ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة السادسة عشر

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية

سجين كوناكري: عدتُ إلى عدن لم أذهب إلى فندق ليبرتي، بل ذهبت إلى فندق روك

ارتريا من الكفاح المسلح الي الاستقلال 2

في حي التواهي الراقي، وعلى فكرة كانت مدينة عدن مدينة مفتوحة، لا ضرائب على بيع المواد الكهربائية وغيرها، فهي موجودة بكثرة، واشتريت راديو ومسجّلة وما تزال موجودة عندي حتى الآن، وعشت أشهر في عدن هذه المدينة الجميلة، وجمالها يزداد في الليل، كنت أتنزه على الشاطئ المطل على المحيط الهندي، واسبح في الغولدُن مور على البحر الأحمر، وفي الظهر أتناول الغداء والذي هو عبارة عن أنواع متعدّدة من الأسماك، وحان وقت الرحيل إلى ارتريا عبر البحر، وقال لي الأخ أحمد جاسر.

يا أخ أحمد نريد السلامة لك، ونحن بإنتظار عودتك.

أود الآن أن أتكلم قليلاً عن عدن:

عندما كنت أتنزه في حي التواهي يبدو لي كل شيء مألوفاً إني في بلد عربي وبين شعب شهم وشجاع، شعب قاتل الإنكليز وأرعبهم وانتزع حريته بالقوة، وأجبر دولة عظمى على الجلاء، هذه الجبال العالية وهذا الخليج يلفّها كلها مجتمعة ضمن هذا الالتفاف الجميل من المحيط الهندي حتى البحر الأحمر.

وسألت أحمد جاسر: من أي نقطة سينطلق بنا السمبوك أي الزورق.

هيا نذهب للإفطار، وهناك أخبرك!

أنا لا أفطر في العادة.

ولم أذهب، وقلت له:

متى نتحرك يا صديقي؟

الليلة!.

إذن عليّ أن أستعد، وألمّلم حاجاتي.

إلى اللقاء بعد الظهر يا أبا سعدة، وسأمر عليك، وأرجو أن تكون جاهزاً.

إلى اللقاء!

كان من عادتي دائماً عندما أصل إلى أي بلد، أن أرسل برقية إلى زوجتي أشعرها بوصولي، ثم أختم البرقية بكلمة تحياتي وهذا رمز بيني وبينها على إني بخير، وعلى فكرة البرقية والرمز فقد أفاداني كثيراً لأنه حدث لي حادث مؤلم ومضحك في آن واحد في حينه.

كان الحادث مخيفاً وحياتي في مهب الريح، أما الآن فهو مضحك ومسلٍ، وكما أسلفت سابقاً فقد زرت معظم حركات التحرير في العالم وإليكم الآتي:

عندما هبطت الطائرة في كوناكري عاصمة غينيا توجهتُ إلى الجوازات كبقية الركاب وأنا ألتفت يمنة ويسرة وأتساءل:

من سيستقبلني في المطار كما أخبروني؟ أين مندوب جبهة تحرير غينيا بيساو ورأس الجزر الأخضر؟

ألم يقل لي مندوبهم في القاهرة إن مندوبهم في كوناكري سيستقبلك في المطار؟ أين الرفاق؟ وبعد طيران استمر 11 ساعة من القاهرة إلى كوناكري وجت نفسي أمام ضابط يبتسم ويشير لي أن أتبعه (الحمد لله رفاقي بالانتظار) وأشار إليّ الضابط أن أقف ولا أذهب من مكاني، لا بأس! سوف يذهب ويأتي بمن يستقبلني، هكذا تعودّت وهذا ما يتم عند زيارتي للسودان بأن يأتي أحد الضباط السودانيين ويقول لي بأدب واحترام: تفضل إجلس هنا..

أما هنا فقد أمرني الضابط الغيني: قف..! لا تجلس!

ربما كانت العادة هنا هكذا، إن جو السودان يختلف عن غينيا، صحيح أن الحرارة واحدة إلا أن الرطوبة هنا كانت عالية جداً، ولا تقارن برطوبة الكويت أو جدة، وخلال دقائق أصبحتُ مبللاً من الرطوبة، تمام الحمد لله لقد أتى إثنان يرتديان اللباس المدني، وبكل وقاحة دفعاني أمامهما، وتساءلت ما هذا الاستقبال..؟

ولم أتكلم ولم أعرف ماذا يجري، ودفعاني إلى غرفة مظلمة، إنها زنزانة، لكنها فارغة، ما هذا..؟ وما الذي يحدث..؟ وما هذا الاستقبال..؟.

في الخرطوم كنت أجلس ويقدمون لي الشاي باللبن أي الحليب، ويحضر العقيد خليفة كرار وهو ضابط كبير في الأمن السوداني ويسلّم عليّ، ويأخذ مني الجواز وأخرج من المطار دون أي إجراء، إلى سيارة خاصة حيث ينتظرني فيها بعض الأخوة الارتريين، أما هنا فبعد الدفش والنعر وكلمات لم أسمعها ولم أفهمها إلا أن تعابير الوجوه والشفاه الغليظة التي تبربر كانت توحي بأن شيئاً سيحدث.

عندما دُفعت إلى غرفة (الضيافة) في مطار كوناكري، أعتقدتُ بأني وحيد لأنني لم أشاهد أحداً في هذه الزنزانة، ثم فجأة ارتطمت بكتل بشرية لقد تحسستها بعد أن وقعت على الأرض، كان الجو مظلماً والموجودون في الزنزانة كثيرون، وبعد حوالي عشر دقائق أو أكثر، ثبتت الأشياء وفاحت رائحة نتنة كأن هناك حيوانات ميتة، الله أكبر.. هنا بشر كثيرون ولم أعرفهم إلا في اليوم الثاني، ما هذا القبر الجماعي؟ مذا فعلت؟

قلت في نفسي: ربما نزلت طائرتي في جنوب أفريقيا، والله لم أخطئ الطائرة.. فلماذا يحدث هنا ما يحدث! إني ذاهب إلى رفاقي إلى الثورة إلى غينيا بيساو ماذا حدث وما العمل؟ ماذا أحكي وما أكتب؟ أحد عشر يوماً وأنا في المنتجع؟ ماذا أسمي هذه الزنزانة هل هي سجن أم مكان لتخزين البشر؟ هنا يتغوطون وهم واقفون! لا ماء ولا ورق..!

في أحسن الأحوال يمسحون بالقميص ويحتفظون به للمرة القادمة، لعن الله الثورة والثوريين وهذه الدنيا، ولم أفكر بأحد، ولم أفكر إلا بنفسي، وأردت فقط لقاء وجه ربي، أحد عشر يوماً ليلاً ونهاراً، كل 24 ساعة يُفتح الباب ويقوم أحد النزلاء من فندق الخمس نجوم بتنظيف القاذورات وبراز الأفاضل المساجين!

والله لم أجد عدلاً إلا في هذا المنتجع، فمنتجعي هذا سكانه نظاميون، فكل يوم يقوم أحد النزلاء بتنظيف السويت، وعندما جاء دوري دفعت عشرين دولاراً إلى الحارس، وعشرة دولارات إلى أحدهم ليقوم بالتنظيف بدلاً عني، ثم قلت للحارس أريد ماء مدّدت يدي بعشر دولارات أخرى فزمجر الحارس يريد الدولارات قبل الماء، قلت له: لا.. الماء أولاً ثم النقود.

ودفعني إلى الداخل وأغلق الباب.

قلت له بالعربية: إلى جهنم.. "الله يلعن أبوك وأبو يلي جابني لهون".

ومرّت ساعات وربما سنين، هكذا أحسستها، الثانية بشهر والدقيقة بسنة، وفُتح الباب وظهر الحارس وهو يحمل دلواً من الماء، وتساءلتُ: ما هذا ماء أم ماذا؟ ومد يده يريد الدولارات..!

تفضل يا سيدنا.

كلامي كله بالعربية، وعلى فكرة في غينيا يتكلمون لهجات كثيرة أما الرسمية فهي الفرنسية، وكان أكثر كلامي بالإشارات والشتائم باللغة العربية، والله إن الأيام التي قضيتها كانت صعبة ومخيفة، وكاتُ الشتائم ما كلته طوال عمري كله، بعد تنظيف نفسي نظفت مكان جلوسي وأنا أزمجر وألعن غينيا من أحمد سكوتوري إلى الحارس، وإلى كل من نادى بالحرية والثورية، هكذا كانت تمر أيامي، لقد دفعتُ دولارات كثيرة رشوة للحارس ورفاقه وإلى بعض النزلاء الذين يطلبون بعض الخدمات والسجائر.

كنت أدفع لهم لينظفوا الأرض بدلاً عني، وإن يتغوطوا في الجردل الذي أحضره الحارس، هكذا كانت أيامي في المنتجع.

ولم تصل برقية مني إلى زوجتي، يوم يومان. زثلاثة أين الرجّال؟ هل ضاع الزوج؟

واتصلت زوجتي بصديقي واستاذي خالد الغزي رحمه الله وأخبرته أنني لم أتصل بها، وكان المرحوم يعمل كرئيس لقسم الرموز في وزارة الخارجية وهو رجل صادق، وفي اللحظة نفسها اتصل بسفارتنا في القاهرة وطلب من أحد أصدقائه في السفارة السورية الاتصال بالجمعية الأفريقية ومقرها في حي الزمالك، وفي هذه الجمعية توجد مكاتب حركات التحرير الأفريقية، ومرّ يومان دون إجابة.

وذهبت زوجتي إلى شركة الخطوط الجوية المصرية واستعلمت عني وفي المساء جاءتها الإجابة عن طريق الخطوط الجوية المصرية "إن زوجك أخذ الطائرة من مطار القاهرة إلى كوناكري ورقم الرحلة كذا وأقلعت الطائرة ساعة كذا، ووصلت إلى كوناكري وهو عليها، وقالت زوجتي في نفسها:

أحمد إذن في كوناكري أين أختفى؟ وهو على غير عادته، وبدأت الاتصالات والبحث عن سيادتي، وأنا أعيش في الجنة مرتاحاً مبسوطاً، واستغرقت عملية البحث هذه عشر ليالٍ ونصف نهار، وجاء الفرج وفُتحت الأبواب وابتسم الحارس وأخذ التحية، كان بعض المدنيين واقفين مع الحارس وقال أحدهم:

الأخ أبو سعدة "قالها بالعربية"

نعم سيادتي أبو سعدة.

استغفر الله.. استغفر الله نحن آسفون جداً.

على أي شيء آسفون أيها الثوار؟.

لنخرج من هنا ونصحّح ما حصل، وبإسمنا وباسم الثورة نعتذر، حصل خطأ، إن البرقية التي جاءت من مكتبنا في القاهرة لم تصلنا إلا بعد أيام من وجودك هنا، وإن الخلل الذي حصل نعتذر عنه وسنخبرك عنه، ونحن آسفون جداً.

إلى أين ذاهبون الآن؟

إلى المدينة إلى داخل كوناكري.

لا أريد منكم لا مدينة ولا غيرها أريد العودة إلى بلدي هذا ما أريده فقط..!

وبعد الرجاء والكلام، عن الأزهر والكعبة، كان صاحبنا المتكلم ويُدعى علي هذا هو خريج جامعة الأزهر، ذهبتُ معهم، ورميتُ ملابسي، وكان أطول حمام في حياتي، وعاد رفاقي وذهبنا للعشاء، ولم أسمع منهم إلا الآسف.

وسألتهم: لماذا فعلتم بي هكذا؟ مذا فعلت أنا لهذا البلد؟ ماذا فعلت لسيكوتوري؟.

يا أخي أحمد أرجوك أن تهدأ وتصبر، إن الله مع الصابرين إذا صبروا.. لقد حصل في البلد إنقلاب قبل مدة وقد فشل واشترك في هذا الإنقلاب بعض اللبنانيين ومن هؤلاء شخص من عائلة أبو سعدة وهو تاجر كبير، وهو دفع مالاً كثيراً ضد رئيس الجمهورية أحمد سكوتوري وهذا ما حدث. 

أنت مجنون يا بكر كان هو من يخاطبني، أما بقية الرفاق وعددهم يزيد عن العشرة ينظرون إليّ، نظرة واحدة فلم أفهم من وجوههم شيئاً، أريد العودة هكذا وببساطة حدث التباس والأحد عشر عاماً ونصف وهذه السنون كانت أياماً، أين ذهبت هذه الأيام وهذا العذاب، الحمد لله أننا موجودون هنا هذا ما قاله لي الرفيق بكر: اسمعوا ! أريد العودة!

وفكرت أن أذهب إلى سفارتنا لكن ذاكرتي أسعفتني، فليس لدينا سفارة في كوناكري في حينها، هذا الفيلم الدرامي الكوميدي لا يمكن نسيانه، كيف أنسى هذه المأساة؟ وكيف أنسى الإنسان الذي يتغوّط وهو واقف..؟ نعم رأيتُ هذا "الإنسان" في منتجعي طيلة المدة التي عشتها، لله در الديمقراطية وما أجمل الحرية بعد العذاب.

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click