الهشّْ حكاية وطنْ

بقلم الأستاذ: أمين شوكاي المصدر: صحيفة الراكوبة

تعدُّ رواية "الهشّْ" - التي قامتْ بطباعتها ونشرها مؤسسة "أدالْ" الفضائية للصّحافة والنشر- العمل الروائي الخامس للشاعر والروائي

والصحفي الإرتري/ أحمد عمر شيخ،، و "أحمد" هو أول مَنْ كتب الرواية باللغة العربية في إرتريا "بعد قيام الدولة" وذلك بعد عمل المناضل الإرتري الكبير والقائد الراحل/ محمد سعيد ناود "صالح - رحلة الشتاء" وتمَّ ذلك في العام "1997" عبر روايته الأولى "نورايْ" والتي أعادتْ طبعها عاصمة العواصم العربية "القاهرة" من خلال "الهيئة المصرية العامة للكتابْ"،، ورواية "الأشرعة" التي كتب عنها كبار الكتَّاب العرب وعلى رأسهم الروائي المصري الكبير/ يوسف القعيد ومهرها الراحل الأستاذ/ محمد سعيد ناود أيضاً بمقال تشجيعي حينها،، ورواية "أحزان المطر" التي قال عنها الكاتب الإرتري  محمود أبو بكر بأنَّ الشاعر العربي الكبير/ محمود درويش أعجب بها واكتشف شاعرية صاحبها.

هذا وكُتبتْ هذه الروايات ومانحن بصددها الآن "الهشّْ" في داخل "إرتريا" وعنها،، بحيث غاص الكاتب/ أحمد عمر شيخ في الواقع وعاشه كجزء أصيل منه،، وتعرض لما تعرض له من سجون وحارب كمقاتل على الجبهة في الحرب الحدودية الإرتيرية الإثيوبية الأخيرة،، ومن هنا تكتسب الكتابة لديه قيمتها الفنية والأخلاقية والسياسية،، والتزامها وصدقها الحياتي والفنّيْ.. وهو ماجعله حاضراً دائماً في صدارة المشهد الأدبي ومنذ سنوات طويلة بلا منازع وفي مجالي الشعر والرواية،، وفي كلّ المنابر والعواصم العربية كأول إرتري يتم إجراء حوارات صحفية معه،، والوحيد ربما حتى الآن ممن تناولتْ كتاباته الشعرية والروائية أقلام عربية مهمة مثل "فاروق شوشه" و" طالب الرفاعي" و"رمضان سليم" وغيرهم كثربما يعدُّ فخراً لكلِّ إرتري وإرتريَّة.

ولم يقتصر إبداع احمد عمر شيخ على الرواية فقط بل هو شاعر متفرّد له ثلاث إصدارات لأعمال شعرية والرابعة في الطريق حسب ماكتب في نهاية الرواية بأن هناك ديوان "مِنْ اغانيْ الجنود" كمخطوط. هذا فضلاً عن نشره للعديد من القصائد الشعريَّة على اليوتيوب بصوته الشجي المميز وهي "معلقة الأحباشّْ و البيرقو إيتاليا و الأصدقاء وأبو تمّام والموبايل". كما ألَّف مجموعة من القصائد الغنائية تغنّى بها نخبة من الفنانيين الإرتريين والسُّودانيين وعلى رأسهم الفنان السوداني الكبير/ محمد وردي. هذا وله فيلم بلغة "التغرينّية" تحت عنوان "حبٌ لايموتْ".

ففي العمل الروائي الجديد "الهشّْ" يطرح الكاتب/ أحمد عمر شيخ وكما عوّدنا من قبل في رواياته السابقة العديد من الموضوعات الحيوية المفعمة بحبِّ الوطن والتضحية من أجله،، فضلاً عن بعض المواقف الرومانسية التي تحلِّقُ بالقاريء في عالم زاخر بالعواطف الجياشة والقيم الإنسانية النبيلة.

تبدأ الرواية بإهداء : إلى مَنْ صبروا وثابروا،، وضحوا من أجل أنْ يبقى الوطن شامخاً ومستمراً في الوجود لتتبعها مقاطع شعرية تنضح بهموم الوطن وجراحاته. الرواية مكتوبة بلغة شعرية ولكنها سلسة الفهم والاستيعاب وتحوي عدداً من الفقرات المتتالية والمرتبة في تناسق جميل بحيث تنقل القاريء من مشهد إلى آخر دون أنْ يحسّ بأي انقطاع للأفكار والموضوعات التي تحويها،، فهي تغوص بالقاريء في فضاءات طبيعة وجغرافيا الوطن الإرتري،، حيث يعرِّجُ بنا الكاتب مِنْ "أسمرا" إلى "عدي أبيتو" و"ماي سروا" و"توكر" ..إلخ حتى يصل بنا إلى "صنعفي" في الجنوب و"أغرداتْ" و "تسني" و"قلُّوج" في الغرب،، ليعود في نهاية المطاف إلى "أسمرا".

في الفقرة الأولى من الرواية يصف الكاتب جمال الطبيعة وسحر المكان الذي تتمتع به "إرتريا" حيث يشرح فيها تفاصيل الحياة في منطقة "قلُّوج" و"أسمرا" والجمال الطبيعي الذي تتميز به تلك المناطق لاسيما في موسم الخريف, فشخصية "حجي صالح بريراي" المتمسكة بتراب الوطن تعكس لنا صمود المقاتل الإرتري العائد من أرض المهجر عقب التحرير ،، فالسيد "حجي صالح" حسب الرواية كان مناضلاً في بدايات الثورة ثم إضطرته الظروف إلى اللجوء للـ"سودان" ليعود إلى "قلُّوج" بعد هزيمة المُستعمر مثل بقية اللاجئين الذين فضَّلوا الاستقرار في تلك البقعة الغنية بمواردها الزراعية, وبالرغم من الفرص المتوفرة في تلك المنطقة إلا أنَّ هناك ثمن لابد من دفعه !! لقد فقد فيها السيد "حجي صالح" ابنه "عبدالنور" بسبب الإصابة بمرض السلّ ليلحق بأخيه "محمود" الذي استشهد في حرب التحرير،، ليزيد هذا الفقد مِنْ آلام والديه الذين أكدا بتحملهما لذلك الفقد الجلل إخلاصهما للوطن رغم كل التحدياتْ.

تتناول الرواية في الصفحتين "13- 14" كيفية التقاء "صابر" ابن السيد "حجي صالح" مع محبوبته الآنسة "ساره تيدروسْ" في مكان العمل أثناء أدائهما للخدمة الوطنية وقصة الحبّ التي نشأت بينهما لتفضي في نهاية الأمر إلى زواج باركته أسرة "صابر" بكل ترحاب،، عاكسة بذلك القيم الثورية التي اكتسبها الشعب الإرتري إبَّان مرحلة النضال والدور الفاعل الذي لعبته تلك القيم في إزالة الحواجز المصطنعة التي حاول المُستَعمِر استغلالها لخدمة أهدافه البربرية كالمناطقية والطائفية والعرقية.

وفي مشهد آخر توضح لنا الرواية التكاتف بين "صابر" و"ساره" في إدارة شؤون معيشتهم ودعم "حجي صالح" لابنه "صابر" من ريع ماله الخاص العائد إليه من دكان الخياطة والمزرعة الصغيرة التي يمتلكها ببلدة "قلُّوج"،، لتؤكّد لنا بأنَّ مبدأ المساواة بين الجنسين والتعاضد سمتان ملازمتان للشعب الإرتري في السرَّاء والضرَّاءْ.

وفي ذات السياق تحكي الرواية في فقرات لاحقة عن إنجاب "صابر" و"ساره" لابنهما "يوسف", وكيف أنَّ "ساره" قررت أنْ تزور أسرتها في "شامبقو" بصحبة ابنها الصغير لتلقى هي وابنها حتفهما جراء انفجار "لغم أرضي" أصاب الحافلة التي كانت تقلِّهم،، إنه "لغم" دفنته عناصر إرهابية لاتمت إلى الإنسانية بأية صلة, عناصر تعتقد بأنها من خلال زرع الرعب والخوف والفتك بالأبرياء يمكنها الاستيلاء على مقاليد الحكمْ. وفي مشهدٍ آخر تحكي الرواية عن الشاب الانتحاري الذي فجَّر نفسه وكذا الهجوم الذي تعرضت له إحدى السيارات المدنية في الطريق بين "أغردات" و"فورتو ساوا" بقذيفة "آر.بي.جي" ليروح ضحيته هنا أيضاً عددٌ من المواطنين الأبرياءْ.

لقد أراد الكاتب من خلال هذا المشهد أنْ يؤكِّد رفض الشعب الإرتري للأعمال الإرهابية التي تستهدف الأبرياء أيا كان مصدرها لاسيما العمليات الإرهابية التي تقودها الإيديلوجيات الدينية كما هو الحال في الشرق الأوسط،، وهناك سطور في الرواية عبر شريط الأخبار وهي تتحدث عن "داعش" و"بوكو حرام" في تناص واضح وتقاطع مع الحدث في الرواية،، ومواصلة لذلك المشهد يصف لنا الكاتب الحزن الذي أصاب "صابر" بسبب تلك الحادثة المشؤومة التي انتزعتْ منه ابنه وزوجته وإقدامه لاحقاً على تبنِّي الطفل المشرَّد "أمانئيل" والذي وجده هائماً على وجهه في أحد طرقات العاصمة علَّه يعوضه عن فقد ابنه "يوسف".

في الصفحة رقم "22" والصفحات التالية تتناول الرواية قصة الشاب "ميكئيلْ" أحد المطالبين بضرورة ضرب الفاسدين - في تناص فني عميق مع "الإنجيل" حيث أنَّ "ميكئيل" في "الإنجيل" هو المدافع عن الحقّ دوماً - حيث يطالب "ميكئيل" في الرواية بضرورة ضرب الفاسدين مهما كان حجمهم لتوضح للقاريء وبأسلوب غارق في الحزن التراجيديا التي رحل بها "ميكئيلْ" عن العالم ؟؟ بما أوقع ألماً لايُوصف لدى أقرانه مِنْ امثال "تيدروسْ" و"صابر" والفنانة "روتْ كحسايْ" صديقته المُقربة وحبيبته القادمة من "واشنطنْ"..

لقد عبَّر الكاتب من خلال شخصية "ميكئيلْ" عن رغبة كل المخلصين مِنْ أبناء الشعب الإرتري في التخلص من المفسدين مهما كانت سطوتهم باعتبار أنَّ ذلك مطلب جماهيري هام،، حيث تنطلق رواية " الهشّْ" مِنْ أهم مبدأ مِنْ مباديء "الجبهة الشعبية" ألا وهو مبدأ "النقد والنقد الذاتيْ" الذي اورده الكاتب في الصفحة ذاتها،، فعن طريق "النقد والنقد الذاتيْ" استطاعتْ "الجبهة الشعبية" إبَّان الثورة أنْ تضمن خلو التنظيم من أي شكل مِنْ أشكال الفساد لتحقق بذلك آمال الشعب الإرتري في الحرية والانعتاق وتكسب ثقة واحترام الجميعْ.

وأضاف الكاتب بأنَّ الفنانة "روتْ كحسايْ" كانت من أشد الناس حزناً على موت "ميكئيلْ" الذي كان بالنسبةِ لها أكثر مِنْ مجرد عشيق تحسُّ بالدفء في جواره ؟! فقد كانت مِنْ أكثر المعجبين بأفكاره الإصلاحية ورؤاه الثاقبة في مجمل القضايا التي تتعلق بالوطن،، فقد كان فقداً للوطن بأسره،، وهو ماجعل "روتْ" ترفض الاستجابة لدعوات من كانوا يغازلونها ويتوددون لها كي تبادلهم الحب وهي تقول دوماً في قرارةِ نفسها بأنه يجب العمل بإخلاص لإكمال المشوار الذي بدأه "ميكئيلْ"،، أي محاربة المفسدين مهما كان حجمهمْ؟!.

في الصفحة رقم "28" والصفحات التالية يتحدث الكاتب عن شخصية "نور عبدالله"،، حسناء "تسنيْ" التي تتميز بجمال اجبر العديد من شباب مدينتها للإعجاب بها كالشاب "عبد الصمد" الذي كان مولعاً بجمالها،، وكيف انها تجاهلتْ كل ذلك ممنية نفسها بإكمال دراستها وتحقيق أحلامها في أنْ تصبح طبيبة ناجحة تعالج المرضى وتسهر على راحتهمْ.

ويضيفُ الروائي بأنَّ "نور" قررت الذهاب إلى "أسمرا" بعد موافقة والديها "سلمى الحاج" و"عبدالله الشريفْ" لتقيم مع أخيها "أحمد" وزوجته "سامية" وتكمل ماتبقى مِنْ دراستها الثانوية،، واصفاً لنا التحوّل الذي طرأ في مظهرها وأسلوب حياتها بطريقة جذابة.

ويضيف الكاتب بأنَّ "نور" أستطاعات أن تحقق حلمها وتلتحق بكلية " أروتا" الطبية بعد حصولها على نتيجة مشرِّفة في امتحان الشهادة الثانوية بـ"ساوا"،، أما "عبدالصمد محجوبْ" الُمعجب بها لحدّ الجنون فقد غادر "تسنيْ" إلى "السُودانْ" بعد أنْ علم برحيلها مِنْ "تسنيْ" إلى "أسمرا" ليجابه مخاطر اللجوء وصعابه ويصبح حاله كالمستجير من الرمضاء بالنار،، كما أنَّ "عامر خليفة" زميل "نور" في الدراسة ترك الكلية متذمراً من أوضاعه الإقتصادية السيئة مدعيَّاً زيارة أهله في "ظرونا" ليعبر الحدود كما فعل "عبدالصمد"،، وهنا أراد الكاتب أنْ يوضح لنا أنَّ الهجرة والهروب من الواقع ليست حلاً بأي حال من الأحوال،، بل من الواجب مجابهة التحديات بكلّ حكمة وثباتْ.

وفي مشهدٍ آخر يوضّح الكاتب كيف أنَّ "صابر" قد أُعجب بـ"نور عبدالله" واعجبت هي به أيضاً،، وكيف أنه وقع في شباك "ريحانه" القادمة من "الدوحة" والتي اقتحمتْ حياته فجأة وبلا استئذان ليصبح فريسة سهلة لنزواتها،، مستغلة الفراغ العاطفي الذي كان يعاني منه،، ليقضيا معاً ليلة حمراء على غرار "ألف ليلة وليلة".. إنَّ "ريحانه" وبالرغم مِنْ أنوثتها الفاجرة إلا أنها لم تستطعْ انْ تُنسي "صابر" قصة الحبّ الصامت الذي جمعه بـ"نور عبدالله" والتي كادتْ - قصة الحبّ - أنْ تصل مبتغاها لولا اختفاء "نور" المُفاجيء بفعل فاعل وسريان خبر اختطافها.

ويبدو أنَّ الكاتب أراد بذلك أنْ ينبه القاري إلى ظاهرة الاختطاف وتهريب البشر التي تفشَّتْ في الآونة الأخيرة لتخلِّف ضحايا ومآسي لاحصر لها،، وكأنه يدعو إلى ضرورة محاربتها بكل السبلْ. لقد خلَّف اختفاء "نورعبدالله" آثاراً غائرة في قلب "صابر" المكلوم،، وليت الأمر ينتهي عند ذلك ؟! فقد هرب "أمان" أيضاً،، ابنه بالتبنِّيْ من البيت عندما ساءتْ أحواله !! ليجد "صابر" نفسه مرَّة أخرى وحيداً بلا أنيس ويشرع هو أيضاً في الرَّحيل إلى عوالم مجهولة.

وبالعودة إلى "عبدالصمد محجوبْ" الذي عشق "نور" مِنْ طرف واحد وهرب إلى "السُّودان" بعد علمه بذهاب "نور" إلى "أسمرا" يوضِّح الراوي بأنَّ أحوال "عبدالصمد" قد ساءتْ في اللجوء بسبب غلاء المعيشة في "السُّودان" ؟! ليضطر إلى خوض عباب البحر والتوجه إلى "أوروبا" عبر إحدى سفن تهريب البشر المتهالكه،، وبينما هو على مقربة مِنْ جزيرة "لامبيدوزا" مع عدد من المهاجرين فإذا به يلمح مِنْ بعيد ومع أضواء الفنار القريبة محبوبته "نور عبدالله" كـ"عروس بحر" ساقتها الأقدار إليه بعد فراق دامَ سنواتٍ عديدةٍ وهكذا صارت رواية "الهشّْ" تعبيراً حقيقياً موغلاً في واقعيته وصدقه وشاعريته ووثيقة أدبية إرتريَّة هامة لمرحلةٍ عشناها ونعيشها بشكلٍ لالبس فيه.

ولتكون "الهشّْ: حكاية وطن" ممهور بالتضحيات والفقد والأحلامْ.

 

Top
X

Right Click

No Right Click