ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الحادية والعشرون
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
الفـصل الثالـث:
عودة إلى الوراء: فلنعد قليلاً إلى الوراء لنجد أن الاقتتال الأهلي والذي بدأ عام 1971،
وظل دائراً حتى عام 1974 توقف القتال بين الجبهة وقوات التحرير الشعبية وقتل الأخ لأخيه منبوذ، ولا يقره الله ولا الإنسان.
وبسرعة فائقة انطلقت من اسمرا عاصمة ارتريا. ففي اسمرا كانت تتمركز الفرقة الثانية للجيش الأثيوبي، ومنها انطلقت الأحداث ورياح التغيير في أثيوبيا، ثم امتدت إلى مدينة هرر.
كان هذا في شهر شباط 1974 فانطلاق حركة الجيش الأثيوبي من اسمرا لها مدلولها ومغزاها فمنذ عام 1961 إلى عام 1974 والحرب التي خاضتها جبهة التحرير الارترية ضد الجيش الأثيوبي أضعفت الاقتصاد، ودمرّت الطرق، وضربت المرافق الحيوية، وأعطت ضحايا ومشوهين.
إذن فرضت الحرب أوضاعاً غير طبيعية، ومن هذه النقاط بدأ التمرّد العسكري ضد هيلا سيلاسي من مدينة اسمرا فجبهة التحرير الارترية قد بدأت بالمواجهة ضد الجيش الأثيوبي في مرتفعات ارتريا وعن طريق حرب العصابات مع الجيش الأثيوبي وليس مع المواطنين الارتريين سكان المرتفعات.
إن نظام هيلا سيلاسي سلّح سكان المرتفعات، ونظّمهم بشكل ميليشيات مسلحة ضد جبهة التحرير الارترية، كان يرمي من ذلك إلى ضرب الارتريين بعضهم ببعض.
لقد وجدت من خلال معايشتي للأخوة الثوار حين رافقتهم إلى المرتفعات - أن همهم الأول، كان منصبّاً على الحوار مع سكان المرتفعات وليس قتالهم، ثم محاولة ضم هؤلاء السكان إلى قوات الجبهة، وإذا سئلتُ لماذا سكان المرتفعات يتعاملون مع الأثيوبيين ضد الجبهة:
أقول: ليس له أي تبرير سوى تبرير واحد وهو التأثير الديني والثقافي على سكان المرتفعات الذي مارسته أثيوبيا، ألم يكن تدلا بايرو الارتري رئيساً للوزراء؟ وكان من المتحمسين للوحدة مع أثيوبيا؟
إن بعض سكان المرتفعات المسلحون يُطلق عليهم اسم الباندا، وتعني هذه الكلمة المسلحين الشعبيين باللغة الايطالية، كانوا يقاتلون ثوار الجبهة بشراسة ودون رحمة ولا يذكرون أن من يقاتلونهم هم أهلهم وأشقاؤهم.
لكنّ الاستعمار البغيض يستعمل دائماً أسلوب فرّق تسد وإلى متى تنطوي هذه الألاعيب؟ لقد استطاع المقاتلون أن يشرحوا ويوضّحوا لأخوانهم سكان المرتفعات، ومن اهالي مناطق حماسين وسرايي انضموا إلى الجبهة وعادوا إلى شعبهم، وبدأوا يقاتلون العدو الأثيوبي، بهذا النصر الكبير يكون قد تم أكبر انجاز سياسي حقّقته جبهة التحرير الارترية، ولا يستطيع أي تنظيم آخر أن يحقّق هذا الانجاز الذي لعب دوراً أساسياً في الحياة السياسية والاجتماعية، وكان مهماً في حياة ومسيرة الثورة الارترية أن الوحدات الفدائية الارترية استطاعت أن تقلب الموازين.
هذه الوحدات والتي كان يرأسها سعيد صالح والذي قُتل في مدينة كسلا السودانية على يد مجهولين "فبينما كان يمشي في الليل ضُرب بحجر على رأسه من الخلف، وسقط البطل الذي أرعب جنود أثيوبيا وسقط بغدر العملاء".
هذا البطل الذي حرّر السجناء في سجن مدينة أسمرا وعد خاله حرّر ألاف السجناء السياسيين والعسكريين، سقط البطل بأيدٍ قذرةٍ مأجورة، أعود وأقول إن الذي وضع استراتيجية العمل العسكري لحرب العصابات في المرتفعات هو الأخ أحمد ناصر وعبدالله إدريس وإخوانه، وأصبح أحمد فيما بعد رئيس جبهة تحرير ارتريا، إذن تنظيم الجيش كان لعبدالله إدريس وأحمد ناصر واخوانه، وسعيد صالح أصبح قائداً للفدائيين وتسفاي تخلي مفوضاً سياسياً في محافظة سرايي أما في منطقة حماسين فكان المفوض السياسي هو عبدالله حسن.
عندما بدأ الفدائيون العمل في المرتفعات لم يكن لدى الجبهة أية امكانيات، فبدأوا بقطع أسلاك الهاتف، ومهاجمة القطارات وتدمير الجسور، وأحدث هذا بلبلة بين الأثيوبيين، ثم قام الفدائيون بعملية ذات نوعية خاصة، ففي داخل العاصمة اسمرا توجد محطة الهاتف المركزية الكبيرة، كانت السلطات الأثيوبية، قد دفعت تكاليف هذه المحطة والتي بلغت 17 مليون دولاراً، وقام الفدائيون بتفجير هذه المحطة كان ذلك في عام 1974 وكان أحد هؤلاء الفدائيين ويُدعى تسفاي هنا كان يعمل في محطة الهاتف، وهو الذي أدخل المتفجرات إلى المحطة، قال لي أحمد ناصر إن تسفاي هنا كان يدرس معي في اسمرا ثم أن المناضل فساهي و عبدالله حسن وبرخت ومحمد عمر وفتوى وهذا كان اسمه الحركي أما أسمه الحقيقي فهو خيار وغيرهم هم الذين أوّل من نفذ العملية.
أعود وأقول: لقد تم انجاز الخط الوطني، المحيط بالمرتفعات، هذا الانجاز الذي انفردت به جبهة التحرير الارترية، وقلبت الموازين ضد أثيوبيا، هنا جن الجنود الأثيوبيين وقاموا بعمليات إبادة في كلٍ من مدينتي أم حجر و اغوردات ثم حرقيقو، وامتدت هذه العمليات إلى ضواحي اسمرا هكذا تمت عمليات القتل والإبادة.
وهذه رواية أخرى، وهي معروفة من قبل الارتريين، صحيحة وطريفة أقدّمها لكم، عندما جاء الجنرال آمان عندوم إلى قمة السلطة في أثيوبيا، وهو ارتري، اجتمع إلى المواطنين الارتريين في اسمرا وبقية المدن، وقال لهم باللغة العربية:
إن اسمي هو آمان وأنا جئتكم بالأمان.
ثم تلا عليهم الآية القرآنية حيث قال مخاطباً الارتريين:
إن الله تعالى قال في كتابه العزيز (لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) صدق الله العظيم، وأنا جئتكم بالامان والسلام.
إن الجنرال الرتري آمان عندوم درس في السودان ومصر، وهو يجيد اللغة العربية تماماً، وأخوه كان سفيراً في السودان، واسمه ملس عندوم وأيضاً كان يجيد اللغة العربية، فعندما تشكّلت اللجنة العسكرية الأثيوبية بعد الإطاحة بهيلا سيلاسي، والتي عرفت فيما بعد الدرق جاء آمان إلى ارتريا ورأى تلك الإبادة الجماعية، تحرّكت به النخوة الوطنية، لكنه لم يؤمن يوماً باستقلال ارتريا إيماناً كاملاً، عاد إلى أديس أبابا وطلب اجتماع المجلس العسكري بصفته رئيس المجلس.
وقال لهم: لا يمكن حل المشكلة الارترية إلا سلمياً، ولا يمكن الحسم عسكرياً.
وتم تفسير كلام هذا الجنرال الارتري بأنه تعاطف مع الشعب الارتري، وهنا دبّ الخلاف بين آمان والمجلس العسكري فمنغستو هيلا ميريام هو الرجل القوي في المجلس العسكري، وهو الذي كان يصّر ويعمل على ضرب جبهة التحرير الارترية، وهي الرائدة والقوية.
وبعد قتل آمان عندوم على يد منغستو تم إرسال الإمدادات العسكرية إلى ارتريا، وهذه التعزيزات وصلت إلى 5000 جندي، بالإضافة إلى القطع العسكرية المتمركزة في ارتريا. كان هذا في شهر أكتوبر عام 1974 وفي هذه الأثناء قام أحد رجال المجلس العسكري الأثيوبي واسمه أسياس وجميع وجهاء البلد.
وقال لهم: اطلبوا من أولادكم العودة إلى صفوف الشعب، فهيلا سيلاسي قد انتهى. ونحن تقدميون ونريد العمل لبناء أثيوبيا سوية.
قال هذا الضابط مخاطباً الأعيان:
نريد أن نحل المشكلة سياسياً، سلمياً لا عسكرياً.
كان هو الهدف المعلن أما الهدف الفعلي، لهذا الهدف المبطن، فهو ضرب الجبهة وتقليص النتصارات واحتوائها، وبالتالي إنهاء الثورة.
فما كان من الارتريين، إلا أن خرجوا من اسمرا وضواحيها، وكان عددهم بالآلاف. وذهبت هذه إلى مواقع الثورة في أماكن تواجدها في ضواحي أسمرا.
وقالوا: يا أولادنا أوقفوا القتال بينكم، ووجّهوا سلاحكم إلى الأثيوبيين.
كنت أنا في حينها مع قوات الجبهة، على مشارف أسمرا. مع المناضل حامد محمود، هذا البطل الارتري العربي، هو صديقي وأخذ تدريبه العسكري في سورية، كما تواجد أيضاً في المرتفعات كل من ابراهيم توتيل وعبدالقادر رمضان وحروى تدلاباير وغيرهم.
أما قوات التحرير الشعبية فقد تواجد منهم أسياس أفورقي ومسفون حقوس ورمضان محمد نور وإبراهيم عافا الذي قتل بعدها بسنين بظروف غامضة، والشهيد إبراهيم كان رجلاً عسكرياً فذاً فهو الذي كان يخطّط وينفّذ أكبر العمليات العسكرية، أما كيف قتل فعلمه عند الله، وبعد هذا حصل تدفق من جماهير المرتفعات إلى الثورة، كانت نتيجة هذا التدفق الذي حصل، قرار جبهة التحرير الارترية بوقف القتال مع قوات التحرير الشعبية والحوار والوحدة.
اجتمعّت هذه العوامل كلها، وأدت إلى تجميد القتال وبالفعل هذا القتال الذي امتد لسنوات إن جبهة التحرير هي الوحيدة التي كان لها تواجد في المرتفعات. وهي التي قاتلت لوحدها دون أي فصيل آخر، إن مقاتلي الجبهة كانوا يدخلون إلى معسكرات الأثيوبيين، ضمن المدن ويقومون بالعمليات الفدائية، ويقارعون الجيش الأثيوبي.
بعد التوقف بين قوات الجبهة والقوات الشعبية، تركت قوات التحرير الشعبية مواقعها في الساحل، واتجهت إلى المرتفعات بعدما عُبد لها الطريق من قبل شهداء جبهة التحرير، لم تقاتل قوات التحرير الشعبية في الأعوام السابقة أثيوبيا، بل كانت متواجدة في الساحل الشمالي فقط وبظل هذه المستجدات وبعد انتهاء معارك اسمرا التي خاضتها جبهة التحرير.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة