رامبو في الحبشة: كيف يغدو الشاعر مجرماً؟

بقلم الأستاذ: سعيد خطيبي - روائي جزائري  المصدر: جريدة القدس العربي

نهاية 1880، هجر آرثور رامبو فرنسا، اعتزل الشعر وترك الألسن تلوك قصائده من خلفه،

رامبو الحبشي 2

وتغدق عليها المدائح في غيابه، كان في طريقه إلى أن يصير شاعر البلاد الأول، رغم أنه لم يتجاوز أواسط العشرينيات من العمر، لكنه تنازل عن ذلك الشرف، لم يغره الشعر مثلما أغرته الصعلكة، سار على قدميه وركب الباخرة وصولاً إلى الإسكندرية، طاف بين مدن البحر الأحمر يلتمس شغلاً، كان شاعر فرنسا يتسول خبزاً، عاد إلى قبرص وعمل في ورشة بناء، قبل أن يستقر تاجر قهوة في عدن، التي لم يطل مقامه فيها، مشتكياً من شدة الحر وقلة الماء الشروب وعجزه عن توفير «ثروة» - حلم بها ـ تتيح له عودة آمنة إلى بلده، ثم يبحر مرة أخرى إلى الحبشة، يقيم في مدينة هرر، مستأنفاً تجارة القهوة، ثم يستحيل مهرباً للسلاح. قضى رامبو سنواته العشر الأخيرة يهيم على وجهه، بين عدن والحبشة وما جاورهما، وهي المرحلة الأكثر ضبابية من حياته.

كثير من المؤرخين الذين تخصصوا في سيرته لم يصلوا سوى إلى اللايقين، لم يتمكنوا من فهم ماذا كان يفعل بالتفصيل: كيف تعلم العربية؟ لماذا اعتنق الإسلام؟ هل كان متديناً؟ هل كان ـ فعلاً ـ متصوفاً؟ كيف استطاع أن يكسب ثقة الإدارة الفرنسية في اليمن، وثقة اللصوص في آن؟ هذه المرحلة المستعصية من حياة الشاعر، التي لا نعرف الشيء الكثير عنها، عدا عن رسائله إلى أمه وشقيقته إيزابيل، يتكئ عليها حجي جابر في رواية «رامبو الحبشي» (عن داري تكوين - الكويت وضمة ـ الجزائر) ينقل القارئ إلى هرر كي يلتمس سيرة مُخالفة للشاعر.

نصادف، في الرواية، شخصية ألماز، مسيحية بائعة القات، التي وصلت إلى هرر رغم أنها كانت مدينة ممنوعة على غير المسلمين، مخفية وشم الصليب على جبينها. فشلت ألماز في استمالة قلب رامبو، لكنها أنقذت نفسها يوم سطا امبراطور إثيوبيا على المدينة مخلفاً مذبحة. في هذه القصة العاشقة، التي ابتكرها حجي بين ألماز ورامبو، رغم أنه كان حباً من طرف واحد، تدور جل فصول الرواية، يأخذنا إلى محاولات بائعة القات في كسب رهانها، بأن يبادلها الشاعر الأحاسيس ذاتها، بينما هي تعلمه الأمهرية، ويعلمها ما تيسر من الفرنسية، تتلصص على رسائله العائلية ولا يبالي بتلميحاتها إليه.

كان حجي جابر وفياً، إلى حد ما، لما جاء في سير رامبو، صوره في هيئته التي نعرفه عنها، في ميوله المثلية، فذلك ما شاع عنه بعد علاقته الحميمة مع الشاعر الآخر فيرلين، لكن رامبو لم يخف رغبته في زواج من امرأة، في رسائله إلى أمه، مثلما تغيرت حياته بعد خروجه من فرنسا، وهجر الشعر، تغيرت أيضاً ميوله، ورغم أن الروائي استطاع أن يبتكر حياة أخرى للشاعر، حياة طليقة لا تحدها أقاويل كتاب السير، لكنه في هذه النقطة، ميول رامبو المثلية، بدا ممتثلاً لإرادتهم، وقدم بورتريه الشاعر الذي سوف يصدم ألماز، حين تكتشف علاقته بخادمه جامي (وهي شخصية حقيقية) لكن أيضاً في خضم هذه الحكاية، نتوقف أكثر من مرة إزاء تحولات مدينة هرر، هذه القلعة المحصنة، التي تخلى المصريون عن حمايتها، فاجتاحها مينيلك الثاني، الذي أفلح في وقف زحف الإيطاليين وفي تمديد نفوذه، وعقب غزو هرر سوف نكتشف الوجه الآخر من رامبو بوصفه مهرب سلاح.

يمكن القول إن «رامبو الحبشي» رواية ألماز بالأساس، مثلما تمنع رامبو عن ذكر اسمها في رسائله، تغاضى الكاتب عن اسمها في العنوان، رواية السفر في القرن الافريقي، بين صحاريه ومدنه وموانئه، رواية التجارة والقهوة وحقول القات، والحروب باسم العقيدة والسياسة ورواية الحب التائه.

إن سيرة الشاعر الفرنسي آرثور رامبو تعد من أعقد السير، تخالجها الكثير من البقع الرمادية، وقد غامر حجي جابر في ملامستها، لعب ما يجدر بالروائي أن يقوم به، أن يملأ مساحات الفراغ التي خلفها المؤرخون، أن يبتكر حياة من لا نعرف حياته. كما إن قصة ألماز في الرواية لم تكن فقط قصة فتاة مغدورة بها، أضاعت الحب مثلما أضاعت الثقة في نفسها وفي جسدها، بل هي أيضاً قصة التعدد ضد الانغلاق، قصة الحرية في المعتقد لا الانغلاق في دين واحد، قصة هذا الصراع الأزلي في حق الإنسان في اعتناق ما يشاء.

مقبرة رامبو:

تسير الرواية على ساقين، بين صوت راوٍ عليم وصوت ألماز، بينما يتوارى رامبو إلى مجرد شذرات من رسائله العائلية، مع مقاطع شعرية يفتتح بها الكاتب كل واحد من الفصول، في هذا التوزيع التمس الكاتب عدالة، لم ينحز إلى رامبو، لم يمل إلى سطوة الشاعر وشهرته، بل صوره في حالاته الإنسانية، في نزعاته إلى الأنانية والغدر والمكر، وهذا ما يحسب للرواية، لم تسر في مديح مكرر لصاحب «موسم في الجحيم» احترم بوهيميته، لكنه لم يرأف به، من توارى خلف صورة الشاعر اللامعة، التي جعلته من الخالدين، لم يكن سوى «مجرم خجول» لم يمتنع عن كل عمل أو مهمة توفر له نصيباً من المال، هكذا يمكن القول إن «رامبو الحبشي» رواية ألماز بالأساس، مثلما تمنع رامبو عن ذكر اسمها في رسائله، تغاضى الكاتب عن اسمها في العنوان، رواية السفر في القرن الافريقي، بين صحاريه ومدنه وموانئه، رواية التجارة والقهوة وحقول القات، والحروب باسم العقيدة والسياسة ورواية الحب التائه.

كانت مدينة هرر آخر مدينة استقر فيها رامبو، في ذلك الشرق الكبير. على عكس كامل الكتاب الأوروبيين الذين سافروا إلى الشرق كي يكتبوا، فإن رامبو سافر إلى الشرق كي يدفن شعره، جعل من الشرق مقبرة الشعر، في هرر أحب التصوير، بل أراد أن يجني مالاً من التصوير، وهو تفصيل لم يفت الرواية، كما جرب أن يكون مستكشفاً وفشل، كان دائم التنقل على طول مئات الكيلومترات في صحارٍ تعج بقطاع الطرق، كيف نفسر أن رامبو كان الوحيد، زهاء عشر سنوات، الذي لم يتعرض لاعتداء؟

الرواية لا تجيبنا على هذا السؤال، لكن المجرم لا يمكن أن يتصالح سوى مع آخر مثله. وفي هرر أصيب بالتهاب المفاصل، استحال ورماً، فخرج منها محمولاً على الأكتاف، وهو يردد: «الله كريم.. الله كريم» كما ورد في بداية الرواية ـ وهي العبارة ذاتها التي سيرددها وهو يحتضر ـ غير قادر على المشي، أشهراً قبل أن تُقطع رجله ثم يصيبه سرطان فيلفظ أنفاسه في مرسيليا، ويدون الناس في سيرته حكاية علاقة جمعته بفتاة حبشية مسيحية اسمها مريم، لا نعرف سوى النزر القليل عنها. هل كانت ألماز هي نفسها مريم في «رامبو الحبشي»؟

Top
X

Right Click

No Right Click