حرب الجياع - الحلقة الثالثة والثلاثون
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
بـــداية الحرب:
انهار الحلف الكبير في منطقة القرن الإفريقي، حلف الشعبيتين الحاكمتين
في كل من اثيوبيا وارتريا وذلك بنشوب الصراع وتحوله إلى حرب دامية بيد البلدين. أو بالأصح بين التوأم الواحد؟
تعتبر الحرب الاثيوبية ـ الارترية، أو الأصح أن نسميها حرب الجياع، من أكثر المعارك التي شهدتها إفريقيا ضراوة وبالتحديد منطقة القرن الإفريقي فهي الأكثر جوعاً ودموية التي شهدتها إفريقيا وخاصة في النظام التوأم، وكانت شرارة الانطلاق هي المثلث المتنازع عليه، ومنذ تلك المواجهات شهدت حدودهما المشتركة مواجهات متقطعة لم تستمر سوى أيام انتهت بسيطرة القوات الاثيوبية على منطقة بادمي، وانتقلت المواجهات لتشمل العمق الداخلي الارتري، حيث بدأت أعمدة الدخان تتصاعد من مطار أسمرا والمناطق التي حوله، وبدأ المواطنين يهربون وسط صراخ الأطفال وعويل النساء وهروب الرجال والشيوخ، وأزيز الطائرات يشق عنان السماء. بدأت الطائرات الاثيوبية المقاتلة القاصفة بدك مطار أسمرا وبدأت الانفجارات تتوالى وسحب الدخان تتصاعد من عدة أمكنة من مطار العاصمة أسمرا وحولها.
إن انفجار الصراع بين البلدين وتحوله إلى حرب مدمرة ثم وصلت إلى عمق ارتريا، هذا التصعيد الخطير سببه مثلث صخري حدودي لا تتجاوز مساحته 400 كم 2 من أجل هذا المثلث تفتح ثلاث جبهات:
أولاً: جبهة شمال غرب اثيوبيا: والتي احتلتها القوات الارترية في 12 أيار من عام 1998. حسب الادعاء الاثيوبي.
ثانياً: جبهة زالامباسا: وهي تقع شمال منطقة حقلي.
ثالثاً: جبهة بوري: ومنطقة بوري تقع على بعد 75 كيلو متر جنوب غرب عصب هذه الجبهات الثلاث تفتح على بعضها البعض من أجل 400 كم، الموضوع ليس بهذه السهولة والبساطة؟. إن المعارك الشرسة حصدت في ظرف أسبوع واحد آلاف القتلى من كلا الجانبين، فكل من أديس أبابا وأسمرا ادعى أنه ألحق خسائر فادحة بالطرف الآخر وحملت بياناتهما أرقاماً تعتبر بكل المقاييس خيالية، فأسمرا اضطرت لتجنيد مواطنيها من كلا الجنسين وإن الرجال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 1760 سنة تم سوقهم ودمجهم بالقوات النظامية دون تدريب كاف لهم، كما أن أفراد الأمن والشرطة الارترية في الأقاليم الستة المكونة لارتريا تم إعدادهم وتجهيزهم كقوة احتياطية لمساعدة الجيش الارتري، فالنظام الحاكم انتهج سياسة الكفاح المسلح الذي استخدمه أثناء فترة التحرير، أما الآن فالموقف أصبح لا يتوافق مع هذا النهج فاعتمد نهج وسياسة الشعب المسلح لكن ليس الشعب كله إنما الفئات الشعبية الموالية له فقط، فالإعلام الارتري لم يكن على مستوى المعركة حيث المبالغة كبيرة ومغلوطة بشكل يدعو للذهول أمام ما كان ينشر من تصريحات المسؤولين.
فالإعلام الارتري وصف الحرب الدائرة بين البلدين بحرب وجود وذلك خلال التعبئة الواسعة التي تكشف استعداد ارتريا لحرب استنزاف طويلة المدى. فالمصادر المتنوعة أكدت أن اثيوبيا قامت بتسجيل عدد كبير من المتطوعين فاق عددهم 200 ألف نسمة وذلك من كافة الولايات والقوميات الاثيوبية خلال شهر واحد. حيث اعتبر المواطن الاثيوبي أن الحرب هي حرب كل القوميات وليس حرب قومية التجراي وبذلك يكون الإعلام النفسي قد حقق دوراً كبيراً وبارزاً في بلد يأكل فيه الغني الفقير، والفقير يأكل الأكثر فقراً.
أما أهالي تجراي وحكامها فإنهم يعتبرون أنفسهم مستهدفين من قبل ارتريا باعتبارهم الواجهة والمقدمة للحرب وكونهم القاعدة التي يعتمد عليها نظام أديس أبابا. وقد بات واضحاً أن أديس أبابا تراهن على تحمل تبعيات المواجهة بكافة أشكالها وطرقها، وأنها قادرة على امتصاص جميع الخسائر البشرية والمادية.
فالاثيوبيون يقولون أن استمرار الحرب سيجعل انهيار النظام الحاكم في ارتريا أمراً لا جدال فيه. فتأثيرات الحرب بدأت تظهر جلياً أثارها على عملية التنمية في كلا البلدين وإن كانت درجات التفاوت بينهما تختلف فزاد سعر الدولار في البلدين بنسبة عالية جداً. ويبدو أن احتياجات البلدين من العملة الصعبة في تناقص شديد وخاصة إن الشركات التابعة للنظامين الحاكمين التي كانت تقوم بتغطية المجهود الحربي استنفدت مخزونها الاستراتيجي من العملة الصعبة إلا أن وضع أديس أبابا أفضل حالاً من أسمرا فإنها رغم ضغوط الدول المانحة بقطع المساعدات المادية عن اثيوبيا، إلا أن هذه الدول تبقى المصدر الأول للعملة الصعبة وإن صادرات اثيوبيا من المواد الغذائية كاللحوم والمواشي تبقى مصدراً لا بأس به.
أما ارتريا التي كان دخلها القومي يعتمد على العوائد التي تأخذها من استخدام اثيوبيا موانئها، فإن وضعها الاقتصادي صار حرجاً للغاية وهي تعتمد على الدول الصديقة كإسرائيل كما أنها تعتمد على جالياتها في الخارج كمصدر للعملة الصعبة في شراء احتياجاتها العسكرية وتقدر نفقات الحرب الدائرة يومياً بـ 500 ألف دولار حيث يبلغ تعداد الجنود الارتريين بعد التجنيد الاجباري 260 ألف ولا تتحمل الخزينة الارترية إلا رواتب 60 ستون ألف منهم أما بقية رواتب الجنود فهناك من يقوم بتمويلها؟.
أما القوات الاثيوبية والتي يقدر عدد قواتها بـ 400 أربعمائة ألف جندي وجميعهم جنود نظاميون ويتقاضون مرتبات تتراوح ما بين الـ 60 ستون إلى 400 أربعمائة دولار شهرياً.
فالجانبان ملتزمان ولغاية الآن بدفع رواتب الموظفين العاملين في دواوين ومكاتب الدولة المختلفة.
الخسائر البشرية في كلا البلدين:
إن الخسائر البشرية في اثيوبيا مهما بلغت تعتبر نقطة في بحر إذ يبلغ سكانها 60 مليون نسمة.
أما تأثيرات الحرب على الجانب الارتري فإنها تعتبر فادحة بالمقارنة مع اثيوبيا. وإن أي خسائر بشرية أو مادية، حتى لو كانت طفيفة تظهر بوضوح وذلك لقلة سكانها الذين لا يتجاوز عددهم عن ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة. وأكثر من الثلث يعيشون ما بين لاجئين في السودان والدول العربية والبقية في أوروبا وأمريكا.
القرب الجغرافي:
إن خمسة أقاليم ارترية من مجموع ستة أقاليم تتأثر بصورة مباشرة بالحرب الدائرة لأنها جميعها تقع على طول الحدود مع اثيوبيا فضلاً عن كون جميع الارتريين في الداخل يعيشون ويحسون بمعاناة الحرب. وأي أخبار عن المواجهات سلباً كانت أو إيجاباً تنتقل إلى جميع أنحاء ارتريا بسرعة البرق حيث أن أبعد نقطة في ارتريا عن مناطق الحرب لا تبعد أكثر من 120 مائة وعشرون كم.
إن الحكومة الارترية تنفي تأثر اقتصادها بالحرب، والحقيقة أن الحرب كادت أن تهد اقتصادها تماماً. والتأثير على جميع القطاعات بات واضحاً وربما يتضح أكثر بعد انتهاء الحرب لقد ألحقت الحرب أضراراً كبيرة على البنية التحتية والاقتصادية لارتريا.
إن حرب الجياع هذه أخطأت أهدافها، وشعب البلدين الجائعين يدفع ثمنها الغالي. فهل من المعقول أن حرب الجياع هذه تدور على مثلث صخري لا تتجاوز ساحته 400 كم 2 ؟ السبب معروف وواضح ألا وهو قيام دولة "تجراي تجرينيا" ومن سيكون رئيسها.
إن المعارك التي جرت في جبهات القتال استدعت تدخلاً دولياً ظاهرياً، وأنا لا أقصد هنا تدخل بعض الدول الإفريقية وإنما التدخل الأمريكي الإسرائيلي لهذه الحرب، فالأمريكان وضعوا خطة تبلورت في أربع نقاط وهي كالآتي:-
النقطة الأولى: انسحاب القوات الارترية من المناطق الاثيوبية التي احتلتها.
النقطة الثانية: نزع السلاح من جانبي الحدود: الارترية ـ الاثيوبية.
النقطة الثالثة: إجراء مفاوضات بين الدولتين لإيجاد حل سلمي.
النقطة الرابعة: ترسيم جديد لحدود الدولتين، وهذه النقاط اشتركت فيهم دولة راوندا.
إذن أصبحت الخطة راوندية الشكل، أمريكية المضمون، لكن هذه الخطة لم تلق التأييد الكامل من منظمة الوحدة الإفريقية. تصاعد القتال ومضت عليه أسابيع وضراوة النار تزداد، هنا انبرت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية سوزان رايس وأخذت على عاتقها أن تكون وسيطة لنزع فتيل الحرب المشتعلة بين الدولتين.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة