حرب الجياع - الحلقة أربعون والأخيرة
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
وتبنت منظمة الوحدة الإفريقية المقترحات التي طرحتها واشنطن للحل السلمي
بين البلدين إثر مشاركة سوزان رايس مسؤولة الملف الإفريقي بوزارة الخارجية الأمريكية في القمة الإفريقية التي عقدت في أوجادوجو.
ثم قام وفد ثنائي أمريكي وبروندي بعدة جولات بين أديس أبابا واسمرا وفي الجولة الثالثة حدثت مواجهات بين الرئيس الارتري أسياس أفورقي والرئيس البورندي وعلى أثر هذه المواجهات انسحبت الأخيرة من المبادرة الأمريكية الرواندية المشتركة.
ودخل أفورقي في اصطدام آخر مع الرئيس الجيبوتي السابق حسن جوليد في تشرين الثاني نوفمبر 1998 في الاجتماع الخاص الذي نظمته المنظمة الإفريقية لسماع وجهة نظر الطرفين إذ أتهم أفورقي جوليد بالعمالة لاثيوبيا، ورفض الحديث بحضور الرئيس الجيبوتي السابق.
الرئيس الارتري إسياس أفورقي اتهم جيبوتي الدولة العضو في اللجنة الخماسية المخصصة لإيجاد حل للأزمة بين اثيوبيا وارتريا بالتحالف مع أديس أبابا والسماح لاثيوبيا بإدخال الآليات العسكرية والأسلحة الثقيلة عبر الموانئ الجيبوتية، واعتبر جيبوتي شريكاً في الأزمة مطالباً باستبعاد جيبوتي من اللجنة الوساطية الخماسية.
وسارع الرئيس الجيبوتي السابق جوليد بنفي الاتهامات الاريترية وإعلان انسحاب بلاده من اللجنة الخماسية وقطع العلاقات الدبلوماسية بين بلاده واريتريا انحصرت اللجنة الخماسية بعد انسحاب الرئيس البورندي والجيبوتي منها أما الرئيس الزمبابوي روبرت موكابي فقد أبدي ميولاً نحو ارتريا، بعكس رئيس دولة بوركنافاسو الذي أبدى شبه تأكيد للجانب الاثيوبي وتاهت المنظمة الإفريقية التي اتهمتها ارتريا بالانحياز إلى جانب اثيوبيا.
بعد ثلاثة أشهر من الجهود حققت اثيوبيا نصراً عسكرياً كبيراً على ارتريا وتمكنت من استرداد المنطقة المتنازع عليها في شباط فبراير من عام 1999 في المرحلة الثانية من المواجهات الدامية بين الطرفين.
أمسكت اثيوبيا بزمام المبادرة العسكرية وبالرغم من ذلك حاولت ارتريا عبر أجهزتها الدعائية إيهام المواطنين الارتريين والمجتمع الدولي بأنها ما تزال متمسكة بزمام المبادرة العسكرية مجددة رفضها الانسحاب من المناطق التي تسيطر عليها والقبول بالمقترحات السلمية التي طرحتها المنظمة الإفريقية والانسحاب من المناطق التي استولت عليها.
وفي مارس من عام 1999 شهدت جبهات القتال معارك محدودة كانت جميعها لصالح اثيوبيا التي تحولت من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم، وسيطرت طائراتها على سماء المعركة، وألحقت أضراراً فادحة كبيرة على خطوط الإمدادات الارترية.
وفقدت جميع الآمال لحل النزاع سياسياً وسلمياً وجميع المؤشرات كانت تشير إلى الحسم العسكري للأزمة ولكن انعقاد قمة الجزائر في يونيو من عام 1999 كان بمثابة قارب نجاة بالنسبة لارتريا.
اثيوبيا بعد أن عززت وضعها السياسي إثر الانتصارات العسكرية طلبت من منظمة الوحدة الإفريقية بإجراء تعديلات على المقترحات الإفريقية السلمية بحيث تتناسب مع المعطيات الجديدة. وقالت أن المبادرة الإفريقية كانت قائمة على أساس انسحاب القوات الارترية من الأراضي الاثيوبية وإن اثيوبيا حققت ذلك عبر آليتها العسكرية بعد أن أكدت ارتريا مراراً وتكراراً عدم استعدادها للانسحاب.
طالبت اثيوبيا بإضافة أجندة جديدة وهذا ما رفضته ارتريا حتى اللحظة الأخيرة، وتخلفت عن حضور الاجتماع المخصص لسماع تقرير اللجنة الخاصة للرد على المبادرة الإفريقية.
وفي اللحظات الأخيرة من قمة الجزائر فاجأ أفورقي الجميع وأعلن قبول بلاده بالتعديلات الجديدة التي أجرته المنظمة الإفريقية على مقترحات الحل.
وفاجأ رئيس الوزراء الاثيوبي أيضاً الجميع حين رفض إعطاء موافقته على المقترحات الإفريقية الجديدة قبل مصادقة البرلمان الاثيوبي على وثيقة الحل الإفريقي باعتبار أن دولته دولة مؤسسات ديمقراطية وأن القرار الأخير هو للبرلمان.
ومن الناحية العملية ألغيت اللجنة الإفريقية الخماسية. وتولى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مهام الوساطة بين أديس أبابا وأسمرا بالتنسيق مع الولايات المتحدة وإيطاليا.
ووضع الرئيس بوتفليقة أسساً لمشروع السلام الذي مكن كلا البلدين من توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في يونيو من عام 2000. وجاءت هذه الاتفاقية إثر مواجهات عنيفة بين البلدين في شهري أبريل ومايو من العام نفسه والتي حسمت المعركة لصالح اثيوبيا.
شهدت جميع الجبهات الواقعة على طول الحدود الاثيوبية الارترية والبالغ طولها ألف كيلو متراً لأول مرة حروباً عنيفة في آن واحد في المرحلة الثالثة من المواجهات، وتمكنت فيها القوات الاثيوبية من الوصول إلى منطقة بارنتو الارترية وفصلت المرتفعات الارترية عن منخفضاتها وأوقعت خسائر فادحة بارتريا وحطمت جميع دفاعاتها في زالامبسا وعليتانا وتقدمت نحو مدينة عدي قيح الارترية في طريقها نحو العاصمة أسمرا، وحاصرت مدينة عصب الاستراتيجية.
وكانت كل الدلائل والمؤشرات تشير إلى أن اثيوبيا تسعى لإسقاط النظام في أسمرا واستبداله بنظام آخر وهذا ما أكدته البيانات الرسمية الصادرة من أسمرا والتي اتهمت فيها اثيوبيا أنها تسعى لإسقاط النظام واستبداله بنظام آخر.
وفي غمرة هذه الأحداث والمواجهات قام الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بجولات مكوكية بين أديس أبابا واسمرا ومكنت جهود بوتفليقة من إعطاء ارتريا مخرجاً بتهيئة الظروف التي مكنت أسمرا من إعلانها بأنها سحبت قواتها من المناطق المتنازع عليها تلبية لنداءات الرئيس الجزائري من جبهتي بوري و زلامباسا.
واعترفت الحكومة الارترية أنها سحبت قواتها نتيجة ما أسمته باستخدام اثيوبيا الأمواج البشرية.
وفي الثامن عشر من مايو من نفس العام أجرى وزير الخارجية الاثيوبية سيوم مسفن مع وزير الخارجية الارترية السابق هيلي ولد تنسائي مفاوضات غير مباشرة.
وفي 18 من يونيو وقع وزير خارجية البلدين على اتفاق لوقف إطلاق النار إثر تدخل واشنطن ومجلس الأمن الدولي، وممارساتهما الضغوطات اللازمة على البلدين.
وهُزمت ارتريا عسكرياً وسياسياً عندما قبلت بتوقيع الاتفاقية التي تنص على جعل الحدود التي هي بطول 1000كم وعمق 25كم منزوعة السلاح. وقزمت تبعيات الحرب الدور الارتري في المنطقة.
إن قبول الطرفين بتوقيع اتفاقية نهائية تضع حداً للحرب بينهما جاءت إثر جولات عديدة وخلافات حادة حول تطبيق الاتفاقية. وكانت أكثر الخلافات حدة هي عملية ترسيم الحدود بينهما. فبينما كانت تطالب اثيوبيا بإيجاد حل للخلافات الحدودية بينهما عبر المحكمة الدولية كانت ارتريا تصر أن يتم إنهاء الخلاف بينهما عبر خبراء الخرائط التابعين للأمم المتحدة وترى أن حل الخلاف عبر التحكيم يطيل المدة وربما إلى سنوات.
وكذلك شهدت المسائل المتعلقة بتحديد المعتدي والتعويضات اختلافات وصفت بالحادة. ولكن تم الاتفاق في نهاية المطاف على تكوين ثلاثة لجان رئيسية تتكون الأولى من خمسة أشخاص لتحديد الجهة المعتدية، والثانية لإجراء تحقيقات شاملة للملابسات، واللجنة الثالثة تتخصص بإطلاق أسرى الحرب والمحتجزين والمعتقلين في البلدين. ونتيجة لهذه الاتفاقية شهدت العاصمتين أديس أبابا واسمرا ردود فعل رسمية وحزبية إذ وجه رئيس الوزراء الاثيوبي كلمة للشعب الاثيوبي عبر وسائل الإعلام الرسمية المقروءة والمرئية والمسموعة بمناسبة إعلان توقيع اتفاق سلام نهائي بين اثيوبيا وارتريا. واتسمت كلمته بالحدة والعنف وأكد أن بلاده ستستخدم القوة العسكرية لتأديب جارتها ارتريا إذا ما خرقت اتفاق السلام الذي سيوقع اليوم في الجزائر.
وركز في كلمته على آلاف الأسرى والمعتقلين الاثيوبيين في ارتريا، قائلاً أن عدم إطلاق الحكومة الارترية هؤلاء الأسرى وعدم السماح لهم بالعودة إلى وطنهم يعتبر بمثابة خرقاً للاتفاق الذي سيوقع.. ووصف سياسة الحكومة الارترية بسياسة الصعاليك وبسياسة بيوت الحانات.
وفي ارتريا قال وزير الخارجية الارتري علي سيد عبد الله إن بلاده ومنذ وقت مبكر اختارت السلام خياراً استراتيجياً لبلاده. إلا أنه شكك في قبول اثيوبيا خطة السلام الشاملة رغبة منها في السلام، وقد قبلت اثيوبيا بهذه الخطة بعد ضغوطات سياسية واقتصادية كبيرة.
وبتوقيع الاتفاقية بين أفورقي وزيناوي تكون الحرب الاثيوبية الارترية قد انتهت، إلا أن آثارها السلبية التي تتمثل في الركود الاقتصادي وتوقف الاستثمارات وانخفاض أسعار العملات المحلية مقابل العملات الصعبة والتي ستستمر على الأقل لنصف عقد من الزمان.
وهنالك تساؤلات يثيرها الشارع الارتري والاثيوبي عن أسباب اندلاع الحرب ويتسائل الجميع لماذا الحرب إذا كانت هذه هي النتيجة النهاية.. وكانت أكثر من جهة تتوقع أن تكون نهاية الأزمة سقوط أحد النظامين وهذا ما لم يحدث وكانت المعارضة الاثيوبية والارترية تتعجل حدوث فجوة سياسية داخلية لتنقض على السلطة.
وبتوقيع الاتفاق انتهت حرب الحديد والنار ولكن التغيير في البلدين لم يحصل.
فالنظام الارتري ينفي وبشدة وجود أي معارضة، لكن الحقيقة غير ذلك فالمعارضة الارترية الوطنية موجودة وهي متمثلة بالتحالف الوطني الذي يعمل لإسقاط النظام وإحلال نظام وطني ديمقراطي .
الرئيس الارتري أسياس أفورقي درب مجموعات اثيوبية معارضة ظهرت في بعض المناطق الغربية من ارتريا. وربما تجعل هذه المجموعة قوات حفظ السلام هدفاً عسكريا ً لها لإسماع صوتها.
ويمكن أن تتحول القوات الاثيوبية والارترية إلى قوة لحماية القوات الدولية المنتشرة على حدود البلدين في عمق 25 كم داخل الأراضي الارترية.
ويرى البعض أن التحركات العسكرية التي قامت بها ارتريا مؤخراً بالقرب من الحدود السودانية هدفها القضاء على المعارضة الارترية حتى تضمن استمرارية نظامها ؟!
لقد وقع الاتفاق بين زيناوي و أفورقي بعد حرب مريرة دفع فيها البلدان الآلاف المؤلفة من البشر في حرب فقد فيها الإنسان آدميته.. إذ وظفت الدولتان كل إمكانياتهما بالرغم من المجاعة والجفاف وعدم هطول الأمطار في المنطقة لثلاث سنوات متتاليات.
واتجهت كل العيون إلى الجزائر لتشاهد مراسيم توقيع الاتفاق وتشاهد تصافح زعيمي حرب الجياع؟ زيناوي وأفورقي.
الحقيقــة المـرة:
هي الحقيقة الوحيدة والأكيدة،
إن الحقيقة المرة والوحيدة التي يمكن أن يخرج منها أي إنسان عاقل ومنطقي. إن النظام الارتري هو الذي سعى لإشعال هذه الحرب والتي سميت بمسميات كثيرة إلا أن العنوان الصحيح لها أن تسمى هذه الحرب حرب الجياع.
إن النظام الارتري ورئيسه السيد أسياس أفورقي هم الذين يتحملون تبعات الحرب سياسياً واقتصادياً. إن منطقة بادمي التي تحدثت عنها قليلاً وقليلاً جداً قد رويت بدماء الآلاف المؤلفة من الجنود والمدنيين الاثيوبيين والارتريين.
حرب مدمرة أكلت الأخضر واليابس، حرب فرضت من قبل الجبهة الشعبية ورئيسها على البلدين الجارين. إنها أسوء حرب شهدتها اثيوبيا وارتريا بل منطقة القرن الإفريقي.