ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الخامسة
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
رحلة إلى بور سودان: بعد سبعة أيام، خرجت من المستشفى، وتولى الأخ إدريس قريش دفع النفقات
وكانت عبارة عن مائتي جنيه سوداني، كانت هذه النقود معدّة لشراء مواد غذائية، وغيرها استعداداً للرحلة إلى ارتريا.
وتم الاستعداد كاملاً للسفر، باتجاه كسلا، ولكن في الدقائق الأخيرة، حدث تغيير.
فبدلا عن كسلا إلى بور سودان. وركبنا القطار وإلى رحلة الألف ميل؟.
ليلتان وثلاثة نهارات، استمرت رحلتنا من الخرطوم إلى بور سودان. وبقينا في منزل أحد المواطنين، هنا مدة ثلاث ليال، دون أن نخرج من الدار، خوفاً من جواسيس الحبشة، حيث نشطوا في تلك الفترة.
وتحركنا من بور سودان إلى سواكن ومنها إلى توكر وقد استغرق الطريق باللوري من بور سودان إلى توكر يوماً واحداً.
كنت أجلس أنا وقريش جانب السائق، أما بقية الركاب فكانوا في أرض اللوري. ونمت في توكر مدة يومين، لم أخرج إلا في الليل، وكانت الليلة الثالثة، واتجهنا نحو ارتريا إلى آر مكان المؤتمر الوطني الأول.
كنا خمسة أشخاص: أنا و إدريس قريش وثلاثة من المناضلين الأشدّاء للحماية.
وقد كنت ذا حظ سعيد لأن الوفود كافة الرسمية والصحفية دخل رجالها من مدينة كسلا واستغرق الطريق من كسلا إلى مكان المؤتمر ستة عشر يوماً: مشاها أعضاء الوفود على الأقدام وسط الأحراش والجبال الوعرة.
وكانوا يمتطون الجمال في أحسن الأحوال، ومن بين هذه الوفود، كان هناك وفد فلسطيني من منظمة التحرير الفلسطينية، وصحفيون إيطاليون، وفرنسيون، ووفد من جبهة تجرير ظفار ثم وفدان رسميان من سورية و الصومال.
ومعظم الوفود عاد أعضاؤها من أول الطريق لصعوبة الاستمرار في السفر، وقد وصل الوفد السوري، والوفد الصومالي، وبعض المصورين.
أما أنا فقد قطعت المسافة من قرية توكر السودانية إلى آر في خمسة أيام. والسبب أني دخلت من قرية توكر وليس من كسلا.
وحين خرجنا من توكر باتجاه آر كان الليل في بدايته، وكما يقولون فإن الليل ستّار. وبعد خمس ساعات من المشي، وعند هضبة عالية، وجدنا من كان في انتظارنا، جملاً وسيدة كما يسمّوه هنا، وبعد السلام والكلام - ولكن بلهجة لم أفهمها - وتساءلتُ في نفسي، لماذا لا يتكلم سيد الجمل باللغة العربية. إن ملامحه عربية واسمه سليمان. وفي الصباح سمعته يتلو آيات قرآنية. إذن لماذا لا يتكلم العربية؟
وجائني يقول: السلام عليكم.
وعليكم السلام.
روقا (ومعناها تمام).
كيف حالك؟
وقد علمت أن صديقنا سليمان، هذا ينتظرنا هنا منذ عشرة أيام، وتساءلت (كيف استطاع هذا الرجل، البقاء هنا مدة عشرة أيام لوحده، وهو لا يحمل من السلاح سوى السيف، وبعض الماء وقليلاً من الطعام)؟
إن من الخصائص الهامة للشعب الارتري، والتي تعلمتها منه هي الصبر والإخوة الارتريون جميعاً يقولون عليك بالصبر، ونظرت حولي فلم أر شيئاً، لأن الظلام كان حالكاً! ما عدا بقعة صغيرة مضاءة، هي لهيب النار التي أشعلها صاحبنا سليمان، من أجل العشاء، وأي عشاء هذا!
إنه كأس الشاي، وهذا وحده هو العشاء. وجلست أمامه وهو يقلّب النار، وأنا أنظر إلى وجهه، وإلى سيفه المطروح إلى جانبه وسألته:
كيف حالك يا سليمان؟
روقه.
ونظرت طويلاً إلى شعره وقامته، وحركته السريعة. وعرفت أنه من قبيلة البجة. كان شعره طويلاً وملفوفاً، وعيناه مكحلتان، أما لونه الأسمر الغامق، فذكرني بعنترة بن شداد. ويذكر اليعقوبي أن عاصمة البجة هي مدينة هجر وهذه تقع في محافظة الساحل الارترية، وعلى مقربة من الحدود السودانية، ولا زالت تعرف بهذا الاسم حتى الآن.
وإذا أردنا الحديث، عن قبائل البجة، فهو طويل. إلا أننا نستطيع القول باختصار، أن هذه القبائل موزعة، في أرتريا بين خور بركة وساحل البحر الأحمر، ومن السواحل الجنوبية حتى جبل رورا بقلة والقريب من نقفة عاصمة إقليم الساحل الارتري، والبجة ينقسمون إلى عشر قبائل هي كالتالي:-
(البشارين - الامارار - الارتيقة - الاشراف - الكمبلاب - الهدندوا - المهيلنان - الحباب - الحلنفة - البني عامر).
وقد ذكر ابن حوقل قبل ألف عام أن هناك قبائل لا تزال تحتفظ بأسمائها الأساسية ألا وهي:-
الرقيات - عيدمن - منج وإن البجة وهم موجودون أيضاً شرق السودان، أي في الحدود، وتعدادهم يصل إلى المليون شخص، ومعظمهم يعيش على رعي الماشية وقد برز منهم التيار الانفصالي ونادى باستقلال ذاتي ومن ثم إلى الاستقلال وهذه نزعة استعمارية، والبيجاويون معروفون عبر التاريخ، بأنهم شعوب محاربة، وقد خاضت هذه القبائل حروباً طاحنة ضد الفراعنة والبطالسة والرومان وملوك أكسوم.
وفي عام 272 لقي الرومان، متاعب شديدة في مصر لأن ملكة تدمر زنوبيا، زادت في نشاطها والتصدي للرومان، حيث استطاعت أن تعقد تحالفات، مع الكثير من الفئات المتذمرة المصرية.
ثم اتفقت مع البجة في جنوب شرق مصر، وذلك على فتح جبهة أخرى ضد الرومان، ونتيجة لتحالف البجة مع الملكة زنوبيا قام البجة، بهجوم عنيف على الرومان، وتقدموا داخل الحدود المصرية، إلا أن الحلفاء التدمريين أصيبوا بهزيمة، وخرجوا من المعركة.
عندها عاد الجيش الروماني إلى الحدود الجنوبية وصد الهجوم البيجاوي، الذي وصل إلى مقربة من سوهاج، وقد وقع بعض البيجاويين وغيرهم، أسرى بيد، الرومان وإن بعض هؤلاء الأسرى كانوا من العرب.
وفي عام 429 ميلادية، عبرت الجيوش البيجاوية الصحراء مندفعة نحو أسوان وعبروا النيل، حتى وصلوا إلى واحة تدعى الخارجة، وكانت معقلاً رومانياً محصناً، فقتلوا الحامية التي كانت هناك وأسروا سكان الواحة.
اشتد هجوم البجة على ريف مصر، في أوائل القرن الثالث الهجري، عندها رفع والي أسوان إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، كتاباً بما يحدث.
وأمر الخليفة بإخراج، جيش لمقاتلة البجة، فكانت حروب مشهورة وطاحنة، ثم أوقفت الحرب وتم الاتفاق على هدنة وعقد معاهدة مع مكنون بن عبدالعزيز، ملك أو عظيم البجة، كما يسمونه واستتب السلم: وعلى فكرة فإن البجة كلهم مسلمون.
وكما أسلفت كنت إلى جانب سليمان، وقد استسلمت للنوم مكرهاً على الأرض، وصحوت على أزيز النار، والشرر يتطاير منها، كان الأخوة الحرس قد وضعوا إبريق الشاي على النار، وفي الجانب الآخر كان صاحبنا الدليل، يعطي الحارس الآخر واسمه عبدالله، الطحين ليصنع الخبز، وكانت الشمس لمّا تشرق بعد، إلا أن الخيوط الأولى للصباح بدأت تظهر، وأصوات العصافير وطيرانها بدأ يبشّر باليوم الجديد، على الحدود السودانية الارترية، وتململت يمنة ويسرة، وسحبت الشدّة من تحت رأسي، وكانت هذه الوسادة الوحيدة، في أرتريا للمقاتلين. أما الشدّة فهي الصندل كما نسميها في بلادنا.
صباح الخير يا أبو سعدة، صباح الخير يا عبدالله، هل تريد أن تغتسل؟
لا.. أريد أن أنظف أسناني فقط.
وبدأت ترتفع الشمس والشاي أصبح جاهزاً. وأخذ الأخوان يشربون الشاي، ويأكلون الخبز - وأردت أن أعطيهم شيئاً من (الجبن) الذي كان معي، فمنعني إدريس من ذلك وقال لي: كل (الجبنة) أنت: هكذا نعيش نحن في الثورة، وهذا في أحسن الأحوال شاي مع الحبز.
وجاء صاحبنا الدليل، وجلس في مواجهتي، وجهاً لوجه، وحاولت أن أقرأ ما في داخله، وفضلت السؤال:
كيف حالك يا سليمان؟
فابتسم. وخيل إليّ أنه، يسأل نفسه (من أين هذا الرجل الأبيض؟ لماذا هو هنا؟)
وأجاب سليمان: روقه.
وأنت كيف؟
ما بال صاحبنا ينظر إليّ هكذا؟
وأجابني قريش وعلى الفور:
إنه يريد أن يأكلك...
وضحكنا... ضحكنا كثيراً. وضحك سليمان بقوة، وهو يهز رأسه 9 خاصة بعد أن ترجم له أحد الحراس. وهرب سليمان وهو يضحك.
وعلى فكرة إن الأخ إدريس قريش صاحب نكتة، وإن اسمه الحقيقي هو إدريس إبراهيم، أما كلمة قريش فقد جاءت معه، من مكان الخلوة حيث كان يتعلم القرآن الكريم.
والخلوة تعني هنا في بلادنا المكتب، ففي يوم من الأيام كان إدريس، يقرأ القرآن فوقف كثيراً، عند كلمة قريش وردّدها مرات كثيرة قريش... قريش... قريش، إدريس رفيقي هذا له أخ يدعى شكيني، وقد استشهد على يد الجبهة الشعبية، عندما كان اسمها (قوات التحرير الشعبية).
كان (محمود إبراهيم) قد أتبع دورة عسكرية في سورية وكان عضواً في القيادة العامة وعضواً في المجلس الثوري.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة