرترية والتي كانت الوحدة تعيق حركته فيها. فعقدت الحركة مؤتمرها الثالث وغيرت فيه اسمها إلى حركة الخلاص الإسلامي الإرترية وأصدرت فيه بعض القرارات. ومما جاء في الميثاق السياسي الذي خلص عليه المؤتمر ووضح استراتيجية الخلاص المستقبلية، تغيير بعض المفردات التي لها دلالة مثل تغيير كلمة أمير بأمين عام، وإقرار مفهوم الشورى الملزمة؛ وأن حركة الخلاص تدعم التعددية السياسية في إرتريا؛

ولكن أبقت في ميثاقها أنا ماتزال حركة جهادية ويقوم منهجها على منهج الكتاب والسنة (مع حذف عبارة على فهم السلف الصالح)؛ وأيضا من ضمن أهداف الحركة:-

• إعلاء كلمة لا إله إلا الله وإقامة الدولة الإسلامية؛
• وتوحيد المسلمين: وتمكين اللغة العربية، ثم تأتي بعد ذلك هدف إزالة الظلم وإقامة العدل ... الخ
• وتغيّر نعْت حكومة الجبهة الشعبية بحكومة طائفية ديكتاتورية، بدلا من صليبية؛

ومما سبق يستنتج الباحث:
إن الخطاب السياسي للحركة رجع إلى ما كان عليه قبل الوحدة وأصبح أكثر اتزانا؛
إلا أن جلّ اهتمامها كان موجها للمسلمين ولم تخاطب الشريك الوطني، وتبنيها لمبدأ إقامة دولة إسلامية لم يزيل الضبابية التي أحدثتها أدبيات حركة الجهاد؛
حركة مغتربة تنشط في الخارج وتنطلق منه مما له الأثر السلبي ثقافيا واجتماعيا وسلوكيا عن البيئة الحقيقية، إن البقاء لفترة طويلة خارج الوطن لا محال يؤثر في معالجات قضايا الوطن... الخ، راجع الكتاب في صفحات (283-288) وخلاصة الباحث في ذيل صفحة 288

ثم عقدت حركة الخلاص المؤتمر الرابع بتاريخ 2004/8/17 وفيه أيضا تم تغيير الاسم إلى الحزب الإسلامي للعدالة والتنمية. ربما تيمنن بأحزاب تعمل في تركيا والمغرب.
يرى الباحث أن هذا المؤتمر كان ذلك نقلة نوعية للحزب من حيث الممارسة السياسية وعلاقة الحزب بالدول المجاورة: ص (298-303)

موقف الحزب من القضايا الهامة بعد المؤتمر الرابع:

من النظام الحاكم في إرتريا: أي أنه نظام ديكتاتوري غير شرعي (يلاحظ التدرج في وصف النظام من صليبي إلى ديكتاتوري عبر السنين)؛
من التعايش السلمي في إرتريا: يعتبر الحزب الوحدة الوطنية حجر الزاوية في بقاء إرتريا كدولة وشعب... وهو إحساس بوحدة الأهداف والمشاعر، كما هو إحساس بوحدة الأرض... احترام الأديان وإقرار الحقوق والمساواة أمام القانون... ونشر ثقافة التسامح والتعايش... وبناء الثقة من خلال انخراط الجميع في الحوار الجاد؛
من طبيعة نظام الحكم بتبني الحركة الإسلامية بعد مؤتمرها الرابع: إقامة دولة القانون والعدالة، وتبني الديموقراطية في تحقيق ذلك، وتشكيل الأحزاب السياسية، وإقامة نظام حكم برلماني لا مركزي؛

وفي ورقة قدمها القيادي السابق الأستاذ حامد تركي في سمنار الجمعية الإرترية للسلام والديموقراطية بالسويد في عام 2002 (الثوابت الوطنية الإرترية والعوائق التي تحول دون الإجماع الوطني حولها) بين فيها توجه الحزب وخارطة الطريق التي يمشي عليها، ثم تبلورت هذه الرؤية في المؤتمر الرابع.

وفي خاتمة الكتاب: في الفصل الخامس تناول الباحث وبإيجاز نتائج ما توصلت إليه الدراسة وما رصدته عن الحركة الإسلامية الإرترية والتطورات التي صاحبتها ومدى استقرار الذي تتمتع به من النواحي التنظيمية والإدارية، كما أن الباحث لم يتجاهل السلبيات التي تكتنفها. بالإضافة إلى مقترحات وتوصيات.. كان هذا الفصل في حدود العشر الصفحات.

جدير بكل باحث أو دارس أن يطّلع على هذا الكتاب، بل أنه كتاب قيم لاقتنائه كمرجع لكل دارس وباحث أو مهتم، وإضافة نوعية للمكتبة الإرترية التي بدأت تنمو في السنوات الأخيرة، ومصدر موثق عن الإسلام الحركي في إرتريا.

فهنيئا للكاتب وللقارئ.

Top
X

Right Click

No Right Click