رواية رائح السلاح لأبوبكر حامد كهال

بقلم الأستاذ: إبراهيم حميدان  المصدر: الوسط

رواية "رائحة السلاح" أولى روايات الكاتب الأريتري أبوبكر حامد كهال،

صدرت عام 2004 ضمن منشورات مجلة المؤتمر، وهو روائي وشاعر وقاص من أريتريا، صدرت له إضافة إلى هذه الرواية الروايات التالية: "تيتنيكات افريقية" دار الساقي 2008، "بلاد البونت"2021 دار الفرجاني، "بركنتيا.. أرض المرأة الحكيمة" مجلس الثقافة العام 2008.

الرواية تقوم على تقنية تعددية الأصوات، وهذا الأمر من سمات الرواية الجديدة، حيث تتيح هذه التقنية تقديم الرواية من عدة زوايا، عوضا عن الزاوية الواحدة كما في السرد في الرواية التقليدية. يأتي السرد في بداية الرواية على لسان طفل صغير، الذي يقدم لنا المشاهد كما تراها عيناه.

ونتعرف من خلال السرد الذي يأتي على لسان الطفل على المذابح التي ترتكبها القوات الأثيوبية في حق المدنيين الاريتريين، "بعد المطر جاءت بنت الشيخ زوجة العم جابر التي تنحدر من أصول بركاوية، جلست وبدأت تبكي قرب الموقد وهي تستعيد سرد الأخبار على مسامع أمي، لأول مرة أسمع مثل ذلك البكاء الملحون، كانت تأتي على ذكر أسماء النساء والرجال الذين ماتوا في المذابح، وتعدد مآثرهم". ص 8

ومنذ بداية السرد نجد أنفسنا في أجواء الحرب، حيث تشن القوات الأثيوبية هجوما مسلحا على القرية الأريترية التي يعيش فيها الطفل/ الراوي مع أسرته، يحدث الهجوم على القرية فيما كان الطفل السارد ووالده بعيدين عنها، وعندما ينجح المقاتلون الأريتريون في إرغام الكتيبة الأثيوبية (التي تضم إلى جانب العسكريين الأثيوبيين مسلحين مسيحيين أريتريين) إلى الوراء، يعود الأب رفقة طفله إلى القرية، فيكتشفان مقتل الأم، وللوهلة الأولى يظنان أن الطفل الرضيع أيضا قتل، لكنهما يكتشفان لاحقا أن الرضيع مايزال حيا، حيث يعثران عليه داخل البئر، يبدو أن أمه قد خبأته هناك قبل أن تقتل. ص 21

يتحول السرد إلى صوت السارد العليم الذي ينقل لنا أجواء المقاتلين الأريتريين في الجبهة وهم يصدون الكتائب الأثيوبية رغم فارق العتاد بين القوتين، ويقدم لنا السارد مشاهد عفوية في تلك الجبهة حيث يعقوب أحد قادة الجبهة يقود المقاتلين في معاركهم القتالية يرافقه الصبي "آدم عثمان فايد" ابن أخ يعقوب المتحمس للقتال، ويتحصل على بندقية عقب مقتل أحد الجنود الأثيوبيين، بعد أن كان يحمل عصا ليقاتل بها.

تختفي شخصية البطل في الرواية، كما تقتضي تقنية تعدد الأصوات التي يتبناها الكاتب في هذه الرواية، ويتحول الجميع إلى أبطال، ويصبح محور الرواية هو كفاح الأريتريين ضد هجوم الكتائب الأثيوبية، والتفاصيل اليومية التي يعيشها هؤلاء المقاتلون، والناس المدنيين من حولهم الذين يعيشون الخوف والقلق في أجواء الحرب ويتغلبون عليها، بصبرهم وصمودهم وتحايلهم على الظروف القاسية.

مشاهد مكثفة يرسمها السارد لحياة الناس المدنيين، وأيضا لرجال الجبهة وهم يقاتلون أو حين يلتقون سرا في المقهى، حتى لايكتشف وجودهم العدو الأثيوبي "تعانق الرجلان عناقا طويلا بينما وقف النادل يراقب الحركة في سوق السمن وعبر طرفي الشارع الذي يمر أمام المقهى، بدأ سعد الله بالحديث قائلا: الأمور تمضي بسرعة، ثم ناوله مغلفا كبيرا حوى الاشتراكات الشهرية لبعض الخلايا السرية". ص 22

ينتقل السرد بلغة مكثفة وفي مشاهد أقرب إلى مشاهد السينما يرسمها السارد ببراعة، يصور لنا شخصياته وهي تتحرك: تحركات أعضاء الجبهة الأريترية داخل المدينة، لقاءاتهم السرية، في المقهى وفي المحلات، ومشاهد القتال العسكري ضد كتائب الجيش الأثيوبي، وتفاصيل الحياة اليومية للناس العاديين وهم يعيشون حياتهم، يتابعون أخبار الجبهة، ويساندون المناضلين" كان ود موسى ضمن عشرات المواطنين الموثوق بهم ويُطلق عليهم اسم عام هو (المراسلة) يضطلعون بمهمة جمع الاشتراكات ومراقبة تحركات العدو وإبلاغ الرسائل ونقلها بين الفدائيين وقيادة الكتائب والسرايا والاتصال بعناصر الخلايا السرية في المدن". ص 52

بل إن هذه المساندة تصل إلى درجة المشاركة في تحرير المناضل "عمريت" أحد أعضاء الجبهة، من ملاحقيه الأثيوبيين عناصر الكوماندوز الثلاثة الذين كانوا ينوون شنقه فتم شنقهم من قبل المواطنين." مع انتهاء هذا الحوار، كانت أيادي الدائرة قد حررت "عمريت" ودفعت به إلى الخارج، وبعد أن مشى بضع خطوات، رأى ثلاثة جثث تتدلى من الشجرة". ص 31

وخلال السرد نتعرف على الواقع والبيئة الأريترية: أسماء المدن والقرى والجبال والوديان والشوارع، أسماء الناس، والأكلات، والعادات الاجتماعية، والعلاقات بين الأفراد، ويقدم لنا السارد شخصية سعدية المناضلة التي تستدرج الخائن الذي يشي بأعضاء الجبهة لدى القوات الأثيوبية بل يشي حتى بعمه، تستدرجه إلى أطرف المدينة لتقتله هناك، وتلتحق بالمقاتلين بأحد المعسكرات، والمرأة لاتحضر كمناضلة فقط بل أيضا كأم وحبيبة.

فرغم مشاهد القتال وأجواء الحرب يصور لنا السارد علاقة حب تنمو بين "زهرة" و "أحمد همد" المناضل الأريتري، لكن الطائرات الحربية الأثيوبية تقصف المكان الذي يتواجدان فيه فيفترقان، ليلتقيا ثانية في وقت آخر، في الجبهة يقاتلان جنبا إلى جنب، ويصور لنا السارد كيف تلجأ قوات الاحتلال الأثيوبي إلى استخدام المدنيين دروعا بشرية تختفي خلفها "خرج قائد الحامية بكرشه الذي اندلق تحت الحزام، بتثاقل من الخيمة وما إن اقترب من المدنيين الذين أحضروا من منازلهم توا حتى صرخ بهم في تبجح: "قولوا لأبنائكم أن يكفوا عن ضربنا.. فإذا ما هاجمونا لن نتردد عن توجيه نيراننا نحو منازلكم". ص 90

في المشهد الأخير من الرواية التي يصور فيها السارد معركة بطولية ينتصر فيها فدائيو الجبهة، يقتل فيها أيضا خمسة مقاتلين في مقدمتهم زهرة التي كانت تقاتل إلى جانب حبيبها: "خمسة أبطال وهبوا أنفسهم في ذلك اليوم بعد أن فتحوا لنا طريقا واسعا نحو الانتصار".

هذه الرواية القصيرة تصور ملحمة كفاح الشعب الأريتري ضد الاحتلال الأثيوبي، ويقدم الكاتب هذه الملحمة بلغة الفن دون أن ينزلق في الشعاراتية أو المباشرة أو الكلام العاطفي، بل من خلال رسم المشاهد والأحداث عبر سرد لا يخلو من لغة شعرية أحيانا وحوارات ذكية نابضة، ويتعمد الكاتب الاكتفاء بالاسم الأول لشخصياته.

ولايهتم برسم ملامحها الخارجية، ليقدمها لنا عبر ما تقوم بها من أفعال، وما تقوله في حواراتها مع بقية الشخصيات، هذا بالنسبة للشخصيات الأريترية أما الشخصيات الأثيوبة العسكرية، فيكتفي بذكر صفاتها العسكرية، فقط، في إيحاء بغياب الجانب الإنساني في هذه الشخصيات: الملازم، الضابط، قائد الحامية، إلخ ويعتمد السرد لغة مكثفة، موجزة، خالية من الاستطرادات ولكن دون غياب للتفاصيل التي تعطي للمشاهد والأحداث أبعادها الجمالية.

Top
X

Right Click

No Right Click