ملاحظات حول رواية المجنّد - الجزء الأول
بقلم الأستاذ: أحمد محمد عمر (أبو تيسر) - كاتب وإعلامي سابق بإذاعة صوت الجماهير الارترية - برلين
بالكاد يمكن للمرء ان يتحصل في المكتبة الارترية على كتب توثيقية عن حقبة الاستعمار الإيطالي
في ارتريا وان وُجدت فهي اما باللغة الإيطالية او الإنجليزية، هذا إذا استثنينا بعض المطبوعات القليلة المترجمة ابان مرحلة الكفاح المسلح بجهود القائد الراحل الشهيد عثمان صالح سبي. اما في مرحلة ما بعد الاستقلال فان جميع الكتب المعنية بتدوين التاريخ التي صدرت كان تركيزها على المراحل التي تلت نهاية الاستعمار الإيطالي بدءًا بالانتداب البريطاني ثم فترة الاتحاد الفيدرالي وانتهاءً بمرحلة الكفاح المسلح. وربما يعتبر كتاب زمهرت يوهنس المعنون بـ "الاحتلال الإيطالي لإرتريا" هو الوحيد الذي تطرق بشيء من التركيز الى مرحلة الاستعمار الإيطالي.
والامر المؤسف ان معظم الإباء والاجداد من الجيل الذي عاصر الاستعمار الإيطالي ان لم نقل كلهم لم يعودوا على قيد الحياة ورحلوا قبل ان يدلوا بشهاداتهم التي توثق لتلك المرحلة ولم يتركوا لنا شيئا غير بعض القصص والقصائد الشعرية والاغاني التي يتم تداولها شفاهيا في مناطق مختلفة من ارتريا. ولعل دافع الشعور بالتقصير او نزعة الاستكشاف أو الرغبة في طرق أبواب جديدة تبدد الضبابية عن هذا الجانب من التاريخ الارتري او كل هذه العوامل مجتمعة هي التي جعلتني مهتما بالحصول على نسخة من رواية المجند لمؤلفها (قريسوس هيلو).
وكما ورد في ديباجة النسخة العربية الصادرة عن دار الفرجاني عام 2022 (ترجمة فرج الترهوني) فان هذه الرواية نشرت لأول مرة باللغة التجرنيية عام 1950 ثم قام الأستاذ قرماي نقاش المحاضر بجامعة اوهايو الأميركية بترجمتها الى اللغة الإنجليزية عام 2012 لتصل الى قراء العربية نقلا عن الإنجليزية بعد نحو70 عاما من صدورها.
لو كانت رواية (المجنّد) نصاً ابداعيا عاديا من وحي خيال المؤلف وليس له علاقة مباشرة بالواقع لاكتفينا بمعالجة نقدية وفق معايير النقد الحداثية بدءا من مضمون الفكرة مرورا بالقالب السردي وبناء الشخوص والصور الجمالية وذروة التشويق وصولا الى الخاتمة. ولكن هذا النص الذي تم الباسه جلباب (الرواية) يعتبر أقرب الى العمل التوثيقي منه الى نص إبداعي من وحي خيال المؤلف. وعليه فان المعالجة النقدية للنص ينبغي ان تكون وفق المعايير التاريخية والسياسية والفلسفية والعقائدية والاجتماعية، بل وحتى المعايير النفسية للكاتب ينبغي اخذها في الاعتبار.
فالكاتب نفسه يقول في مقدمة النسخة الأولى بلغة التجرينية:
(يعكس هذا الكتاب... انطباعاتي عندما سافرت في سن الثامنة عشر عن طريق البحر الى إيطاليا، طلبا للعلم. ويتعلق الامر أيضا بذكرى مواطني بلدي، المجندين، او من يسمون "الاسكاري " الذين كانوا يرسلون للخارج في ذلك الوقت).
ان هذا الاستهلال يعتبر حجة كافية لتصنيف العمل ضمن المذكرات الشخصية التي جاءت في قالب روائي، وهذا في حد ذاته ليس عيبا بل هو جنس ادبي متعارف عليه منذ القدم، يتيح الفرصة لتبادل الأدوار بين الراوي والروائي داخل النص او يسمح بالتداخل بين الواقع والخيال او بعبارة أخرى يحاول الكاتب في هذا النوع من الروايات ان يسرد جوانب من سيرته الذاتية او سيرة غيره عبر زخرفتها بصور متخيلة يضعها الروائي على لسان الراوي. ودون مواربة يريد (هايلو) ان يقول لنا انه استلهم فكرة الرواية من حكاوى وذكريات بعض الجنود الذين عادوا من الحرب في ليبيا واستفاد من انطباعاته اثناء رحلته من اسمرا الى روما عن طريق البحر ليصور المشاهد التي استوقفته بدءا من محطة القطار في اسمرا مرورا بمصوع وبورتسودان وقناة السويس وصولا للبحر الأبيض المتوسط. او ربما تعمد (هايلو) ان يضفي أهمية على ما كتب من خلال ربط النص بتجربته الشخصية او تجارب اقرانه من المجندين في الجيش الإيطالي. يضاف الى ذلك ان التوصيف الزمكاني المباشر باستخدام مفردات لغوية سهلة وبسيطة غير قابلة للتأويل يحتم علينا معالجة النص في إطار بيئته التاريخية والاجتماعية والنفسية، بل ولجملة الأسباب المذكورة أعلاه يصبح من الصعب الفصل بين النص ومؤلفه كما تدعو المناهج النقدية الحديثة.
جاءت الرواية في أربعة فصول قصيرة مرتبة بشكل طولي مع تطور احداث النص زمنيا واستخدام تقنية الاسترجاع داخل كل فصل لمليء الفراغات التي قد يحس بها القارئ. اختار الكاتب ان يبدأ السرد من محطة قطارات اسمرا وينتهي أيضا في نفس المحطة بمشاهد متماثلة ان لم تكن متطابقة (مشاهد الوداع والاستقبال) حيث تدافع الحشود، وجوه يائسة وأخرى مترقبة، الجنود يضربون الناس بالسياط كالحمير، دموع الفرح بعودة الابن الغائب ودموع الحزن على المفقودين الذين لم يعودوا، فراق الأحبة ولقاءهم.
ويُحسب للكاتب قدرته البارعة في بناء الفكرة بدءا من بناء شخصية بطل الرواية حيث اختار له اسما ذا مدلول عميق في التراث الشعبي. ان القارئ للنص الأصلي بلغة التجرينية سيستوعب بسرعة معنى ان يكون اسم هذه الشخصية (تكابو) او (توكوابو) كما وردت في النص المترجم للعربية.
ومع ذلك مضى الكاتب في تعميق الفكرة أكثر عندما يقول:
"بعد أسابيع قليلة من ولادته حملته امه الى كنيسة القرية... وصلت متوسلة: يسوع يا مولاي، يا مخلص هذا العالم، لقد اخذت مني العديد من الأطفال حتى الان... كن لطيفا معي وأسبغ على رحمتك. اتوسل اليك ان تترك لنا هذا الطفل..."
وبالفعل استخدم الكاتب تقنية سردية موفقة لبناء شخصية بطله وهي تقنية استخدمها كتاب اخرون مثل اليكس هايلي في رواية (الجزور) عندما يحمل الأب المحارب من قبيلة المايدنغا المولود الجديد الذي انتظره طويلا الى ساحة المسجد ويتوسل الى الرب كي يحفظ هذا الوليد الذي أطلق عليه اسم (كونتا كنتي).
ان اسم (تكابو) يعني الهبة او المنة، وكما هو متعارف عليه فان الاسم في المجتمعات التقليدية (سواء كانت افريقية او غيرها) غالبا ما يرتبط بمعنى او مدلول محدد، له ارتباط بالواقع، وعليه فأن المنتج الإبداعي باللغة المحلية يستطيع التعبير بشكل أفضل عن التراث والثقافات المحلية وهي رؤية يروج لها العديد من المثقفين الافارقة من أمثال الروائي الكيني (نغوغي واثيونغي). وبصرف النظر عن مثالية هذه الرؤية من عدمها فإن اختيار الاسم في حالتنا هذه (تكابو) كما أشرنا سابقا يختزل الكثير من الاسهاب بالنسبة للمتلقي باللغة المحلية.
وفي اقل من خمس صفحات من الحجم الصغير رسم لنا الكاتب لوحة كاملة عن طفولة (تكابو) وترعرعه في كنف والديه وتعلمه في المدرسة ثم تدربه على الأسلحة. وببراعة فنية ولج الكاتب مباشرة الى لب النص من خلال تتبع ما كان يدور في ذهن (تكابو) عندما يسمع كلمات الأغاني التي يرددها اقرانه او تلك التي يغنيها الأطفال: (لا يرفض الذهاب الى ليبيا الا النساء)، (عودوا الينا لاحقا... يا طرابلس امنحينا بعض الوقت حتى نشب عن الطوق).
وكما لاحظت الناقدة الأميركية (لارا كريسمان) في القراءة التي قدمتها للرواية في نسختها الإنجليزية، فإن (قريسوس هيلو) مثله مثل مفكري منتصف القرن العشرين من المناهضين للاستعمار كـ (فرانس فانون وايمي سيزر) لا يهتم بالتاريخ الاستعماري حيث ان التفاصيل مثل كيف جاءت ايطاليا الى ارتريا؟، ولماذا تدور الحرب في ليبيا؟ غير مهمة للحبكة بقدر اهتمامهم بما يدور الأن. لهذا نجد الكاتب (هيلو) قد مهد للأفكار الي كانت تدور في ذهن (تكابو) بجملتين قصيرتين يقول فيهما: " كان هذا وقت تدور فيه حرب في طرابلس، واعُتبر من المناسب لأهل الحبشة ان يكونوا على استعداد لإراقة دمائهم في هذه الحرب".
كلمة (الحبشة) التي استخدمها الكاتب في الجملة أعلاه -سنعود اليها لاحقا – يقصد بها ارتريا.
عبر هذا الانتقال السلس الذي كانت نتيجة القرار الذي يتخذه (تكابو) بالذهاب الى ليبيا يمضي الكاتب في سرد احداث الرواية تباعاُ حيث خصص فصلا كاملا لوصف انطباعاته عن معالم الطريق حتى وصول السفينة الى البحر المتوسط، بدءا من مشاهد الوداع في محطة قطارات اسمرا ثم وصف الطريق الملتوي عبر الجبال وصولا الى مصوع ثم ميناء بورتسودان فالسويس وبورسعيد.
ويبدو ان التجربة الشخصية للكاتب كان لها أثرها الواضح في وصف معالم الطريق بشكل دقيق دون اهمال للأسماء والارتباطات التاريخية والدينية لبعض المعالم مثل قوله: "ومن بعيد أمكنهم رؤية التلال العربية يتوسطها جبل سيناء، فاخذوا يرددون: نحييك بكل تواضع أيها الطور المقدس الذي تم اختيارك من بين جميع التلال الأخرى لتكون سلما في السماء الى الله".
والمقصود هنا هو جبل موسى او جبل الطور الذي كلم فيه النبي موسى عليه السلام ربه واستلم فيه الوصايا العشرة. هذا الوصف الدقيق للمواقع والمعالم يسجل غيابا بعد دخول المجندين الى الأراضي الليبية وهو ما يفسر ان الكاتب لم يعش التجربة بشكل شخصي، حيث لم ترد أي مسميات للاماكن والمواقع الي مر بها المجندون في الأراضي الليبية عدا الميناء الذي حطت فيه السفينة والذي أشار اليه بالمدينة الأسطورية (درنة).
والاهم من ذلك قد يلاحظ القارئ المدقق ان الجزء الأخير من النص الذي يتناول ما بعد الوصول الى الأراضي الليبية قد كتب في فترة مختلفة عن تلك التي كتب فيها الجزء الأول. ويتجلى ذلك ليس في الأسلوب الروائي الذي يعتني بالوصف الدقيق للمكان والمسميات في بداية النص ثم الى اهمال تام لهذا الجانب في الجزء الأخير فحسب، بل أيضا في التحول الدراماتيكي الذي طرأ في طريقة تفكير المجندين أو بالأصح في طريقة تفكير الراوي او كاتب النص الروائي.
فالشباب الذين كانوا يتغنون بفخر (لا يرفض الذهاب الى ليبيا الا النساء) أصبح يراودهم هاجس مغاير تماما تلخصه عبارة (هل رأيتم هذا الكلب الحبشي الذي باع حياته مقابل المال) التي أوردها الكاتب بشكل قسري على لسان صوت داخلي مجهول يخترق عقول المجندين في اليوم الأول من وصولهم الى الأراضي الليبية.
ليس هذا فحسب بل ان الكاتب بدا مصرا على التدخل في النص وفرض رؤيته الجديدة عندما استهل الفصل الثالث بأبيات من قصيدة للشاعر الايطالي ليوباردي يقول فيها:
من يخض على ارض اجنبية معركة ليس معركته،
وليس من اجل عائلته او شرف وطنه،
فعندما يحتضر بفعل رصاصة من عدو غاضب
لا يمكنه عندها ان يقول: اوه! يا بلادي العزيزة
ها هي الحياة التي اعطيتها لي، وها انا اعود اليك،
لان هذا الشخص يموت مرتين،
ويذهب الى جحيم أبدى.
واصفا هذه الابيات وكأنها كُتبت خصيصا لمجندي الحبشة، حيث كان ذلك مدخلاً لوصف الروح المعنوية المنهارة للمجندين بعد ان وطئت اقدامهم الصحراء الليبية. فوبيا الخوف من الصحراء حيث لا ماء ولا شجر، استخدمها الكاتب بجدارة لاستثارة الرعب واليأس والندم في نفوس المجندين وهم ما زالوا في بداية مشوارهم، وهي حالة تتناقض مع حقيقة ان هؤلاء المجندين خاضوا معارك ضارية استبسلوا فيها ايما استبسال حسبما تؤكد العديد من المصادر التاريخية.
نواصل بإذن الله... في الجزء القادم