ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الثالثة عشر
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
تيه في الصحراء: وفعلاً أستجاب الأخوة المسؤولون لرغبتي بالخروج من المؤتمر، وكان المؤتمر
قد اتخذ قرار عدم خروج أي إنسان منه ولأي ظرف كان، إلا أن الثقة العالية بي دفعتهم إلى السماح لي بالخروج منه.
ودّعت أصدقائي وإخوتي محمود إبراهيم شكيني و عبدالقادر رمضان و محمد عمر يحيى.
لم أكن أدرك أنه المرة الأخيرة التي ألقاهم بها، رحم الله الشهيدين محمود وعبدالقادر.
شدّوا حيلكم. وهذه كلمة يحبا الارتريون، كنا خمسة أشخاص، إثنان حماية والدليل وإدريس قريش وسيد سفينة الصحراء وأنا، مشينا ومشينا، وما أسهل لفظ هذه الكلمة من السادسة مساء حتى السابعة صباحاً ودون توقف أو كلام في السعاعة السابعة حط الركب وتمدّدت تحت شجرة التاوي الكبيرة، ونمت كنوم أهل الكهف، ولم أستيقظ إلا في الثانية بعد الظهر، استيقظت على نداء: الغداء جاهز.
إن قريش يعرفني جيداً لا أفطر ولا أشرب الشاي. وعندما أنام لا أريد أن يوقظني أحد، وقطعنا المنطقة الوعرة والجافة وهذه المنطقة كانت ملاذاً لقطّاع الطرق والمهربين، إلا أن الثورة التي حرّرت الريف وحرّرت الإنسان من عبودية الاستعمار الأسود، وحرّرته من المعاملة والجهل، جعلت هذه المنطقة مكاناً آمناً.
وبعد الغداء الفخم والشهي، فقد اشترينا من أحد الرعيان عنزة وقام الأخوان بذبحها على الطريقة الإسلامية، توجهت بالسؤال:
يا إدريس كم سيستغرق الطريق من آر إلى توكر..؟
لا أعرف..
وتقدم سيد الجمل وقال:
أعتقد ليلتين، والليلة الثالثة سوف نخش توكر على بركة الله ثلاث ليلال قصيرة.
إن الوصول إلى منطقة آر استغرق 16 يوماً، وكثير من الوفود عادت من أول الطريق، وهي لم تدرك أنها في الريف الارتري، لا راحة ولا فنادق من 5 نجوم ولا سيارات فارهة ولا.. ولا.. ولا إن الإنسان يشعر إنه في أرض الثورة التي أعطت 70 ألف شهيد، إن ثقة الإنسان بنفسه تزدّاد بن عندما يكون في أرض الثورة.
إذن علينا أن نسير في هذه الليالي، الحرارة شديدة والهواء شديد، هذا الرمل الناعم أصبح شوكاً مدبباً يضرب وجوهنا عندما نجتاز هذه الصحراء. وهبت هذه السموم كما يسميها صديقنا الدليل - ولم أستطع أن أفتح عينيّ، وحاولت أن أمشي بجانب الجمل، فوجدته قد أغمض عينيه أيضاً، ولكنه يسير بشكل طبيعي، ونحن نستظل به، والبنادق التي نحملها وضعناها على ظهر الجمل مع الذخيرة.
حاولنل مع صديق أن يترك سيفه على ظهر الجمل لكنه رفض، هذا كل ما يملكه في هذه الدنيا وكرامته رمزها هذا السيف.
ونحن في جو هذا الكرنفال، الحرارة مرتفعة جداً، والرمال تسف وجوهنا، وأقدامنا تغوص في الرمل الساخن، وببطء شديد نرفعها وننزّلها، ما الذي أتى بي لهذه المنطقة؟ كيف وصل أجدادنا وآباؤنا إلى هنا ؟..وأناروا درب الحياة وسط هذه الصحراء؟.
وأنا على هذه الحالة من التفكير، وجدت نفسي في موقف صعب. إني أمام ثعبان لعين، عيناي في عينيه، إلا أن يديّ كانتا تمسكان بالعصا الغليظة التي أحملها، وضربت الثعبان ورميته. هل ضربتي للثعبان الأصفر الذي انتصب أمامي (كالخازوق) كانت نتيجة للخوف أم للشجاعة؟ فلنقل الأمرين معاً. لقد اقتلعت الخازوق من جذوره وقلت:
يا شباب انتبهوا.
وصاح سيد الجمل:
إنشاء الله مات.
وهرب الجمل أو جفل، كما يقولون في بلادي، وركض صديق نحوي، والسيف في يده، وقتل الثعبان بالسيف، شيء جميل.. ما أجمل قطع رأس الثعابين!
قدما صاحبنا صديق تغوص في الرمال. وتحرك الثعبان و السيف فوقه، الرمال طرية، وضرب الثعبان فوق الرمال حالة صعبة، إلا أن سيف صديق كان حاداً، إذ قطع الثعبان عدة أجزاء، وكان طوله حوالي مترين ونصف المتر حسب خطواتي، أما الجمل فقد كان أصيلاً كعادته، فوقف بعيداً بانتظار أصحابه.
لقد تعلّمت من الأخوة الثوار الارتريين ميّزات كثيرة، ومنها الصبر والجلد.. وأراد الدليل أن يختصر الطريق. لكن الذي حدث أننا خرجنا عن مسارنا، ودخلنا في متاهة الضياع.
وهكذا يومان ونحن هائمون وضائعون، لا نعرف أين نذهب، ولا نعرف كيف نعود إلى مسارنا الأصلي؟
ونفذ الطعام والماء معاً، وخلال هذين اليومين لم نمّر ولم يمّر أحد، فلا قرى ولا رعيان ولا حتى أثيوبيين، ولا طيور ولا حيوانات، ولم نر أمامنا غير الأفاعي والعقارب، ونحاول تجنبها ولا نقتلها إلا عند الضرورة،ل أن هناك أنواعاً خطيرة ومن الصعب مباغتتها وهكذا بدأت حلوقنا تجف دفعة واحدة، وانتهى الشاي وماكنا نحمله، من زاد وماء.
ولكن الذي حدث هو الضياع غير المقصود، ولا يمكن نسيان شكلنا. ولا أنسى كيف تورّمت شفاهنا وتحولّت إلى كتل غليظة، وأصبح السكوت من شيمنا، حرف في ساعات كلمة في يوم.
أنا مدين بأشياء كثيرة للأخوة الارتريين، ما أجمل الصدق والأمانة، كيف كانوا يلاطفونني ويدارونني، ولا شيء مهم عندهم، سوى حياتي.
إن حياتهم غير مهمة بل المهم أنا لقد خجلت كثيراً وطلبت منهم أن يعاملونني معاملة عادية، مثلي مثلهم لا أكثر ولا أقل. في نهاية اليوم الثاني للضياع وعند نفاذ الماء وقد رآى مطرتي الأخ/ طاهر جبريل، "أحد مرافقيّ" تقدم وأعطاني مطرته التي فيها قليل من الماء،
قلت له: إن هذا الماء من حقك، وليس من حقي.
إلا أنه رفض وأبى،
وقلت له: سأدلق هذا الماء على الأرض.
أرجوك يا أبا سعدة أن تشرب الماء.
فلم أستجب لرجائه، ودلقت القليل على الأرض،
وقلت لهم: كلنا مثل بعضنا فالذي يحصل لكم يحصل لي.
وجلسنا في ظل حجر كبير، ننتظر أن تخف حدّة الشمس، ونحن بحاجة إلى الماء، إلا سفينة الصحراء، فهو نائخ (يجتر) بهدوء دون أن يحسب حساباً.. وتساءلت (لماذا لا يجتر الإنسان)؟ وأخذت أراقب سفينة الصحراء وقلت في نفسي (يا ليتني كنت جملاً)!
جلسنا جميعاً، إلا أن الأخ عثمان، وقد عرف أنه شقيق محمد شيخ عبدالجليل الذي كان آخر مسؤول عن مكتب الجبهة بدمشق، قام عثمان وتيمّم ولحقه الباقون، وصّلوا ونظرت إليهم وهم يؤدون الصلاة وقلت في نفسي (ما أجمل الإيمان، ولو عدنا إلى الوراء لوجدنا الإسلام قد دخل أرتريا وأثّر ديننا في الناس).
كانت الوثنية سائدة في أرتريا فاآثار المكتشفة في أكلى قوزاي تشير إلى عبادة الإله عشتار أي آلهة الزهرة، وعبدوا إله البر والبحر والحرب وكل الآلهة وثنية، وكانت تُصنع لها تماثيل في الجزيرة العربية، وانتقلت مع القادمين إلى ارتريا.
إن الهجرات العربية القديمة منذ عهد سبأ وحمّير وعلاقتها بمملكة أكسوم ودخول المسيحية في وقت مبكّر من القرن الرابع الميلادي، وحروب أكسوم مع حمّير حيث أن الحرب التي حركّت هذه الجيوش، غادرت عن طريق الشواطئ الارترية ثم إن علاقاتها مع أرض الحجاز، كان للتجارة والمصاهرة، ثم وصول المهاجرين الأوائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عن طريق أرتريا.
وعلاقة أرتريا بثورة الامام أحمد بن إبراهيم ومشاركتها بالثورة، ثم علاقة أرتريا بالثورة المهدية، واشتراك أرتريا بهذه الأحداث ناتج من موقعا الوسط في المنطقة، فهي نموذج للتواصل بين جنوب وشمال منطقة القرن الأفريقي، والتواصل بين هذه المنطقة والجزيرة العربية، فالشعب الارتري هو نتاج للزواج التاريخي بين مختلف العناصر التي تشكّل منها هذا الشعب، ألا وهي الكوشية و الحامية و السامية و الزنجية وهذه السمات تلتقي بتطابق كامل بهذا التكوين.
فالهجرات المعاكسة على مدى الأزمان الطويلة، تعتبر حالة لازمت أراضي أرتريا، من قبل الموجات البشرية، إن المدخل الوحيد للقادمين من الجزيرة العربية هو باب المندب على البحر الأحمر، فدخول الإسلام إلى المنطقة كان عبر الشواطء الارترية كما أن أرتريا والمخطوطات التي تم العثور عليها في جزيرة دهلك تقول إن أرتريا قد ارتبطت بالاسلام في وقت مبكّر، وبالدولة الأموية في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان سنة 685 ميلادية.
ثم إن امتداد السلطة الأموية أدّى إلى تجمع مسلم منّظم على الساحل الارتري، يشمل عدّداً من المناطق مثل دخنو، حرقيقو، مصوع وغيرهاوجزيرة دهلك التي قامت بدورها كمركز إنطلاق للإسلام في القرن الأفريقي.
فالصراع الروماني الفارسي الذي أقحم اليمن وأكسوم في الحروب اضطر العرب الأمويين للاستيلاء على عدة جزر في البحر الأحمر وشواطئه.
وعودة إلى ما كنا فيه قلت للاخوان بعد انتهاء الصلاة - تقبّل الله، والله يوفقكم وينصرّكم على أعدائكم.
وجلسنا نفكر: ما الذي يجب عمله؟ حتى إن سفينة الصحراء توقفت عن المضغ، ويبدو أنها أخذت تفكّر مثلنا. هذا ما تراءى لي..!
وأغفيت قليلاً وحلمت إنني في دمشق، أشرب الماء البارد ولم يطل الحلم فقد أيقظني إدريس وقال: هيا علينا أن نسير..! وسرنا.. ودون كلام إلى أن غابت الشمس.. ولم نتكلم أبداً.
وجاء دليلنا وقال: يجب أن نبات الليلة هنا حتى الصباح لنسلك الطريق الصحيح...
ونمنا تلك الليلة، ولا أعرف إذا كنت نمت أم لم أنم، الحقيقة لم أنم، وكلما غفوت للحظة أرى الأحلام المزعجة ولا أعلم لماذا لسيطرت عليّ ذكرى عشتها في نيجيريا، عندما كنت أمشي وحيداً في أحد شوارع لاجوس المظلمة، لأعد نفسي للسفر إلى منطقة بيافرا حيث كان الحاكم العسكري للإقليم الشرقي الكولونيل (أوجوكو) قد أعلن التمرد، وأقام دولته المدعومة من الغرب وإسرائيل، وبينما كنت أسير في ذلك الشارع، وبشكل فجائي أحسست بهواء شيء ثقيل يرتفع ليعود على رأسي، ولولا عناية الله، لكنت الآن في عداد الأموات، لقد شعرت بيد تمّتد وتبعدني عن العصا التي كادت تهوي على رأسي، من يد أحد اللصوص، فوقعت على الأرض، وجاءت العصا على الأرض، بدلاً من أن تأتي على رأسي، ومن شدة الضربة وقع اللص على الأرض، إلا أنه نهض وركض هارباً تاركاً العصا على الأرض، فالتقطها وأخذت أتأملها وأتأمل الشاب الذي يحتضن الفتاة ويأكلان موزة ولا أبالغ إن قلت لكم أن طول تلك الموزة حوالي 60 سم وقطرها حوالي 3 سم، وكان العاشقان يأكلان من الموزة ثم يرميان قشرها على الأرض.
وصمتُ لبرهة شارد الذهن، أتأمل وأفكر بأجوكو وبهذه الموزة التي يلتهمها الحبيبان، وكيف جاءت قشورها لتنقذني وتدفع بقدمي للسقوط على الأرض فأنجو من عصا اللص الغليظة، يا الله! ألا يوجد في هذه الصحراء ثعابين عاشقة أو عقارب لتنقذني، من موت طويل وبطيء؟.
في الصباح الباكر، كان أصدقائي يصلّون صلاة الصبح، قلت في نفسي: ربما تكون هذه الصلاة هي الأخيرة.
ومشينا وراء الجمل، لأن عاصفة رمليةهبّت، وبدأ الهواء الساخن مع الرمل يلسع وجوهنا، مرت ساعات ونحن على هذه الحالة ولم نمت..! ألسنا أبطالاً..؟
أم أن الأبطال هم الذين يموتون، إلا في السينما الأمريكية فالأبطال هنا لا يموتون.. وسألت نفسي (ما بالك؟) هل بدأت تخرّف؟ نحن لسنا في سينما، ولسنا أبطال سينما، بل نحن أمام واقع، وأرجو ألا يتحول هذا الواقع إلى كارثة، وانتفخت شفاهنا وتششققت، وغدت أفواهنا جافة كالحطب، والشمس تحرقنا ولا ترحمنا، وبدأت خطانا تخف قليلاً قليلاً، الرمل الساخن يحّرق قدمي وأنا أنتعل (الشدّة) مثل زملائي.. كلنا صامتون وسفينة الصحراء صامتة، كنا موكب الصامتين.
وتذكّرت كلام والدتي حين قالت لي: حين تعطش يا ولدي، ضع في فمك بحصة صغيرة وحركّها.
فقلت في نفسي (أين البحصة في هذه الصحراء) ودقيقة بعد دقيقة، ستون دقيقة مثل ستين عاماً من القسوة والعذاب.. هدأت الريح، وأصبحنا نرى بعضنا البعض، كيف أنسى في حياتي هذه الوجوه الطسبة؟ وهذه العيون النقية التي تنظر إليّ وتقول لي (نحن فداك يا صديقنا) لقد أصبحت وجوه أخوتي لا لون لها إلات أني كنت ألاحظ شفاههم المنتفخة الدامية.
وصحت أنا: الله... هل هذا ماء أم سراب...!
لا يا أبو سعدة إنه ماء...
وسرنا بإتجاه الماء، ولكن للأسف كان ماءً ساخناً ومالحاً، فلم نستطع أن نشربه، على كل حال بدأنا بمعاودة السير من جديد، فعلاًسرنا في الطريق الصحيح ونرجو أن نصل إلى منطق، نجد فيها ماء عذباً هذا ما قاله طاهر: عليك بالصبر يا أبا سعدة وهزّزت رأسي وتوكلت على الله ومشينا،
وبدأت قوانا تخور بعد مضي فترة إلا أن الصمود هو الطريقة الوحيدة لمواصلة السير، وغابت الشمس وبدأ الظلام يخيّم.
كنا جميعاً مرهقين وعطشى، أما الجوع فلم نكن نحس به، العطش هو وحده الذي يعذبنا، وهذه الليلة السادسة دون ماء، في هذا الجو الحار، ولا أبالغ إذا قلت أن درجة الحرارة تزيد على الخمسين.
ونظرت إلى نهاية غروب الشمس، وإلى الأفق نظرات لهها معنى واحد، اليوم أشرّقت الشمس عليّ وإخواني،
وغربت وما نزال أحياء وتساءلت: (هل ستشرق الشمس غداً ونحن أحياء؟ أم إن هذا هو الغروب الأخير؟)
فعندما تغرب الشمس، تغرب معها حياة الكثيرين فهل جاء قدرنا لنغرُبَ ولن يكون لنا شروق مرة ثانية؟ هل سنكون شهداء؟ وهل تجوز علينا هذه التسمية؟وهل أكون أنا العربي السوري الأول الذي استشهد على تراب أرتريا؟.
ونمت متعباً مرهقاً عطشاناً، ولم أشعر بيد لطيفة كالسابق، تلمسني. لا يد إدريس ولا يد طاهروعثمان وبقية الأصدقاء.
استيقظت مرات عديدة في الليل وتساءلت (أين الثعابين أين العقارب؟ نريد أن نلسعها ونأكلها أو تلسعنا وتقتلنا، يا الله!.. حتى العقارب والثعابين ضنت علينا)
وأخذ رفاقي ينظرون إلى بعضهم البعض ويتساءلون أما نزال أحياء الحمد لله إننا ما زلنا أحياء، لا أستطيع أن أفتح فمي أو أغلقه، أدخلت إصبعي في فمي أنظّفه من الرمل، وناديت على أحدهم خوفاً من أن يكون حدث لهم شيء، فردّوا جميعاً بصوت واحد: كيف حالك يا أبو سعدة؟.
فأجبتهم: حتى الآن أنا حي الحمد لله..
نحن ننتظرك حتى نعود للسير فما رأيك؟..
والله أنا لا أريد السير، إني أنتظر الفرج هنا، أو أن ألقى قدري ولكن لا بأس.. أنا أعيش معكم وأموت معكم، لكن هل نستطيع استئناف السير؟ وقفت على قدمي بصعوبة وأقول في نفسي: أين الثعابين؟ صحراء دون ثعابين..! إن حظها ألا نراها فإن ثعبناً واحداً يفي بالغرض، وقلنت في نفسي (لماذا لا نذبح الجمل؟ لا ليست مشكلتنا الطعام، بل هي الماء فهذا ما ينقذنا، لماذا لا نفعل مثل القائد العربي خالد بن الوليد، حين ذبح الجمال واستخرج الماء من سنم كل منها؟. ولم تخطر هذه الفكرة على بالي ولو خطرت لي ذبحنا البعير وببطء شديد كنا نتقدم، والجمل وحده كان نشيطاً ويجتر، وأنظر إلى مشفريه وأرى الزبد، وكثيراً ما تمنيت أن آخذ هذا الزبد من مشفريه.
ومرذرنا ببحيرات كثيرة، إلا أم ماءها كان مالحاً مراً وملوثاً. هل بدأت عيناي تزوغان، أم إنها حقيقة؟
وصرخت على رفاقي: هل ترون ماأرى؟
الحمد لله لأول مرة ضحكنا منذ أيام، وأخذنا نركض، ولكن ببطء شديد.
صرخت بهم: يا جماعة.. أصبحنا قريبين...
لقد تغيرت جغرافية الأرض.. والله رجعنا شباناً إنه شجر الدوم والتاوي، لقد رجعنا شباناً، وعند أول شجرة دوم، ألقيت نفسي العطشى، لقد أخذ التعب والعطش منا كل شيء إلا الأمل. وأعتقد أنني غفوت مدة ساعتين أو أكثر.
هيا يا إخوان نسير ومشينا وأصبح الجو أفضل من الأول على الأقل يوجد هنا شجر نستظل به، وطالما إنه يوجد شجر فيوجد ماء، وكنت الشاهد الأول على الأمل الذي أصبح حقيقة، نعم إنها حقيقة وليست خيالاً، عشرات الجمال امامنا، إنها قافلة، وكانت الصيحات: عليهم يا شباب..
وعندما لامست عيني مطرة الماء لم أدّق.. إنها حقيقة، إنه الحياة نعم.. أمسكت المطرة لوحدي وشربت.. وشربت.. وعندما رفعت القربة، أرتحت قليلاً إلا أتنني أحسست بشيء في حلقي وتساءلت (ما هذا الذي في حلقي وما هذه الرتائحة الكريهة؟) ثم شربت مرة ثانية، وكادت بطني أن تنفجر وعادت الرائحة الكريهة إلى فمي وأنفي إنها رائحة (صنه) وسألت: ما هذا؟
فقيل لي: إن هذا الماء وسخ والمواطنون هنا يضعون في قربة الماء شعر الغنم حتى صفّى، والأن فهمت الحقيقة، شعر الغنم في الماء هذه هي الرائحة الكريهة (صنه)؟..
كان إخواننا في القافلة من الشعب ومعهم الجنود والحرس، نعم إن هذا الماء وهذا التموين ذاهب إلى المؤتمر والمؤتمرين، لقد ارتحت حينها، أحسست بأن الأخ/ صالح أياي قد أرسل النقود التي أخذناها من عثمان سبي في دمشق، وعاودنا السير ونحن نشعر بالتعب، وكثر الماء والطعام والشاي وماذا نريد غير الراحة، وودعنا القافلة بعد أن أخبرونا إننا على بعد يوم من توكر وأمامنا القرى والماء ولكن لن نشرب الماء لأنه مليئ بالجراثيم وأعطونا مطرة (زمزمية) وقالوا: القرى أمامكم.
وركبت أنا الجمل وقلت لهم بالتناوب، ولكني أنا الأول. وسرنا وسط أشجار الدوم ولم أنزل عن ظهر الجمل، وظهر الصباح دون قرص الشمس وغفت عيناي قليلاً، فسقطت من فوق الجمل وركض الأخوان.
باسم الله.. باسم الله..
ولم يصبني مكروه، كأني سقطت على ريش نعام، كما يقول العامة إن الكريم لا يؤذي والمثل يقول: "إذا ضربك جمل لا يؤذيك مطلقاً سوى إنه يبعدك"؟ نعم لقد جازاني الله لأني ركبت لوحدي مع إننا في حال واحدة.
وقالوا لي: لا نريد الركوب فقد أصبحنا قريبين من توكر إركب وحدك، وقلت: إذن أركب أنا، وتقدم قريش قائلاً: أعطني الجمل! وحل عني فقد جاء دوري.
ساعات ولاحت المنشودة إنها توكر العظيمة، وعند الغروب أخذنا ندّق الأبواب، وقد آراد الله تعالى ألا تغرب شمسنا.
وفي الصباح الباكر في اليوم التالي ركبت السيارة وهي عتيقة ولكنها قورية، واتجهنا إلى بورسودان حيث كانت الحرارة قوية جداً، وتعتبر بورسودان من أشد بلاد العالم حرارة، ومنها سافرت إلى الخرطوم ومن الخرطوم مباشرة إلى دمشق، وبعد أسابيع تلقيت نتائج المؤتمر الوطني الأول وأهم ما جاء بها.
"إن جبهة التحرير الأرترية، جزء من حركة التحرير العربية والعالمية".
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة