مساءلة العالم في رواية تيتانيكات أفريقية

بقلم الأستاذ: عبدالمنعم المحجوب المصدر: العربي الجديد

تذكّرنا "تيتانيكات أفريقية" بنخبة من روايات قصيرة Novella تشغل المتخيَّل السردي الذي يناظر ويستلهم سرديّات الواقع العنيف.

تيتانيكات أفريقية 3 إنها علامات مضيئة في تاريخ الرواية. أتذكر "قلب الظلمة" لجوزيف كونراد الذي توغل في غياهب أفريقيا عندما كان الإنسان هناك يستعد لاستقبال تحوّلات الهويّة، ولكن كونراد كان متأثّراً بالتعميمات الأنثروبولوجية التي كانت رائجةً في عصره. حسناً كان "تشارلي" يرحل إلى أفريقيا مختاراً، ولكننا في هذه الأوديسا الصغيرة نرافق الآن "أبدار" الذي يرحل إلى أوروبا مضطراً.

الثيمة الرئيسية لرواية "تيتانيكات أفريقية" هي الهجرة، سوف أقول: بل هي تلك اللحظة الإنسانية بالغة الكآبة التي تعيدنا إلى أنفسنا وتنزع عنها غشاء التردّد عندما نقرّر الهجرة.

أبوبكر حامد كهال يعيش في زمن يشهد اضطراب الهويات وتشكّلها المؤقت، وبحثها الدؤوب والمستمر عن تجليّات جديدة. الهوية ليست لا نهائيةً، وهي لا تجري في دمائنا، هي موضوع اختيار ذو صلة بإحداثيات معتادة ومتداولة مثل المكان والزمان واللغة والمال، ونحن إذا قمنا بتبديل هذه الإحداثيات فإن الهوية تتغيّر تلقائياً. وعندما يكون الروائيّ منخرطاً في عمق المأساة التي يتحدث عنها، فإننا نقرأ ولا بد عملاً عظيماً كما نفعل الآن. كهال لم يدخل من باب الأنثروبولوجيا، ولا من باب الدفاع المضمر أو المباشر الذي نجده في روايات أخرى (غربية غالباً) تناولت موضوع الهجرة واكتفت بتوثيق مشاهد متخيَّلة عابرة، بل كان صوته ينبثق من عمق أحداث مرّ بها أو عاصرها، ومن واقع تجربة شخصية؛ إنه هنا ابن زمنه. السردُ يرافق الواقع، والسارد ليس حكّاء يجلس على طرفٍ قصيّ، إنه يستنجد بالعالم عندما يضع أمامه جانباً مختلفاً من حيوات مجهولة لم تُفهَمْ لأناسٍ بعضُهم لم يتمكّن من العبور أبداً، وهو بذلك يسائل العالم أيضاً ويرمي في وجهه قوانين الهجرة ولوائحها وتلك الإجراءات التي تحالفت بها حكومات شمال المتوسط ضد الآخر، الغريب، المجهول، وغير الموثوق به.

الأفارقة لدى كهال شخوص تصنع مصائرها، وتنخرط في محاولات متتالية لتشكيل هوية مختارة بإرادة مسبقة، دون التنازل عن الهوية السابقة والمألوفة، من خلال تغيير المكان الذي يمنح الهويّة أسبابَ اكتمالها. إن بعض المحاولات يائسٌ لا رجاءَ وراءه، ومعظمها عنيدٌ لا يعترف بالفشل، لأنه يؤمن باختيارات الإنسان في كل مكان وحتميّة نجاحها.

الصّراع بين الهويات، من ناحية، وبين الهويّة والأمكنة، من ناحية أخرى، موضوعٌ يسكن رواية "تيتانيكات أفريقية" في العمق، إننا نعثر هنا على هويّات متجاورة، متلامسة، متضادّة، محايدة، محمولة، محلوم بها، ... إلى آخر الأوصاف التي يمكننا التعبير بها عن أوضاع الهويات في العالم، لا في استقرارها بل في اصطراعها ووقوفها الصلب أمام بعضها بعضا. ومثلما نسمع في "تيتانيكات" صليل جرسٍ يخبو حيناً ويرتفع حيناً آخر، ولكنه يظل دائماً ذلك الجرس الذي "يدور، ويدور بلا رحمة، ملقحاً العقول بجرثومة الهجرة"، فإننا نلمس أيضاً ونتشبث بتلك الرغبة في بناء الذات وصنْع الأفضل. إن الذوات التي تنبثق من أمكنة شاسعة ومختلفة تحلم أن تنحشر في قارب صغير متداعٍ ليعبر بها برزخاً مائياً متلاطماً حيث يمكن الوصول إلى مرفأ أخير يمكّنها من ولادة ثانية، ولكنها ولادة مختارة، ومخطّط لها جيداً، وهي لا تشبه – على سبيل المثال - استعادة ذاتٍ متضرّرة، كما نجد في رواية إيليشي آمادي Elechi Amadi "المحظية"، كما أنها لا تشبه إعادة ترميم للذات في ارتباطها بالمكان واستسلامها لسيطرته، كما نجد لدى شينوا أشيبي Chinua Achebe في رواية "أشياء تتناثر"، بقدر ما هي تفعيل الذات لاجتراح المستحيل والوصول إلى اللاأين. كهال يقف خطواتٍ أخرى بعدُ، وهذا "التحليم" (نسبةً إلى حلم) هو إضافة "تيتانيكات أفريقية" المتميزة للسرد الأفريقي.

إننا إذ نقرأ هذه الرواية نلمس ثراءً سردياً يعمّق فهمنا لهذا الموضوع ويساعدنا على دعم موقف الروائي والتمسّك به. إن القرّاء الذين لا يقفون على الحياد عندما يقرؤون الرواية إنما يستمتعون أيضاً بقراءتها. نحن هنا أمام نمطٍ من "المعرفة الممتعة" التي تحوّل المأساة أحياناً إلى تهكّم من كل شيء في الحياة دون أن تسيء إلى رحلة الشخوص وانفعالاتها على عتبة مصائرها المجهولة. إنه تهكّم الوعي الذي يعني تماماً عدم اليأس. يقول أبدار: "لقد توصّلت بعد دراسة عميقة – عادةً ما تكون دراستي عميقة جداً – أقول، توصّلت إلى العثور على وجه الشبه، بين جرسنا الذي أسكرتنا دقّاته وانتزعتنا من حياتنا الهادئة (كانت حياة على كل حال)، وبين جرس آخر مماثل له، كان الانقياد لفتنته منقطع النظير".

عندما نفكّر في "تيتانيكات" كحكاية يمكن أن تحدث كل يوم، يصيبنا الجزع لأن كهال أنهاها على هذا النحو المفاجئ. هل كنّا نتوقّع نهاية أخرى مختلفة ؟ أم هل كنا نريد لملحمة المعاناة أن تستمر؟ ربما هي رغبتنا التي ترجو أن ينتهي الأمر بنوع من النجاح أو الوصول إلى الشاطئ الآخر وإزاحة القلق الذي تلبّسنا منذ الصفحة الأولى وهو يقول لنا: "كنت مرهقاً من التجوال والمشاوير الكثيرة"، أو أن يصمت ذلك الجرس الذي يقرع بصخب في رؤوسنا، جرس الهجرة... أو أن يستمر في بُعدٍ آخر، لعله الشّعرُ الذي لم يهمله كهال في هذه الرواية.

في هذا الكتاب (دراسة في البنية السردية والهوية ورؤيا العالم) سوف يعرّفنا ناصر السيد النور - ببراعة الناقد البنيوي الذي يحيط مجهره بعيّنة نادرة - على قابليات القراءة التأويلية في رواية "تيتانيكات أفريقية" وانتقالها بين التأويل والتخييل، وبين تضافر الحكايات الداخليّة التي تصنع في مجموعها مساراً سردياً واحداً متكاثفاً. هنا سوف نتعرّف على المنحى السردي وبنيته بما تحمله من رمزية وتناص وإيقاع، وبما يعتمل في باطنها من مكوّنات تُجمِل رؤيةَ العالم من منظور الهويّة، ولعلّي أقول: الهويّة المتخيَّلة، إذ لا هويات مهمّشة في مقابل هويّاتٍ هي متنُ الوجود، بل ليس من هويّة للإنسان سوى إنسانيته. وتلك هي رسالة أبوبكر حامد كهال.

Top
X

Right Click

No Right Click