ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الثامنة
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
عظمة الأمة: أنا الآن على التراب الارتري، وعلى مقربة من الساحل، ولم أكن أعرف أنني بعد عدة أشهر
سأكون في أرتريا مرة أخرى.
وفعلاً كنت في منطقة ساوا، وعند أحد آبار الماء تقدمت إحدى الصبايا الجميلات، وأعطتني دلواً من الماء لأشرب وأغتسل.
كنت مع المناضل حامد محمود و إدريس محمد، شدّ ما هنّ جميلات تلك الصبايا؟
وكيف يملأن دلو الماء، من البئر المحفور وسط الرمل، ويملأن القرب الجلدية المحمولة على ظهر الحمير، ويتضاحكن على هذا الأبيض، الذي كان يغتسل، ويسرقن النظر إليه، وأنا أيضاً كنت أسرق النظر إلى ن. ما أجمل خلق الله، وتقدمتُ من إحداهن وسألتها: ما اسمك ياحلوة؟
وأعدت عليها السؤال مرة ثانية، فلم ترّد، بل أخذت تضحك بدلال وغنج. وتقدم رفيقي في الرحلة، وكلمّها بلهجتها فلم تجب. عندها تجرأتٌ وتقدمتُ منها وأمسكتُ يدها من معصمها وقلت لها: إذا لم تخبريني عن اسمك فلن أتركك.
أسمي زينب.
قالتها في ابتسامة ودلال.
قلت لها: أنا أحمد..
أنت مسلم؟
نعم.. هل تتزوجينني.
ضحكت وهربت.
لكنني أحسست بأنها صادقة، إذا كنت أنا صادقاً.
نعود الآن إلى صديقنا، الراعي عبدالوهاب الذي، كان يجلس قريباً مني. كان يسألني كثيراً فأجبته قليلاً. إن عبدالوهاب أحرجني كثيراً، عندما أخذ يسألني عن البلدان العربية وسبب تفرقها فلم أعرف بماذا أجيب؟!.
وقلت له: ألا تعزف لي على هذه الربابة ونؤجل الموضوع إلى وقت آخر؟
وقف الفتى الراعي وقال لي: أنت تريد الكلام، وأنا عليّ أن أجمع أغنامي.
لم أجب عبدالوهاب عن سؤاله عن سياسة الأقطار العربية لأني أعيش في دوّامة من الضياع!.
وعند الغروب - وبعدما ملأنا قربنا من الماء تحركنا على بركة الله، كنت منقبض النفس متضايقاً، كنت آخر واحد بين رفاقي، وبدأت الرمال تلسع وجوهنا، والهواء يغنّي وتحول هذا الغناء إلى أصوات غريبة لا نفهم منها شيئاً. إنها ليلة صعبة وقاسية.
وجاء الوقت الذي لم أستطع فيه أن أفتح عيني من شدة الريح، المصحوبة بالرمل (وجاء دليلنا وأخبر أحد الحراس بشيء).
فقال لي الحارس: الأخيّر لك يا أبو سعدة أن تركب الجمل، فالطريق طويل وسوف يشتّد الهواء. إركب أخيّر لك!.
وفعلاً ركبت الجمل وأغمضت عينّي من الهواء القوي المصحوب بالرمال الناعمة، وبين الفينة والفينة كان الجمل يقف ويأكل شيئاً من الأرض ومن الأشجار.
وتساءلت كيف يأكل الجمل هذا الشوك ويمضغه؟
صدقوني إذا قلت لكم إن طول الشوكة حوالي عشر سنتمترات.. كنت أسمع اجتراره للأكل.. إنه مبسوط.. إنه مرتاح، ساعات وساعات، وأنا فوق الجمل، ولقد أحسست بالتعب ونزلت وتابعت طريقي ماشياً وسط الرمال الطرية التي كانت أقدامنا تغوص فيها.
ومع بزوغ الفجر أصبحت الأرض قاسية، وأقبلنا على أشجار الدوم، وهذا يعني أننا دخلنا في أماكن مأهولة، أن هذه الأشجار تعني وجود حياة ومياه.
وعندما وصلنا إلى ذلك الموقع، كان التعب قد أخذ منا كل مأخذ، ولم يكلّم أحدنا الآخر، بل أخذنا نكلّم أنفسنا. وجلسنا تحت الأشجار وحامت في ذهني أمجاد أمتنا وماضينا التليد. وعدت أتساءل كيف وصل أجدادنا وآباؤنا إلى هنا وهناك؟ هنا كانت أرض آمنة، وقد حرّرتها الجبهة من الأثيوبيين. وقلت في نفسي:
(إذن سأرتاح وأعود إلى عظمة أمتنا وقوتها).
كانت عظمة أمتنا تشغلني دائماً وأنا أعيش في ذكراها وأمجادها، كيف دخل العرب و الإسلام إلى هذه المنطقة من العالم؟
لقد بدأت الهجرات العربية - قبل الإسلام - باتجاه الشاطئ الأفريقي للبحر الأحمر في عهود عابرة، وهذه الهجرات تختلف عن الهجرات التي عرفها العالم.
ويتضح من عمق الهجرات، التأثير والتأثر الواضح، والترابط الوجداني، كاللغة والثقافة والسمات البشرية. وإن هذه الهجرات دخلت من موانئ عديدة.
وكمثال وليس للحصر:-
1. باب المندب.
2. سواكن.
3. دهلك.
4. مصوع ...الخ
إذا نظرنا في أسباب الهجرات، نراها كثيرة منها، سياسية ومنها اجتماعية بحتة، فالحروب والثورات هي أعمال سياسية، أما قسوة الظروف والبحث عن المعادن وغيرها، فهي اجتماعية واقتصادية.
ويعتقد بعض المؤرخين أن العنصر المعروف باسم كوش نسبة إلى (كوش بن حام بن سيدنا نوح عليه السلام) هو أول من سكن سواحل البحر الأحمر الغربية، ثم كان الانتقال من جنوب الجزيرة العربية، قبل اكثر من عشرة آلاف عام، ثم أتت الهجرة السبئية من الجنوب العربي، فقد تركت آثارها بشكل واضح، وإن قدوم القبائل السبئية والمعروفة اليوم باسم اليمن، كل ذلك تم عبر باب المندب وإن المكتشفات الأخيرة في المدن المندثرة، والمعابد وأماكن الاستراحة التي تمتد ما بين العقبة والبحر الأحمر، والاحتمال الكبير على حصول هذه الهجرات، قبل عشرة آلاف سنة.
ومن الثابت والواضح من المكتشفات الأثرية، أن النقوش الحجرية أعطت الدليل الأكيد على ان قبائل سبأ وحميّر عبرت البحر الأحمر وتوجهّت إلى مرتفعات أرتريا والحبشة ورأس هذه القبائل المهاجرة، من الجنوب العهربي، قبيلة يمنية تدعى الأجاعز، وأقامت في المرتفعات الأرترية الجنوبية، ومنها أتت وانتشرت اللغة الجزئية، وهي لغة سامية، مكتوبة ومعروفة، بين سكان الهضبة.
ثم أتت قبيلة حبشيات واستقّرت في الأراضي الواقعة إلى الجنوب، والتي تعرف اليوم بإقليم تجراي وهو مجاور لأرتريا، وبمرور الأيام والسنين أصبح هذا الأسم حبشة يطلق على البلاد كافة.
إذن كان الأحباش مدينين للعرب من ناحيتين: أعطوهم الأسم، وأعطوهم اللغة المكتوبة التي انارت حضارتهم وبها كتبوا تاريخهم.
فلولا العرب لما استطاعوا ان يدوّنوا معالم تراثهم وحروبهم. وإن اندماج المهاجرين العرب في تلك الحقبة والتي تمّت عبر مضيق باب المندب إلى هرر.
ويشير ابن خلدون إلى أن اعداداً كبيرة من عرب النوبة والسودان، وقبل ظهور الإسلام، ضمت بطوناً من حميّر، وإن ظاهرة هجرة العرب آنذاك إلى هنا، كانت للبحث عن المعيشة واستخراج الذهب والمعادن النفيسة، وإن قبيلة بلى اليمنية اخنلطت بالبجة أيام حكم البطالمة لمصر، وهذا يؤكد الصلة العربية القديمة في البحر الأحمر، وإن ما أشار إليه الرسول (محمد صلى الله عليه وسلم) بالهجرة إلى الحبشة عندما قال لهم: (إن في الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد) وهي أرض صدق. وكان من هؤلاء المهاجرين، المسلمون الأوائل عثمان بن عفان الخليفة وزوجته الأولى بنت الرسول (ص)، وبعدها تتابع المسلمون المهاجرون، ورست سفن هؤلاء المهاجرين الأوائل في بلدة معدر على الشاطئ الارتري.
وأفقت على صوت "قريش" يناديني: من تكلم يا أبا سعدة، "نفسي أسترجع جزءاً من تاريخ امتنا العظيم، أعود لأتمم رحلتي مع أصدقائي".
إذا كنت تريد الاغتسال فالماء موجود.
نعم.. كنت بحاجة إلى الاغتسال، فكأنني اعيش في ساونا دائماً، وبعد الحمام عدت إلى النوم ولم أستيقظ إلا بعد الظهر.
قم يا أبا سعدة الغداء جاهز..
الله لقد نمت ست ساعات متواصلة. وقد أحسست بالراحة وكان غدؤنا دسماً، وقد أهدانا أحد الرعيان خروفاً صغيراً ولك إكراماً لي عندما عرف أني، عربي وأسمي أحمد جلس إلى جانبي وخرافه تبحث عن العشب والماء، وقد ذهبت إلى النهر الجاف ولم نراها بعد ذلك.
أذهب يا عثمان وابحث عنها!
كان يريد ان يعرف كل شيء، ولماذا أنا هنا؟
وأجابني: كويّس - غنمي قريبة وليست هناك مشكلة، أريد معك الونسة يا أحمد، أتعرف فلسطين والصومال؟.
نعم أعرفهما..
العرب والمسلمون كثيرون.. لماذا لا نهجم على اليهود ونخلّص فلسطين، ونعطي الشعب أرضه..؟
على من نهجم يا عثمان؟
على اليهود يا أحمد.. أعداؤنا وأعداء الإسلام.
أين تعلمت يا عثمان؟
تقصد أين قرأت..
نعم هذا ما أقصده..
تعلمت القراءة والكتابة في الخلوة، ألهذه الدرجة اليهود أقوياء؟..
وحاولت أن أشرح له ما أفهمه عن الدول الكبيرة، وعن مساعدتها لإسرائيل، وكيف زرعوها بيننا، ثم نشر التفرقة بين العرب ولم يقتنع بهذا الكلام، بل يريد أكثر، وعاد وسألني؟
إن أولادنا يتعلمون ويقرأون عندكم ويحكون لنا حكايا وقصصاً من أعمال اليهود، ثم إن عمنا إبراهيم سلطان، كان يحكي لنا عن اليهود وفلسطين. أريد منك يا أبا سعدة أن تأخذ ولدي حتى يحارب معكم.
إن شاء الله يا عثمان.
ولم يقتنع بل تركني ومضى. وحين ناديته لم يرّد عليّ وكالعادة تحركنا بعد الظهر وبعد ساعات قليلة دخلنا إلى منطقة آر والتقينا بأول جنود من الجبهة، وبعد حديث قصير معهم، أخبرونا بأن التحرك في الليل ممنوع.
وقالوا لي: عليكم أن تبيتوا هذه الليلة عندنا وفي الصباح تتحركون. وعرفت بأنهم أرسلوا رسالة إلى مسؤول أمن المؤتمر يعلمونه بقدومي ومن بصحبتي، وجلست مبكّراً وأخذت أستمع بالراديو إلى المحطات العربية.
السعودية كان إرسالها واضحاً وكذلك صوت العرب الذي أسمعه باستمرار، والأخوة المناضلون كانوا يستمعون معي، بشوق وشغف، وخاصة أخبار المقاومة الفلسطينية.
إن هؤلاء الجنود البسطاء كانوا يشتمون إسرائيل وهيلا سيلاسي، ويخبرونني كيف أنه يتعاون مع إسرائيل وكيف أن قنابل اليهود تقتل الارتريين كما تقتل الفلسطينيين وغيرهم من العرب.
فيجب أن تتّحد كل الدول العربية المسلمة ضد إسرائيل وبعدها نتخلص من أثيوبيا وإسرائيل.
هكذا كان كلام الجنود الطيبين، ولقد سمعت هذا الكلام من المناضلين في كل أنحاء ارتريا.
وجاء الأمر إلى الأخوان بالتحرك السريع، وكان الأخوة كلهم بانتظار رفيق الثورة أحمد أبو سعدة كان هذا مضمون كتاب مسؤول الأمن عن المؤتمر.
الرفاق الجدد:
وو دّعني الدليل والأخوة وصاحب الجمل، ولم يبق معي سوى إدريس قريش أما عفشي فقد انتقل إلى جمل آخر وأصبحت مع رفاق جدد، وما هي إلا ساعات حتى سمعنا الأصوات الصادرة من مكان المؤتمر وعلى مقربة من المؤتمر جاء إثنان من الأخوة المقاتلية وقالا لي: أنت في ظل شجرة.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة