ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة التاسعة
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
في ظل شجرة: الآن في آر، وهذه الشجرة الكبيرة يجلس تحتها الأخوة المؤتمرون، ولقد أعدّدنا لك خيمة
خاصة بك وعليك أن تأخذ قسطاً من الراحة وبعدها تفعل ما تريد.
قلت لهم: خذوا عفشي إلى الخيمة وأنا سأذهب إلى قاعة المؤتمر.
على كيفك يا أبو سعدة!
وخلال دقائق كنت أجلس بين الأخوة المناضلين بهدوء تام. جلست في قاعة المؤتمر التي كانت عبارة عن شجرة كبيرة جداً، وعلى شكل نصف دائرة جلس المؤتمرون والضيوف على الأرض الصخرية، وأخذوا يناقشون ويقترحون، وما هي إلا لحظات قليلة حتى سرت همهمة بين المؤتمرين وعم نوع من الفوضى، فقام الأخ/ إبراهيم توتيل وأمسك بمكبر الصوت، وطلب من المؤتمرين (نقطة نظام).
كررّها مرات عديدة والهمهمة تزداد وكما قلت لكم عم شيءٌ من الفوضى، وصاح إبراهيم بأعلى صوته وقال بالحرف الواحد: نعم أيها الأخوة المناضلون والأصدقاء.. إن بينكم صديقكم.. شقيقكم.. صديق شعبنا وثورته.. أحمد أبو سعدة.
وهات يا تصفيق، وهات يا هتاف بالحرية والاستقلال.
وطلب الأخ إبراهيم أن ألقي كلمة.
فقلت له: إني تعب.. وكانت الدموع تملأ عينيّ.. والحقيقة أقولها الآن وبعد تسعة وعشرين عاماً من ذلك التاريخ إنني لم أكن تعباً ولكنني لا أعرف كيف أخاطب الثوار الحقيقيين وأنا أمام هذه المشاعر ماذا أقول لهؤلاء المناضلين الشرفاء؟.
وعاد الأخ توتيل وطلب نقطة نظام إلا أن النظام قد فقد نهائياً، فما كان من المسؤولين عن إدارة المؤتمر إلا أن طلبوا انفضاض الجلسة وتأجيلها إلى وقت آخر. وكان كل ذلك بسببي.
وانفضت الجلسة وجاءني الأخوة الأشقاء محمد عمر يحيى والأستاذ/ محمود محمد صالح و عبدالله ادريس و محمود حسب و محمد أحمد عبده و عبدالقادر رمضان و تسفاي تخلي وغيرهم ورحبوا بي، ثم ذهبوا إلى خيمتي، والحقيقة لم تكن خيمة بل بيتاً من القش، وكنت مدللاً جداً، وتساءلت أنا لوحدي في هذا الكوخ وعندي طباخ وحراس، أما الطبّاخ فهو الأخ المناضل/ موسى.
إنني في أرض آمنة.
لست في الغابات الاستوائية، حيث يكمن الموت في كل بقعة وتحت كل شجرة، حتى عندما كنا نخلد إلى النوم، لا يفارقنا الخوف أبداً ويبقى مسيطراً على أنفسنا.
هل رأيتم أشجاراً يبلغ طولها 30 متراً وأكثر؟!
هل رأيتم كيف تكون الأشجار الطويلة متشابكة ببعضها البعض لتمنع تسرب أشعة الشمس إلى الأرض؟!
الظلام والسكون يولّد الخوف، من شيء مجهول تترقّبه ولا تعرفه.
الموت قد يفاجئك في أية لحظة، قد تدوس مثلاً على أوراق الأشجار المتساقطة على الأرض وسط الظلام النهاري فإذا بأفعى تنقض عليك، وتلتف حول ساقيك بسرعة كبيرة لتلقيك أرضاً ثم تبلعك في فترة قياسية، لتلفظ في البداية آلة التصوير إذا لم تسقط من يدك خوفاً، والأشياء المعدنية التي تكون بحوزتك مع حذائك، عندما تبتدئ الأفعى بعملية بلعك ثم مضغك، تلفظهما مع عظامك لأن المدللة لا تستطيع هضم الجلد المصنوع وهضم العظام والأشياء المعدنية.
نعم فطول الأفعى قد يصل أحياناً إلى مابين (10- 12م) وعرضها يتراوح بين (40- 90سم) ملمسها حريري، بل أكثر من حريري في نعومته، هذا نوع واحد من الأفاعي، فما بالكم بعشرات الأنواع الأخرى من الثعابين؟.
عندما كنت أبحث عن رزقي،وأنا الذي عانيتُ في ذلك الكثير والمرير، كنت أغامر بحياتي، من أجل حبي لعملي وطلباً لرزقي، وفي أحد الأيام طُلب مني أن أذهب إلى جنوب السودان، أو أفريقيا الوسطى، ونظراً لكثرة سفري إلى جنوب السودان، قررت الذهاب إلى أفريقيا الوسطى.
قرية عدد منازلها، حوالي الثلاثين بيتاً من القش وأصوات الطبول تقرع بقوة، من كل حدب وصوب، والذي لا يملك طبلاً يقرعه يضرب تنكة وأصوات النساء والرجال والأولاد بين ضحك متواصل يصل إلى حد القهقهة "الهستيرية"، وخوف شديد يصل إلى حد المرض.
رجل ممدد على الأرض يربط في رجله حربة طويلة حادة وتقترب المدللة باتجاه الرجل الممدّد على الأرض وهي تسحق العشب تحت بطنها الرخو واللزج، وارجل ممدّد وكأنه يغط في نوم عميق على سرير أبيض وسط غرفة وردية وموسيقا كلاسيكية حلمة ينتظر محبوبته.
المدللة تقتربُ وتشم رائحة الإنسان اللذيذة، وقرع الطبول والتنك وضوضاء البشر، تُفتح أبواب النعيم، فتلمع عيون المدللة، لقد أتاها الرزق الحلال.. أتاها الرزق دون البحث والتعب، فيسيل لعابها على طرفي فمها، وصديقنا ممدّد وينتظر المحبوبة، وفجأة يدق الجرس لتدخل المحبوبة حبيبها، في ثغرها الجميل (شافطة) قدميه الاثنتين، ومن شدة ولع المدللة بمحبوبها، تشفط الحبيب من قدميه إلى فوق ركبتيه دفعة واحدة،ثم تقف وتسترد أنفاسها، لتكمّل ابتلاع حبيبها الذي انتظرها أياماً طويلة: لقد كانت شفطة قوية أتعبتها، ولم التعجل؟
أليس قد دخل إلى جوفها، وما هي إلا دقائق لتعود لضم الحبيب، عفواً لسحب الحبيب إلى أعماقها مرة أخرى فها قد دخلت ساقاه إلى جوفها، وفجأة يتمرد الحبيب وبسرعة البرق يحرّك المحبوب ساقه التي ربطت عليها الحربة الحادة ليشطر المدللة تتخبط يمنة ويسرة، وكأنها ترقص على صوت الطبول والتنك، ترقص رقصتها الأخيرة، لقد غدر بها محبوبها تقع "الأصلة" كما يسمونها في السودان، لا حراك فيها ليبتدئ المحبوب بسلخ جلدها كي يبيعه، بسعر باهظ من أجل لقمة العيش، لكّن الحياة أغنى من أي رزق، يدفع الإنسان ليغامر بحياته من أجله، إن نواكي وهذا اسم المحبوب، لا يمتلك البندقية ولا طلقات السم، ليقف بعيداً عن عشيقته ويرميها، إن حبه لعشيقته يدفعه، لأن يغامر بحياته من أجل لقمة العيش له ولأولاده.
نحن في منطقة شبه صحراوية،ولسنا في الغابات الأستوائية.
سأنام وأنا هانئ البال دون خوف لأني بين أهلي وأصدقائي.
في اليوم التالي قبل الجلسة الصباحية، جلست مع الأخ/ محمد أحمد عبده قائد جيش التحرير. جلسنا لوحدنا. وبعد السؤال عن الصحة والأهل والأحباب سألته: أين كنت عندما تركتك في بركة عام 1969؟
في الميدان يا أبا سعدة.
ألم تخرج مطلقاً؟..
لا... لم أخرجمن وقتها. اعتقدت يا أخ محمد أنك في السودان.
لا أبداً.. أنا لم أخرج، وهذه ليست مدة طويلة.
سنتان ومدة غير طويلة؟
أبداً.. إن كثير من المناضلين، مثل تسفاي تخلي، لم يخرج من الميدان مدة خمس سنوات، وهناك مناضلون لم يخرجوا من الميدان مدة خمس سنوات، وهناك مناضلون لم يخرجوا من الميدان منذ التحاقهم بالثورة.
اعتقد بأنك مسرور من انعقاد المؤتمر؟..
والله يا أبا سعدة إن مؤتمرنا، هذا هو أول عمل منّظم تقوم به الجبهة، وأنت تعرف ما عانينا.
ماذا تقصد بعمل منظم ؟.
في عام 1961 بدأ الكفاح المسلّح في المنطقة الغربية من ارتريا وكان هناك شعور سائد في كل أنحاء أرتريا، وهو التركيز على الكفاح المسلح ضد أثيوبيا.
فاخواننا المقاتلون الأوائل الذين تحمّلوا عبء النضال، وعبء الكفاح المسلح، كانوا بسطّاء شبه أميين لكنهم كانوا مفعمين بالروح الوطنية جبهة التحرير الارترية أعلنت يا أحمد عام 1960، أما الكفاح المسلّح فكان عام 1961، وكان على رأس هؤلاء الوطنيين حامد إدريس عواتي، والمناضلين فايد ومحمد علي إبراهيم و كراييب و كبوب حجاج أما البقية فإن الذاكرة تخونني الآن.
من هؤلاء الناس بدأالكفاح المسلّح.. لكن هؤلاء الأخوة الأبطال كان مستوى التعليم شبه معدوم عندهم،والوعي السياسي لم يكن مبلوراً، لكنهم تحملوا عبء المواجهة السياسية والعسكرية، مع أثيوبيا. فكان بينهم وبين الأثيوبيين وعملائهم عمليات الكر والفر وخاضوا حرباً ضد أعوان أثيوبيا، واستطاعوا تعبئة الرأي العام وأقحموه بالروح الوطنية، من هنا بدأت الثورة وقد بدأت من المنطقة الغربية كما قلت لك سابقاً ومن هنا بدأ إدريس عواتي وإخوانه الكفاح المسلّح.
وبعد خمس سنوات امتدت الثورة إلى الساحل وإلى مدينة كرن و منطقة القاش وكان عملاء أثيوبيا كثيرين، وعانت الثورة منهم الكثير، إلا أنه وفي عام 1962 بدأت الثورة تستوعب أعداداً مدّربة مثل الجنود والشرطة الذين درّبهم الانكليز بعد الحرب العالمية الثانية.
وأثناء هذا السرد التاريخي جاء الأخ/ عبدالقادر رمضان وجلس بيننا. وقلت للأخ/ محمد أحمد: تابع نضالك.
وعلى فكرة إن الأخ محمد أحمد عبده هو خريج كلية ضباط الاحتياط في مدينة حلب، كذلك الأخ/ عبدالقادر رمضان. وتابع الأخ/ محمد أحمد حديثه قائلاً: انضمت إلينا أعداد لا بأس بها، ممن كانوا يخدمون في الجيش السوداني، أمثال أصدقائك عثمان أبو شنب و محمود إبراهيم و محمد سعيد شمسي و عثمان آدم و عمر ناصر شوم و عمر ازاز و إدريس حجاج.
بهذا العدد تم تكوين جيش التحرير، إضافة إلى الطلبة الذين تدربوا في سورية ومصر عام 1962-1963. وفي سورية كان يتم تدريب الضباط بشكل دورات سريعة، ومنهم محمد علي عمارو و عبدالكريم أحمد كذلك الطلبة الذين كانوا في القاهرة، ثم العسكريين الذين كانوا يخدمون مع إيطاليا، وحاربوا معها هؤلاء انضموا للثورة وكذلك رجال القبائل الأشداء.
من هنا كانت نواة الخبرة العسكرية الارترية، وهنا استأذن الأخ/ عبدالقادر رمضان وقال إن الجواسيس كانوا كثيرين.. والأخوة المناضلون، حين كانوا يتحركون يخفون آثار أقدامهم خوفاً من الجواسيس.
وسألتهم: ومن أين يأتي السلاح؟
أجابني محمد أحمد عبده: نحن بخير الآن يا أبا سعدة. نحن نحمل الآن الكلاشينكوف، وهذا بفضل سورية وأشقاءنا في الدول العربية، كانت عندنا أسلحة قديمة إيطالية وإنكليزية مخبأة من أيام الحرب العالمية الثانية، وكنا نأخذ ونستولي على السلاح بالهجوم على المخافر والنقاط العسكرية الأثيوبية.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة