اللغة وظلال الأسطورة في رواية «شاهد قبر» للسوداني محمد مسوكر

بقلم الأستاذ: الصادق الرضي - شاعر وصحافي سوداني  المصدر: القدس العربي

قال إبراهيم، حين عبرت أسراب الطيور البيضاء، مقبلة من إثيوبيا في رحلتها السنوية إلى مصر:

رواية شاهد قبر 3

«كنا نظنُّ أنها تخضِّبُ الأيادي، حين كنّا صغاراً، فنتضرّع إليها أن تخضّب أيادينا وأيادي والدينا»؛ علّق بائع الشاي، وهو ينظر لإبراهيم مبتسمأ: «إنها تذكّرني بغابات ساوا في إريتريا، يُروى هناك أنها كانت رسولاً بين رجل منفيّ كان يعزف ألحاناً شجية حفظتها عنه ورددتها معه، وفي المساءات كانت تحملها إلى عشيرته وتطوّف بها عليهم حتى صفحوا عنه، وعند أطراف الغابة صاروا يعزفون ألحاناً تحملها إليه الطيور؛ منذها عرف البجا لحناً للندم ولحناً للصفح».

دار هذا الحوار بينما كان إبراهيم يجالس رجلاً بملامح أوروبية أو هكذا بدا له حين لمحه، أثناء جولته المسائية اليومية في المدينة، كان إبراهيم طامعاً في الحصول على وظيفة مترجم، وفي ظنه أن الرجل من أحد موظفي المنظمات الدولية الذين ينتشرون في المدينة، ويدفعون بالدولار، في الغالب يفضّلون الأحباش والجنوبيين للعمل معهم، دون أبناء المدينة الآخرين؛ خاب أمل إبراهيم في الوظيفة، أو حتى فكرة أن يطوّر لغته الإنكليزية، حين اكتشف أن من يجالسه ليس موظفاً أوروبياً يعمل في المنظمات الدولية، إنما تركي باحثٌ في التراث، يتحدث العربية، يعدُّ دراسةً عن المدن التي أنشأها الأتراك؛ تلك الخيبة لم تمنعه من مواصلة الحديث مع الرجل، ولو على سبيل الفضول، يقول له التركي، رداً على سؤاله عن علاقة (القضارف) بالأتراك: «الحكم التركي أو العثماني- سمّه ما شئت- جاء عن طريق البحر الأحمر وضم التاكا وسواكن ومصوع وإقليم بقوس.

لم تك مدينتك قد وجدت بعد؛ وباعتبارها في ديار البجا كانت تابعة لمديرية كسلا»؛ يستمر بينهما الحوار، حتى يغادر إبراهيم المكان، بعد أن أمضى يوماً مميزاً في مدينة لم تمنحه غير مزيد من الأسئلة والحيرة، ضغطت الصدفة على عقله وفؤاده: تاريخٌ وطيور لا تعرف الكلل، جبالٌ راسياتٍ في جوفه يئنُ من وطأتها، يغمد الأسئلة بين عظامه ويسابق المطر.

فضاء سوداني إريتري:

رواية «شاهد قبر» للسوداني محمد مسوكر، تنفتح على نوافذ لحكايات مجتمع داخلي، عبر أسرة إبراهيم، التي تتكون من والده إسماعيل وأمه أرهيت وأخويه التوأم، وعمه سليمان، وتشابكات علاقاتها في المجتمع الكبير لمدينة القضارف - جنوب شرق السودان - المدينة التي تشكل الفضاء السوداني - الإريتري غير بعيدة عن مدينة كسلا، حكايات المدينة بشوارعها الرئيسية والفرعية، بطبقاتها ومجموعاتها السكانية المتنوعة، حكايات جيل إسماعيل وأرهيت وسليمان وإيرات والأمين ود بال عاي، وجيل الأبناء إبراهيم، وسميرة، أحمد وسليم، إلخ، وصراعهم الاجتماعي الثقافي والسياسي مع جماعة (حمد حفُون) الذين يمثلون السلطة - الحكومة بتحالفاتهم معها. عبر صوت الراوي وتداخله مع منولوجات شخوص الرواية، نتعرف على علاقة حب إبراهيم وسميرة وتعقيداتها، علاقة إبراهيم بعمه سليمان وعلاقة حب سليمان القديمة لإيرات، ونشهد الحوار المعرفي بين ثلاثتهم؛ نتعرف على هواجس أحمد وسليم الفكرية والسياسية ورؤيتهم للثورة الإريترية، واختياراتهم الخاصة التي أدّت لمصائرهم في ما بعد. حكايا مطرزة بطقوس خاصة في الزواج وتفاصيله، في الرقص وتقليد شرب البُن، إلخ، وتحتشد بحوارات حول السوق والسياسة والقضايا العامة، تجري أحداث الرواية في المدة الأخيرة من حكم الديكتاتور جعفر نميري - استمر (16) سنة وأسقطته انتفاضة أبريل/ نيسان الشعبية سنة 1985، وتمتد لبعض سنوات الديمقراطية الثالثة قبل انقلاب الجبهة الإسلامية في يونيو/ حزيران سنة 1989.

لسانٌ يتحرَّكُ مع الغبار:

هناك أحجيات صغيرة، لها في العمق ظلال أسطورية تعبّرُ عن الذات الجمعي في توقه للقبض على هويته، صورته الشخصية، في خضم صراع عاصف له جذوره التاريخية والحضارية، نلمس هذه النزعة في منلوج شخصية (ود بال عاي) مثلاً وهو يعرّف بنفسه: «اسمي موروث من جدٍّ بعيد، من زمن الغبار، زمن الغبار كان قبل أن تنشق البحار، كانت الدنيا يابسة، الإعصار يبدأ من الهند ويصل شرق افريقيا دون عناء، بعض لسان أهلنا التقري كان في الصحراء يتحرك مع الغبار بقى هناك حين ظهر البحر الأحمر وأصبح لسانا عربياً، الآشوريون قالوا إننا أبناء عمومتهم من أولاد نوح».
نلمس تلك النزعة أيضا في قصة فتاة الجبل مع سميرة، الفتاة تشاهد جبل توتيل يأتي ليلا من مدينة كسلا إلى مدينة القضارف، يقف موازيا لجبل الخزَّان ويتحدث معها، يغادرها قبل بزوغ الفجر ويتكرر معها هذا الأمر لفترة ليست بالقصيرة؛ ولجبل توتيل هنا دلالته الخاصة، انه يكلّم الفتاة ويحمّلها رسالة: «استيقظتُ على تهدُّج صوت جبل توتيل وهو يقف موازيا لتلِّ الخزَّان، يعاتبني ويلحُّ علىَّ أن أسمعه» لكن الرسولة تجزع: «رجوته كثيراً أن يبحث عن غيري، أنا ضعيفة لا أقوى على تكليفه» سميرة حين تسأل الفتاة عن اسمها، تقول لها: «أنا شفتك مع الجبل» وتبقى الفتاة بلا اسم حتى نهاية الرواية.

لغة الطير:

اللغة، ليست اللغة التي كُتِبَ بها النص أو لغة الحوار داخله، إنما اللغة نفسها في بعدها المفاهيمي الذي شكلت به حضورها في النص بوصفها عنصرا من عناصر الصراع داخله، بل ربما هي من أبرز أسلحة هذا الصراع، في بعديه الداخلي والخارجي، يتمثل البعد الداخلي في صراع الأجيال داخل المجموعة ذاتها؛ الجيل الذي يتقن اللغة - الأم ويتمسّك بها تأكيداً للهوية ورمزاً للأصالة، والأجيال الجديدة التي لا تعرف عنها إلا طيوفاُ بعيدة، وبعض أكليشهات:-

• «ابنك إبراهيم فارس وأصيل لكن لماذا لا يتحدث لغتنا؟».

• «إنه ابن مدارس لا يعلم شيئا».

البعد الخارجي يتمثّل في صراع المجموعة مع المجموعة السكانية - الثقافية الأخرى، تمثلها في هذا النص (جماعة حمد حفُون) التي لا تملك لغةً خاصة بها، ومع ذلك تطلق على لغة الآخر الخاصة وصف (رطانة) ـ «الرطانة هي الهزر غير المفهوم ويقال إنها لغة الطير، (حمد حفون) بلسان التقري معناها الانفعالي أو العاطفي وحمد اسم شائع وسط المهاجرين من النيل لبلاد البجا»؛ هذه الرواية تضج بأسماء الأماكن في بلاد البجا (السودإرتيرية) في اللغة - الأم هنا وهناك وتبرزها- مسألة اللغة - الأم، من ضمن ما تبرز من مسائل وقضايا، وهي رواية لا تكف شخوصها عن طرح الأسئلة والجدل على المستويات المعرفية كافة، رغم بساطة تكوين بعض الشخوص وعادية المواقف والأحداث التي خلقتها في نسيج القصة.

Top
X

Right Click

No Right Click