أسير الشعور اللامتناهي بالغياب قراءة في رواية أريترية
بقلم الأستاذ: عبدالجليل الشيخ المصدر: قريش – جريدة عربية تصدر في لندن
”توغل بحضورك المشرق فى دنياى
اعدنى سيرتى الاولى…
عش بين الثنايا واشغل فراغ الذاكره
رش نثار الماء فى هذا اليباب
تغلغل فى مفاصل غربتى..
وامسح غبار الحسره عن جبين الامنيات“.
هذا مقطع من قصبدة ”احزان الرحيل“، صاحبها موغل في الغياب لأنه اسير الشعور اللامتناهي. حيث أختار السكون على الحركة، و الرضوخ لسنوات الأسى و الجراح. و يسعى اليها مثل الفراشات الى النور، و يحترق كالشمعة من أجل الآخرين.
هو عبدالوهاب بن حامد بن علي شيخ، شاعر، روائي اريتري. نشأ وترعرع في مدينة القضارف في السودان.
تأثر بالثقافة الأسرية ممثلة في والده، المصدر الحكائي الأول للسرد التأريخي لأرض الأباء و الأجداد مع واقع مُعاش داخل البيت، حيث يسمع عن الانتصارات الجبهة و تحرير المدن، و انكساراتها، و يقرأ الأدبيات الاريترية التي وضح أثرها في كتاباته مثل أدب عاشق اريتريا الراحل احمد سعد.
كانت الثمانينيات من القرن الماضي مرحلة التكوين و الدراسة في مدينة ذات نسيج اجتماعي و ثقافي يميل للكادحين و مضاد للطبقات الارستقراطية بما يتوافق مع البعد القرائي للأدب الروسي و خصوصاً أعمال فيدرو دوستويفسكي.
كان طموحاً الى الجامعة لكن قسوة الحياة المعيشية و متطلباتها أقوى من الرغبات الذاتية. و من ثمّ أرسلته أشرعة الاغتراب الى مدينة جدة الساحلية شرق البحر الأحمر. حيث يسعى وراء قوت يومه نهاراً، و بجتهد ليلاً لصقل الموهبة و كتابة الخاطرة و الشعر محاكاة للأخرين.
و المساهمة في الأنشطة الثقافية التي تقام في مقر الجالية الاريترية الكائن في حي المصفاة و القريب من محل عمله. حيث عاش ألم الفقد و الاغتراب المكاني مع الاشتياق الى الوطن ممثلاً في مدينة كرن الشهباء.
أنجزها في قصيدة: ”كرن..الحلم و العودة“، منشورة باسمه عبدالوهاب حامد (وهبه)، مجلة ابداع الشهرية،(ص:13)، فبراير1994م، الاتحاد الوطني للشبيبة الاريترية فرع جدة. و من ثمّ الاستمرار في تسجيل الوقائع و الأحداث مع كتابة القصة حتى تبلورت الى الرواية التي عاش فصول سردها الشفاهي حين عمله في مدينة الرياض. المحطة الأهم في حياته، حيث سنحت له الفرصة للألتقاء بشخصيات ذات تجربة و معرفة أشار اليها برمزيات عدة حيث تتلاقح لواعج الأشواق لوطن تلاشي: ”هناك في المدن الاسفلتية البعيدة حيث تتلاقح لواعج الأشواق لوطن تلاشي بين مسام الجراح بمرارة الغربة وافرازاتها الكريهة، إلتقينا“.
الرمز شرارة الذاكرة:
أختار عبدالوهاب أول خيوط الراوية من خلال شخصية تاريخية لتكون نواة لسردية بين الحقيقة و الخيال. حيث ان احدى هذه الشخصيات من الرموز النبيلة الذين يصنعون البدايات مثل الجندي المجهول: ”شارك في صنع معجزة البداية ومهَّد مع زمرة من الشرفاء لشق الطريق المؤدية الي قمة آدال، لكنه وكعادة النبلاء الذين تبهر عيونهم الأضواء آثر الانزواء بعيدًا عن عدسات الشهرة و الاعلام.
في صمته حديث وفي حديثه عبرومعاني يلقيها علي مسامعك فلا تملك إلا الإصغاء، يشدك من شعرة الرأس الي راحة القدم بحديث مطلي بالشفافية و نكران الذات فتصغي وتسلِّم بصدق المقال، ”حامد صايغ“ شخصية خرافية تنتمي الي جيل خرافي إسمه الرعيل الأول. شخصية من الرعيل الأول، الذين يعملون بصمت و يعيشون في صومعة العزلة.
و شاءت إرادة الله أن يكون له شرف اللقاء و تحريك مياه الصمت: في لحظة تجلي نادرة رمينا في بركة صمته حجرًا فخرج الرجل عن صومعة الإعتزال ليدلنا علي ”شرخ في جدار الوطن“. و لإبراء ذمة المصدر التاريخي لابد من إيضاح النوايا الطيبة حين سرد السيرة الذاتية و التجارب قبل توظيفها لتكون نصاً روائيا على لسان الراوي: ”هي ليست محاولة لإقتحام عالم الدراما والخيال فالكاتب يعفي نفسه من الإنتماء الي كوكبة المبدعين بل هي رغبة صادقة في تتبع خيوط السيرة الذاتية لرجال علمونا كيف يُسقي الفولاذ“.
ايها القابع فى زوايا القلب
شد وتر الترانيم الجميله فما لى سواك
حين يتلفع الكون اغنية حزينه
وما لى سواك حين يخضب الحزن الطريق
وعلى المدى تمتد ألسنة الحريق.
تعبت خيول الشوق أرهقها السفر
شاخت حروف الوجد والتحنان..
وعلى حواف الافق إنتظمت قوافى الحلم
وانتحر الكلام..
رواية وطن و أحزان:
هذه ارهاصات أول عمل مجنساً بالقصة القصيرة: ”شرخ في جدار الوطن.. مقدمة، موقع انطلوجيا الاليكتروني، مؤرخ 11 مارس 2018م. و ظلت الفكرة في مخيلته حتى أستقر في أستراليا في عام 2001م:” استلهمت فكرتها من انطباعات احد أبطال الثورة (حامد صائغ) الذي جمعتني به الصدف الجميلة في الرياض“.
و من ثمّ الألفية الثالثة عهد الفعل الإبداعي و النشر بين دفتي كتاب. حيث تم افراغ الفكرة فنياً على الورق لتكون رواية وطن و أحزان، اصدار منشورات مجلة المؤتمر، طرابلس - ليبيا 2006م. هكذا أصبحت الرواية بديلاً عن الوطن الأم في عالم السرد الروائي. و قد نالت الرواية استحسان المثقف الاريتري مع أن القارئ محتار من حيث الجنس الإبداعي بسبب شاعرية اللغة التي ساهمت فيها الشاعرة الليبية حواء القمودي بتقديم المساعدة مع الراوئي الاريتري أبوبكر كهال، حيث ساهما بدور كبير في اصدار هذه الرواية.
و قد أشار اليهما عبدالوهاب في حوار منشوار في المواقع الاريترية: ”والصدف الجميلة أيضا لعبت دورا في طباعة الرواية ونشرها على حساب مجلة المؤتمر ولابد أن انتهز هذه السانحة لأشكر الصديق ابوبكر كهال والأستاذة الصحفية والشاعرة حواء القمودي التي ساهمت في إخراج النص لما وصل إليه“.
كتب كهال عن الرواية في موقع عدوليس في 29 أكتوبر 2007م بقوله: ”صدرت حديثا عن منشورات مجلة المؤتمر بطرابلس بالجماهيرية الليبية رواية (وطن وأحزان) للأديب والروائي الارتري عبد الوهاب حامد المقيم فى استراليا. جاءت الرواية فى 80 صفحة من الحجم المتوسط فى حلة إخراجية مبهرة، تصدرت الغلاف لوحة معبرة مكتظة بالرموز الفنية الموحية. وعلى الرغم من صفحات الرواية الوجيزة، إلا انها تعد ملحمة سردية غزلها بحنكة واقتدار الأستاذ عبد الوهاب حامد مستفيدا من كل أدوات السرد الفنى والحكائي الرفيع المعاصر.
و بلغة بسيطة أتت خالية من الافتعال وشطح الصنعة، لكنها مضطرمة بالحركة والحيوية كلما ارتفع ايقاع السرد. يرصد الروائي بالعين والقلب وقبل ذلك بالروح نضالات الشعب الارتري ابان مسيرة ثورته التحررية“. كما أشار الى العمل الثاني: ”و في الختام لا يسعنى إلا ان أتوجه بالتهنئة للأستاذ عبدالوهاب بصدور عمله المميز هذا وأقول له نحن فى شوق لمعانقة الرواية الثانية فعجل بها وبالتوفيق“.
كتب الأديب الناقد الاريتري محمود لوبينت مقالاً في يناير 2008م منشور في المواقع الاريترية، مجلة النهضة و موقع عدوليس: (رواية وطن وأحزان: أول الغيث قطرة أم بيضة الديك؟). ربما تكون القراءة النقدية الوحيدة التي نجحت في تفكيك الخطاب الثقافي و الكشف عن النسق المضمر في الرواية و اسقاطاتها خلال مرحلة التحرير ممثلاً في تجربة جبهة التحرير الاريترية. حيث أخضع لوبينت الرواية للنقد الثقافي للنص بدلاً من النقد الأدبي، و الاشتغال على مضمون السرد تأريخياً دون التقويم الفني مع إشكالية التجنيس حتى كتب مسوغات الرغبة:
”إذا كنت ترغب في الاطلاع على أدب إرتري هو باكورة أعمال منشورة لكاتب واعد فان وطن وأحزان، رواية تستحق القراءة“. حيث أستكمل القراءة بقوله: ”من باب الفضول ليس إلا بدأت في قراءة رواية وطن وأحزان، للأخ عبدالوهاب حامد. وكنت أتوقع أن أضعها جانبا بعد دقيقة أو دقيقتين نظرا لانقطاعي عن قراءة الروايات لفترة طويلة تقاس بالعقود لا السنين.
لكن وجدت نفسي مشدودا اليها ومأخوذا بقدرة الكاتب الوصفية ومبهورا بعباراته التي خيل الى انها تتراقص أمامي بخفة وتنثني بسرعة في إنسجام وتناغم مع إيقاعات وموسيقى داخلية وبعد أن فرغت من قراءاتها في نَـفَـس واحد، لم تنته علاقتي بها بل إستمرت لتكتسب بعدا جديدا… فبدأت أتساءل:- هل ”وطن وأحزان“ مشروع قصة رمزية قصيرة طالت أكثر من اللازم؟ أو مشروع قصيدة جنى عليها الشاعر الواعد عندما حولها الى رواية فضيعها وضاع معها - وأضاعني معه - في زحمة الأحداث وتداعياتها؟ وقبل أن أجيب على السؤال عدت - بدون أن أشعر - الى قراءاتها ثانية ولكن بتأن وتركيز وحرص على الابتعاد ما أمكن“.
وطن وأحزان، رواية سياسية رمزية. أختار الكاتب تجربة جبهة التحرير الارترية موضوعا محوريا لها. ومن هنا كان ”إختياره المسبق“ لقرائه أمرا مفروغا منه ”فهم جبهجيون و من فئة عمرية معينة“. و من هنا استطاع لوبينت الإبحار بكل يسر في دهاليز الرواية، و تفكيك ملامح الشخصيات لسببين:
الأول: الشخصيات مسطحة غير نامية.
الثاني: كان الروائي أكثر صدقاً بنقل الاحداث كما سمعها من المصدر السردي الأول.
حيث أشار لوبينت الى هذه النقطة بقوله: ”مع انه لم يعايش التجربة عن كثب لكن إعتماده على معلومات مؤكدة مستقاة من مصادر لها علاقة بالتجربة أعطى الرواية مصداقيتها. لا يرسم الكاتب صورة واضحة المعالم للشخصية التي يتناولها ولكن يقدم معلومات مساعدة وخطوطا عامة. و يستخدم المعلومة إستخداما جيدا عند الضرورة ”إشارته الى روح السخرية التي كان يتميز بها فعلا سعيد صالح“ على سبيل المثال. أسلوبه إختزالي وليس تفصيلي، الإقلال لا الإملال، شعارٌ سهلٌ رفعُـهٌ وصعبٌ تطبيقه. لكن الكاتب لم يواجه صعوبة في تطبيق الشعار. سخريته مبطنة لذلك لا تظهر على السطح. تلميحاته ذكية لا يفهمها الا القارئ الملم بالتجربة. جاء رئيس قسم الاشارة المناضل ” ودي بعلوم ” ليلقي الأمر الصادر من القيادة العليا على مسامعهم: إنسحاب!!
الى أين سأل حامد… إلى الجهة الغربية (ص 57) يلعب الموت - قتلا أو إغتيالا أو إنتحارا - دورا رئيسيا في الرواية وهو لا يلاحق الاشخاص فقط ويقضي عليهم وإنما يقضي على الأحلام والآمال والفكر والرموز والثوابت الوطنية والوطن أيضا. لم ينطلق الكاتب من فراغ عندما إختار إسم ”حامد“ للشخصية الرئيسية في الرواية فــ”خير الاسماء ما حـُمٍّـد وعُـبٍّـد“ فقال عنه:- انه ليس كسائر الاطفال فقد فض غشاء البراءة وتجاوز عتبة الطفولة مبكرا. انه طفل إستثنائي كبر على سنه فحازى أكتاف الرجال وإستطال بحسه المرهف وذكائه المتقد حدو الشمس فأرخى أذنيه المثقلتين بالانتماء حتى العظم الى الارض والوطن. أول فقرة في الرواية (صفحة 7).
و إنتساب حامد لجيش التحرير الارتري الذي مر بمخاض عسير: (كان ميلادا حقيقيا لبطل من أبطال الثورة الذين مهروا بالحب والوفاء لوحة إسمها الوطن (ص15) وتجربة حامد الثورية هى تجربة جبهة التحرير الارترية بكاملها فيه تتجسد إنتصاراتها وإنتشارها وإنكساراتها وإنحسارها.. ومن خلال علاقة حامد بالآخرين نتعرف على شخصيتهم الحقيقية وما يمثلونه بالنسبة للثورة أو للجبهة.
مخاض لولادة ثانية:
حيث أن المخيلة تنبض بالحياة، و الذكريات بحلوها و مره مع العيش في واقع يقسو عليك لأنك غريب في دار الغربة جسداً. فإن الذاكرة يعتريها ما يعتريها من ألم الفقد للأهل و الأحبة و الوطن. و من هنا تم ميلاد الرواية الثانية بعد رحلة معاناة جرحاً في الذاكرة. و سجل مع ميلاد هذه الرواية شهادة التأكيد على الفعل الإبداعي، و أن الرواية الأولى لم تكن بيضة الديك.
حقيقة، لا أعرف ان تم اطلاع لوبينت الى ما كتبه كهال أم لا.!!، حيث أبدى كهال اشتياقه الى الرواية الثانية و مطالبته بالتعجيل: ”فعجل بها“. حيث نستدل بأن كهال على علم مسبق بوجود مسودة لرواية ثانية، تستحق النشر. فلماذا جاء العمل الثاني/ رواية جرح الذاكرة، الصادرة في 2013م، بعد سبعة سنوات عجاف ؟..
أشار عبدالوهاب الى سنوات الغياب في حوار منشوار في المواقع الاريترية بقوله: ”شرعت في كتابة الرواية الثانية ولكن حدث أمر مؤسف جعلني اصرف النظر عن الكتابة إلا من بعض المقالات والخواطر التي كنت انشرها في بعض الصحف والمواقع, فقد افتقدت الكراسة التي كنت اكتب فيها الرواية وذلك حين جاوزت أكثر من الثلث الثاني للرواية ما أصابني بالإحباط لكنى عدت مره أخرى بعزيمة أقوى لأعيد كتابة النص من الذاكرة. سبب آخر جعل المدة بين الروايتين تطول وهو إنني لست متفرغاً للكتابة فانا محاط بهموم والتزامات أسريه مكبله ومقيده مما يجعل إنتاجي الأدبي قليلا أو بالأحرى ”جهد المقل“. و لسان حاله: ”والليل حين يطبق بأهداب الدجى/ ويكحل الحزن رموش الامنيات/ قل لى بربك كيف امضى فى هذا الظلام؟“.
رواية جرح الذاكرة:
يعتبر هذا العمل نقطة العبور الى الفضاء العربي، حيث نالت الرواية استحساناً عربياً، و تم نشر فصل من فصولها في صحيفة الرأي الأردنية، الجمعة 2013/06/21م قبل صدور الرواية. و هي رواية الأرض و التاريخ، المرأة و الخيبة حيث كان المأمول الأمان و الاستقرار في الوطن بعد الاستقلال. و كان الواقع خيبة الأمل مع الشتات داخل الوطن و خارجه: ”لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تغادر فيها قريتَها الوادعة وأهلها الطيبين، لكنّ هاجساً ما، أو أفكاراً سوداء تطفو اليوم معتمةً في ذهنها، فتثير في نفسِها عواطفَ جياشة وأحاسيسَ تجعلها مضطربة، خائفة، كأنها ماضية إلى عوالم مجهولة لن تعود منها.
أسندت ظهرها إلى الجدار، ثم أطلقت لحبل أفكارها العنان: لو أن الله فتح لنا باباً آخر من أبواب الرزق فأراحنا من السفر إلى ”شامبقو“ البعيدة! - ألا يمكن أن نزرع الفولَ هنا في ”عونا“؟ - ولكن ما الذي يكدّرني اليوم وقد تعوّدتُ على ذلك! ثلاثة مواسم قضيتها بين حقول الفول و”الماشيلا“ أكابد المشاقَّ وأتحمّل عناءَ العمل ساعاتٍ طويلةً في أرضٍ تصهرها حرارةُ الصيف بشمسٍ حارقةٍ كالأتون.. آه يا أبي، فلتخلد روحك في جنّات الخلد مع الصدّيقين والشهداء، فقد كنتَ تشقى وتكدّ من أجلنا. الان فقط أدركتُ ما كان يصيبك من تعبٍ وعناءٍ كنتَ تُواريه تحت ابتسامةٍ وضيئة تلْقانا بها حين كنّا نستقبلك أنا وإخوتي في أطراف القرية عند انتهاء موسم الحصاد“.
سردية ذاتية للأنسان الاريتري و تاريخه النضالي و مرارة الواقع على لسان ”زهرة“، الابنة التي فقدت والدها (أرها)، و هي في الخامسة من عمرها. حيث المكان الاريتري في أسماء المدن و القرى؟؟؟ شامبقو، عونا، أروته، و الإنتاج الزراعي. أيضا رمزية اسم الأب / الشخصية الغائبة (أرها)، حيث أن لهذا الاسم في اللغة الاريترية (التجرية بالجيم المعطشة) قيمة إنسانية في المقام الأول. حيث أن (أرها) من المسرة و الفرح بعد حالة من الضيق أي (الفرج العسر).
وعند قضاء حاجة المحتاج يقال بالتقرى فلان (رها) وتقال كلمة (رها) لشخص كان يعاني من الم مبرح فيعطى له الدواء فيزول عنه الالم. و هذه الشخصية و سماتها يتم سردها من خلال زهرة المكلومة: ”بينما كانت زهرة أرها تسبح في بحر أفكارها و ذكرياتها المريرة“. و شخصية زهرة رمزية الوطن لدى الاريتريين فقد استخدمها الفنان الاريتري الأمين عبدالطيف في أغانيه، مثلما أستخدمها الأديب احمد سعد في مسرحياته.
البداية من معانأة الأم التي فقدت زوجها: ”لقد عانت تلك المرأة و تجرعت كأس الهوان حين فقدت زوجها الذي انتزعه البرابرة القساة من بين أحضانها و ذبحوه كما تذبح الشاة، ثم رموا جثته على قارعة الطريق“. من هنا يطرح السؤال عن السبب، و الإجابة وشاية من امرأة لا ينطبق اسمها مع أفعالها يسردها الراوي على لسان زهرة: ”ما ذنب أبي حتى تشي به ليقتله الغرباء الذين تجردت قلوبهم من الرحمة و العدل؟.. ”بركة“ آه أي سخرية مريرة ان يكون اسم المرأة التي ترسل الرجال غدراً الى الجحيم!!“.
و يبدو أن المحتمع يعيش في واقع الوشاية ليصل الى درجة الخيانة الوطنية السمة المرفوضة اجتماعياً على لسان زهرة: ”تبأ للمرأة الخائنة، التي سولت لها نفسها الدنيئة أن تبيع الوطن. و ترمي رجالاً بقامة (أرها) في جب الغياب القسري“. و تمنح السردية على لسان زهرة مصداقية يستثمرها الراوي العليم كقاعدة لأحداث زمنية مضت. و يبني عليها الحاضر المؤلم بعد التحرير، الذي فقد بريق اللحظة التاريخية بسبب الاختفاء القسري: ”يبدو أن الماضي الذي تتحدث عنه قد مضى من دون أن يُلملم أطرافه السوداء من قلوبنا، قاطعهُ صالح الذى بدا كأنهُ يبكي وهو يتساءل:- قُل لي يا أُستاذ «عامر»، أين هُم أولئك الرجال الذين صنعوا لنا هذه اللحظة التاريخية التي نُفاخر بها بين الأُمم؟ أين «ديناي»، أين «محمد خير»، أين «داير»، أين...؟“.
هكذا يمضي لمداوة ذاكرة مشحونة بالأسى و الجراح حتى يقف عند (ذُل الوطن) حيث نقرأ الإهداء: إلى محمد سعيد عبدالله (أبو عادل). هنيئاً لمن غُيب خلف أسوار الظلام قبل أن يشهد ذُل الوطن (ص:5).
يبدو أن ظاهرة الاختفاء حالة مزمنة عند المثقف الاريتري، حيث تظهر أصوات لفترة زمنية معنية ثم تغيب عن الساحة الثقافية في حالة اشبه ما تكون بالبيات الشتوي لتعود مرة أخرى. و أخرون يعيشون حالة مخاض لولادة جديدة، و في كلا الحالتين تشرق الشمس مرة أخرى الا عبدالوهاب حامد أسير الشعور اللامتناهي بالغياب منذ عشرة أعوام عاجزاً عن العبور و الخروج من الزحام في خاتمة قصيدته أحزان الرحيل: ”قل لى بربك كيف امضى فى هذا الظلام؟ حين تمتد متاهات صحرائى ويأفل النجم المضيئ… حين يزبل فى بيادرى عشب الرجاء وتنزوى خلف الغياهب كل القناديل. كيف أعبر في هذا الزحام؟“. و حين يتم عبور الزحام، سيقوم بإصدار يتضمن مقالاته و قصائده و قصص بين دفتي كتاب: ”كل شيء للوطن“ حسب ما أفاد في حوار صحافي منشور في المواقع الاريترية.